كورونا: لماذا سيكون من الصعب أن تعود الحياة إلى طبيعتها؟
(بي بي سي):
أجبرت على العمل من مكتبي في المنزل، التزاما بأوامر الحجر الصحي، ولا أبرح منزلي إلا للضرورة القصوى، مثل التسوق أو لأسباب صحية. ولم أعد ألتزم بقواعد الزي الخاصة بالعمل. ولم أتواصل مع شخص وجها لوجه، سوى زوجي وجيراني منذ أكثر من شهر.
قد أتحدث مع أبي وأمي وأصدقائي عبر تطبيقات المحادثة المرئية، وأتابع أخبار أصدقائي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأتسوق عبر الإنترنت، ولا أقضي إلا سويعات من يومي خارج المنزل.
لكن لماذا نفترض أن هذا الوضع غير طبيعي؟ فقبل أن يتفشى فيروس كورونا، كنت كثيرا ما أجلس في مكتبي وأتواصل مع أصدقائي وعائلتي عبر التطبيقات الإلكترونية، وأتسوق عبر الإنترنت. صحيح أن الحجر الصحي جديد، لكن الأجهزة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي باعدت بيننا وبين معارفنا وأصدقائنا على مدى سنوات.
لاشك أنني أعد نفسي من المحظوظين، فهناك اقتصادات من حولنا تترنح تحت وطأة الجائحة، وتواجه أنظمة الرعاية الصحية ضغوطا غير مسبوقة، وفقد الكثيرون أقاربهم وأحباءهم، وحُرموا من توديعهم في اللحظات الأخيرة.
وقد دفع ذلك الكثيرين للتساؤل: متى ستعود الحياة إلى طبيعتها؟ وكيف سيكون شكل "الحياة الطبيعية" بعد الأزمة؟
ويرى البعض أن الحياة قد لا تعود كسابق عهدها على أية حال، لكننا قد نضع معايير جديدة للاعتياد على الحياة الطبيعية بعد الأزمة، حتى لو كانت مختلفة عما ألفناه قبلها.
فقد كانت أنظمة الرعاية الصحية والحكومات، في الأوضاع الطبيعية القديمة، غير مستعدة للتعامل مع الأزمات مثل أزمة وباء كورونا المستجد، لكنها الآن أصبحت أكثر استعدادا للتعامل مع الأوبئة العالمية، وسيكون هذا هو المعتاد بعد الأزمة.
إذا، فإن الوضع الطبيعي والمعتاد الجديد سيصلح مواطن الخلل التي كانت موجودة في الماضي. لكن إذا كان الوضع الطبيعي مثقل بالعيوب، فلماذا نعده طبيعيا ومعتادا؟ وماذا نقصد بعودة الحياة إلى طبيعتها؟
يتمنى معظم الناس أن يجدوا الوقت الكافي لتعلم مهارات جديدة، لكن عندما تأتي الفرصة لا يستغلونها بسبب تشتت انتباههم بأمور أخرى
ولو نظرنا مثلا في المعاجم، سنجد أن مرادفات طبيعي هي السوي أو المطابق للقياس أو النمطي أو غير المخالف للقاعدة أو المعتاد.
وذكر الفيلسوف تشارلز سكوت في إحدى محاضراته أن كلمة "سوي" تنطوي على التسلط أو الحق في التمييز والتفريق. وتحولت الكلمة من مجرد وصف إلى ادعاء الحق في تصنيف الآخرين.
وهذا يعني أننا نصنف الآخرين بناء على مبدأ يتبناه معظم الناس، مثل "معظم الناس مغايرو الجنس"، ليصبح هذا المبدأ هو المعتاد أو القياسي وكل ما يخالفه هو غير سوي، ومن ثم أقل من السوي.
وأحيانا لا يكون المعيار "الطبيعي" هو الأفضل، فإن السمنة أمر معتاد في الولايات المتحدة، لكن الأطباء يشجعون المرضى على مخالفة المعتاد في هذا الصدد.
ويقول عالم الاجتماع ألان هورويتز، إن المشكلة أنه لا توجد في معظم الأحيان قواعد أو معايير نستدل بها على الأوضاع الطبيعية أو السوية. ولهذا، فإن البعض يعرفّون الطبيعي والمعتاد بأنه السمة التي يتميز بها معظم الناس أو السلوكيات النمطية التي يمارسها معظم الناس. لكن هذا التعريف قد يستدرجنا إلى تقبل ظواهر لمجرد أنها شائعة إحصائيا.
إذ كان معظم المواطنين في ألمانيا النازية على سبيل المثال، يؤيدون سياسات التمييز العنصري والإبادة الجماعية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، فهل كانت النازية فلسفة "سوية" تصلح ليتبناها البشر؟
ويقول هورويتز إن بعض الناس يعرفّون "الطبيعي"، بأنه كل ما يوافق المعايير الواضحة والصارمة، أي أن السويّ هو المثالي. ومن هذا المنطلق، فإن النازية رغم انتشارها في ألمانيا، إلا أنها غير سويّة لأنها لا تطابق مقومات المجتمع المثالي الذي نطمح إلى تحقيقه.
أما التعريف الثالث للوضع الطبيعي أو السويّ بحسب هورويتز، فهو يعتمد على منظور تطوري، وفقا لمبدأ الانتخاب الطبيعي، إذ يفيد بأن السلوكيات السويّة هي التي تجعل الإنسان قادرا على البقاء على قيد الحياة في مجتمعه.
وفي ضوء هذه التعريفات الثلاثة، يقصد بعودة الحياة إلى طبيعتها بعد انحسار وباء كورونا المستجد، أن يعود معظمنا إلى أنشطته المعتادة - بحسب التعريف الأول- لكن مجتمعاتنا ستتغير إلى الأفضل - بحسب التعريف الثاني- وستساعد هذه التغيرات على حماية مجتمعاتنا من الزوال - بحسب التعريف الثالث.
إذا، نحن نريد أن تعود الحياة كسابق عهدها، لكننا