إعلان

تعليم مختلف تهبه التكنولوجيا

د. عمار علي حسن

تعليم مختلف تهبه التكنولوجيا

د. عمار علي حسن
09:01 م الأربعاء 24 أكتوبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم ينج أي مجتمع من تأثير الصناعة والتطور التقني، فالموجودات المادية طالما وضعت بصمتها على الأفكار والقيم والمعتقدات وأنماط الحياة. فاختراع المطبعة ساهم في تعميق الفردية، فقبلها كان جمع كبير يلتقي في مكان لقراءة كتاب منسوخ، بل إن ما هو أبسط من اختراعات وابتكارات وتطورات كان له أثره على مسار العيش، إذ أدى التوصل إلى الساندويتش إلى إزكاء الفردية أيضا، بعد تراجع أيام مائدة الطعام التي تلتقي حولها الأسر والعائلات، وأدى طحن القهوة وانتشار المقاهي في أوروبا إلى توافر مكان يتبادل فيه الناس أطراف الحديث عن أحوالهم العامة، فكانت أحد المسارب إلى الديمقراطية.

قبل هذا وفي ركابه ومعه وبعده تعددت النظريات واختلفت بين الماركسية التي ترى أن الموجودات المادية تشكل "بنية تحتية" هي التي تنتج "بنية فوقية" متمثلة في القيم والأفكار، وبين تصور عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي رأى أن البروتستانتية بجوانبها الروحية والمعنوية أثرت على الرأسمالية الغربية، أو تلك الرؤية التي تتحدث عن قوة صلبة وناعمة تؤثر كل منهما في الأخرى، وتبدو التكنولوجيا عابرة لهما. وفي كل الأحوال فإن استثمار المعرفة لا بد أن ينتج شيئا ما، وأمرا ما، وقيمة ما، ولا بد للمنتج من مستهلك حتى لو كان استهلاكا معرفيا، فالتكنولوجيا لم توجد للفراغ، ولا تعمل في فراغ، إنما للإنسان، تجرب فيه، وتجرب به، وتجرب معه، وتجرب له.

ولا تنفصل التكنولوجيا عن الأيديولوجيا أو الفلسفة التي تقف وراء مختلف الاختراعات، ومنها فكرة مواجهة الطبيعة والانتصار عليها، أو إيجاد الإنسان الجبار "السوبر مان" حسبما رآه الفيلسوف الألماني فريدرك نيتشة، أو نزعة الهيمنة والاستعمار التي تتبناها بعض الدول القوية عسكريا. كما أن التكنولوجيا في إنتاجها مربوطة بصراع أو تنافس معين بين المجتمعات الإنسانية. فالدول المتقدمة صناعيا تعوق الدول النامية والمتخلفة حتى لا تمضي بخطى واثقة على درب التصنيع وامتلاك التقنيات الحديثة، بل إنها تسعى إلى استنزاف عقولها أو دفع أدمغة النابهين من أبنائها إلى الهجرة، وتحرص في الوقت نفسه على أن يكون نقل التكنولوجيا إلى العالم الثالث على هيئة "سلعة" وليست "معرفة"، ويساعدها في هذا وكلاؤها من القائمين على فروع الشركات متعددة الجنسيات.

ورغم أن كثيرا من الدول العربية تتمتع بمستوى لا بأس به من توظيف التكنولوجيا في الحياة على مستوى الأشخاص وشركات الأعمال والحكومات، فإن هذا التوظيف لا يمنع من وجود عدة مشكلات هي: أننا نستورد التكنولوجيا، ولا ننفق بالقدر الكافي على البحث العلمي، ونرهن التقدم التقني بالظرف السياسي، ونفتقد إلى القدرة العسكرية الكافية للدفاع عن أي تقدم نحققه ذاتيا على درب التكنولوجيا، وتغيب لدينا أي فلسفة متماسكة تحكم تصوراتنا وتوجهاتنا في عالم التقنيات والاقتصاد الرقمي والمعرفي، فضلا عن تفاوت الدول العربية في إمكانية حيازة التكنولوجيا، وفي إلحاح الطلب عليها من قبل الشباب.

كان هذا ما أردت قوله ابتداء في المداخلة التي شاركت بها خلال فعاليات "تحالف عاصفة الفكر" الذي أطلقه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بالتعاون مع عدد من مراكز البحوث العربية، وانعقدت دورته السادسة الأسبوع قبل الفائت في مقره بأبوظبي تحت عنوان "المستقبل العربي في عصر التكنولوجيا"، وذلك قبل أن أتحدث عن الآثار الإيجابية للتكنولوجيا مجملا إياها في تسهيل الحياة النوعية للناس، عبر تعاملهم مع الأجهزة الحكومية بما يخفف من التحجر والتوحش البيروقراطي، ومع البنوك وحساباتها، والحصول على المعلومات وتنوعها، والتواصل المتدفق بما يقرب الشعوب في عالم تحول من قرية صغيرة إلى حجرة صغيرة ثم مقعد صغير، ويسهم في معرفة الآخر وتفهمه وقبوله، ويدفع التنمية بمساراتها الشاملة لا سيما في مسائل الاقتصاد والتعليم والصحة، ويحرر الأذهان، ويرفع رغبة المواطنين في المشاركة السياسية، والوقوف على أنماط عيش الشعوب الأخرى بما يزكي ثورة التطلعات.

كما تحدثت عن الآثار السلبية للتكنولوجيا ومنها الخواء الروحي في ظل الإغراق في المادية وتشيؤ الإنسان، وتعميق الاغتراب حيث يتواصل الناس عبر شبكات التواصل الاجتماعي مع البعدين عنهم، وينعزلون عن الأقرباء لهم، إلى جانب شيوع أمراض نفسية مثل الانطواء والانزواء والاكتئاب والأرق وإدمان الإنترنت، وتحول الكماليات إلى ضروريات بما زاد من كلفة المعيشة، فضلا عن تبديد موارد الطاقة سريعا، وارتفاع معدل استهلاك الأطعمة المعدلة وراثيا، وتعطل القدرات الذهنية للإنسان وتحول عقله إلى مجرد أداة أو وظيفة مثلما هو حال الآلة التي ليس بوسعها التفكير خارج المهمة، واحتداد السجال السياسي والعقائدي والطبقي، وظهور أنماط جديدة من الجرائم وعمليات الإرهاب، وموت حرف تقليدية جميلة، وزيادة حجم البطالة لا سيما في البلاد التي تتسم بكثافة العمل.

إن العالم يسير بخطى سريعة في تطبيق أساليب التكنولوجيا الحديثة في التعليم، سواء في الأدوات مثل الكتب ووسائل الإيضاح أو في المضامين التي يجب أن تجعل من دراسة التقنية الحديثة مساقا لازما، أو في الطريقة التي يجب أن تُستغل التكنولوجيا في جعل التعليم عملية مشوقة وجذابة وممتعة، وفي رفع مستوى تحصيل التلاميذ والطلاب، فضلا عن الطريقة التي يجب أن يكون عليها الامتحان، بما لا يجعله مجرد أداة لتقييم الطلاب، إنما فرصة لصناعة حوار بناء بين أطراف العملية التعليمية، عما يجب إضافته والتركيز عليه، وما يجب تفاديه، والأهم ما يستلزم تعلمه من تفكير منهجي، يتيح للمتعلم أن يختار من بدائل واحتمالات، وينطلق في تفكير ليس أمامه حدود أو سدود أو قيود.

إن تكنولوجيا التعليم عملية شاملة تطبق فيها علوم ومعارف شتى، وتستخدم فيها موارد تعلم بشرية وآلية أو مؤتمتة، بغية تعليم أكثر كفاءة، عبر طرائق ومواد وأجهزة وتنظيمات وإجراءات وأساليب للعمل والإدارة وأفكار غير تقليدية.

وبالطبع فإن هذه التكنولوجيا ليست العلم، لأن الأخير يقوم على المعرفة المنظمة الممنهجة التي تنتج عن بحث وتجربة، إنما هي التطـبيقات العملية للمعرفة العلمـية في مختلف المجالات، والتي تتطلب وجود الأجهزة أو الآلات اللازمة.

لقد صار العالم يستخدم السبورة الذكية والكتب الإلكترونية والفيديو، ويفتح طريقا واسعة للتعليم عن بعد، الذي يستلزم استخدام إنترنت فائق السرعة، يتم توفيره في المدارس بلا مقابل، ويجعل المعلومات متوفرة بغزارة في المكتبات داخل المؤسسات التعليمية، إلى جانب وجود اتصال مباشر ومفتوح بين المعلم والمتعلم علي مدى اليوم وسهولة ويسر، وسط أجواء من حرية الرأي، وتبادل المعارف، وتدريب التلميذ على البحث والتفكير الحر، وتدريب المعلم على أن يكون أشبه بفيلسوف، أو حكيم، مثل فلاسفة وحكماء الإغريق الأقدمين، الذين لم ينشغلوا بتلقين تلاميذهم معلومات جمعوها من هنا وهناك، وملأوا بها رؤوسهم، إنما علموهم كيف يبنون الحجج المنطقية في رحاب التفكير العلمي والبحث الدائم والدائب والمخلص عن الحقيقة.

إن تكنولوجيا التعليم تتعدى مجرد استعمال الآلات والأجهزة ووسائل الإيضاح السمعية والبصرية المتطورة في العملية التعليمية، فها هي عطاءات علم النفس تسعى إلى تحويل الأمر من التركيز على المثير الذي تنطوي عليه الرسالة إلى التركيز على سلوك المتعلم، ثم توظيف الآلة في تعديل هذا السلوك أو تعزيزه، وتقييم وتقويم المعلم وفق ما ينجزه من أهداف سلوكية، ونظرت التصورات المتعلقة بـ "تصمصم التعليم" إلى إعداد برامج تعليمية وتخزينها، ومنها ما يرتبط بسلوك المعلمين وسماتهم وخصائصهم، وما يحض على الاستفادة من النتائج التي تجود بها البحوث في مختلف حقول العلوم والمعرفة.

إن التطور الذي شهدته الحياة الإنسانية طالما ألهم القائمين على التعليم بكثير من الوسائل والوسائط والأفكار والمناهج والقيم، وكان على هؤلاء أن يواكبوه، بل لم يكن بوسع أي منهم أن يتفادى التحديث الذي امتدت أياديه إلى مجالات أخرى في الحياة. فظهور البريد أفرز التعليم بالمراسلة، وظهور الإذاعة جعلها وسيلة طيعة للتعليم عبر الأثير، ثم لم يلبث أن شاركها التلفاز في هذه المهمة، ودخل بعدها الفيديو على الخط. وكلما كان التصنيع يتقدم خطوات إلى الأمام، كان يمنح العملية التعليمية أدوات جديدة، مثل أجهزة الصوت والتسجيل ووسائل الإيضاح، حتى تسارع الأمر مع انتشار الأقمار الصناعية، وظهور الحاسوب، واختراع الإنترنت، والتقدم في مجال الذكاء الاصطناعي، فظهر "التعليم عن بعد" و"التعليم الذاتي" و"التعليم الافتراضي".

والتعليم عن بعد، الذي لا يجتمع فيه المعلم والمتعلم في مكان واحد، متجاوزين معا عقبة الزمان والمكان، وممكنين من اختيار وقت التعلم بما يلائم ظروفهما، بعيدا عن الحصص المنتظمة الثابتة. وقد لا يلتقيان إلا ساعة التقييم، الذي يمكن مستقبلا أن يكون للتكنولوجيا دور أكبر في إنجازها بطريقة مختلفة، وبما يحقق الشعار الذي يقول: "المدرسة ستذهب إلى بيتك، وكذلك الجامعة"، وهذا الذهاب لن يقتصر، بفضل التقدم التكنولوجي، على عرض المحتوى الدراسي وشرحه، إنما أيضا تعليم متلقيه الكثير من المهارات.

وواجب القائمين على التعليم في العالم العربي أن يحولوا التكنولوجيا من مصدر إلهاء للتلاميذ والطلاب إلى طريقة للتعليم الممتع، الذي يعظم الاستفادة، ويجلي العقول، وفي الوقت نفسه يربط الجيل الجديد بمشكلات الواقع، والذي يتعاظم دور التكنولوجيا في حلها كلما تقدمت بنا الأيام.

إعلان

إعلان

إعلان