هل ينافس ماكرون ترامب في شرق أوسط ملتهب بالنزاعات؟
برلين (دويتشه فيله)
غداة تنصيبه رئيسا لفرنسا قال الرئيس ماكرون أن العالم بحاجة إلى بلاده أكثر من أي وقت مضى. هذا الأمر يفسر تحركه السريع لحل أزمة لبنان وحضور أقوى في نزاعات الشرق الأوسط. هل ينجح الرئيس الشاب في منافسة واشنطن هناك؟
وتعدّ فرنسا من القوى الغربية التقليدية الحاضرة في عدد من النزاعات العالمية، سواء كطرف أو كوسيط يسعى لإنهاء هذه الأزمة أو تلك. ومع صعود إيمانويل ماكرون إلى رئاسة فرنسا تزايد هذه الحضور من خلال زياراته وتحرّكاته الكثيفة.
وهذا ما نشهده حاليا على صعيد جهوده لحل الأزمة التي يواجهها لبنان بعد إعلان رئيس حكومته سعد الحريري الاستقالة بشكل مفاجئ من العاصمة السعودية الرياض في سابقة هذه الأولى من نوعها. في هذا الإطار عقدت باريس عدة لقاءات مع مسؤولين على علاقة بالملف آخرهم وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل.
تحرص الإدارة الأمريكية منذ عقود على التدخل بقوة في نزاعات الشرق الأوسط، ومن هنا يثير النشاط المكثف لماكرون أسئلة حول قدرة فرنسا على التأثير في أحداث هذه المنطقة رغم روابط باريس المتعددة مع أكثر من بلد عربي.
كما أن باريس وحسب محللين دفعت خلال السنوات الأخيرة ضريبة مشاركتها في الحرب على تنظيم "داعش" الذي قام منذ عام 2015 بهجمات إرهابية طالت عدة مدن فرنسية مثل باريس ونيس ومدن أخرى.
تُرى ماذا يريد الرئيس الفرنسي الشاب من هذه التحرّكات؟ هل هي تكريس لمبادئ فرنسية في التعامل مع الخارج، قِوامها احترام حقوق الإنسان وتطوير علاقات الصداقة مع الدول وتعزيز السلام حسب ما جاء في موقع الخارجية الفرنسية؟ أم هي محاولة لتعزيز نفوذ باريس في الخارج ومنافسة واشنطن وبقية القوى الأخرى؟
تراجع في العالم العربي
في تصريحات خص بها DW عربية يحدد أستاذ الاقتصاد السياسي في باريس، يونس بلفلاح، الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الفرنسية التي تعتمد برأيه "على انتقائية في الحلفاء، وتتوّفر في كل منطقة على حليف لها، كمثال المغرب في شمال إفريقيا. كما تبني هذه التحالفات على المصالح الاقتصادية من خلال شركاتها الموجودة بأكثر من بلد، وكذا من خلال الحضور العسكري، علاوة على الحضور التاريخي في دول معينة، لاسيما في إفريقيا".
غير أن السياسة الخارجية الفرنسية التي عُرفت بالتوازن منذ فترة شارل ديغول، خاصة في فترة الحرب الباردة لمّا اتخذت موقفا وسطيا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، تراجعت منذ مدة طويلة بسبب الانكماش الاقتصادي المحلي وأضحت تستنجد بالعضوية الدائمة لفرنسا في مجلس الأمن وترسانتها النووية لأجل الاستمرار، وفق ما كتبته جريدة ليزيكو الفرنسية، في مقال بعنوان "السياسة الخارجية الفرنسية دون بوصلة".
ويُحيل المقال إلى كتاب نشره "نادي العشرين"، وهو هيئة تضم خبراء سياسيين فرنسيين، يتضمن ما مفاده أن فرنسا "أضاعت استقلالية وذكاء مواقفها التي كانت تعطيها سابقا دورا مهما".
ويؤكد تحليل آخر لمعهد مونتين الفرنسي حول سياسة البلد والعالم العربي، كتبه الخبير الاستراتيجي يونس القروي هذه النظرة بالقول أنه ورغم امتلاك فرنسا لروابط قوية مع المنطقة العربية خاصة المغاربية منها، إلّا أن تأثيرها في هذا الحيّز الجغرافي تراجع كثيرًا، إذ تفقد باريس حصصًا استثمارية كبيرة لصالح منافسيها، كما يتراجع تأثيرها الثقافي بشكل ملحوظ، فضلًا عن أنها فقدت دورها كوسيط في النزاعات. ويخلص القروي أن فرنسا لم" تعد تملك استراتيجية متماسكة لمواجهة تطوّرات المنطقة العربية، وأنه بات ينظر إليها كفاعل متقلب".
ماكرون يختلف عن سلفه
اعتمد ماكرون لغة مغايرة تمامًا عمّا عُرف به سلفه فرانسوا هولاند من تحفظ، ففي أول حضور له في الأمم المتحدة، وصف ماكرون الرئيس السوري بشار الأسد بأنه "مجرم"، كما تحدث عن أن فرنسا ستكون "صوت الضعفاء"، وأن عليها الاعتراف بـ "مسؤوليتها عن غياب النظام في ليبيا وبالتالي عليها الآن المساهمة في البناء".
ومن التصريحات الأخرى التي أثارت جدلا قوله خلال سباق الرئاسيات قوله إن "الاستعمار الفرنسي للجزائر يعدّ جريمة إنسانية".
ومباشرة بعد توّليه زمام السلطة، كان ماكرون أول مسؤول يعلق على الاحتجاجات في شمال المغرب من القصر الملكي هناك عندما أجاب على سؤال بالقول: "أن الملك محمد السادس مُنشغل بالاحتجاجات التي تجري في منطقة الريف".
كما رعى ماكرون لقاءً بين الزعيمين الليبيين خليفة حفتر وفايز السراج تمخض عنه أول اتفاق بينهما على وقف إطلاق النار وتنظيم انتخابات. ثم جاءت تحركّاته إبان الأزمة الخليجية، قبل أن ينتقل التوتر إلى لبنان، وهو ما دفعه إلى زيارة الرياض على وجه السرعة، مشدّدا على "ضرورة عودة سعد الحريري بحرية إلى بيروت واحترام سيادة واستقرار لبنان".
لكن يونس بلفلاح لا يرى أن ماكرون يستهل عصرًا جديدًا في السياسة الخارجية لفرنسا، فـ "المبادئ الرئيسية لباريس يتبعها كلّ رئيس، وما يقوم به ماكرون هو تنشيط للأداء الدبلوماسي بسبب التغييرات الواقعة في أوروبا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتصاعد الدبلوماسية الألمانية، فباريس ترغب أن تكون القوة الدبلوماسية الأقوى داخل أوروبا". ولتحقيق هذا الهدف في العالم العربي، تستعين فرنسا بعلاقاتها في المنطقة، خاصة صفقات السلاح مع دول في الخليج، حسب الخبير بلفلاح.
هل لبنان استثناء؟
النشاط القوي لماكرون يأتي في عهد رئيس أمريكي يرغب بقلب سياسة أسلافه والتركيز أكثر على التحديات الأمريكية الداخلية، أما التحديات والحلول الخارجية فيبنيها على أساس ما ستربحه واشنطن فقط وفق تصريحات ترامب نفسه.
رغم ذلك ستبقى الولايات المتحدة القوة السياسية الأولى في الشرق الأوسط وفق تأكيدات بلفلاح، فهي تملك "حضورا عسكريا واقتصاديا ضخما"، مضيفًا أن التحرّكات الفرنسية "لا تخرج عن التنسيق مع واشنطن، ومن ذلك اتخاذ باريس لموقف حياد سلبي من الأزمة الخليجية، لأنها تدرك أن المنطقة منطقة نفوذ أمريكي بالأساس".
لكن لماذا تغيّر الأمر في لبنان؟ يجيب بلفلاح أن السياق اللبناني مختلف، فهناك علاقات تاريخية بين الطرفين بدأت منذ عصر الانتداب، وهناك جالية لبنانية كبيرة في فرنسا، فضلًا عن علاقات فرنسية مع عائلة الحريري ومع مجموعة من القوى السياسية في لبنان. لذلك، تدرك واشنطن، يستطرد ضيف DW، أن فرنسا تملك أدوات أكثر في القضية اللبنانية، دون أن يعني ذلك تضخيمًا للدور الفرنسي.
فيديو قد يعجبك: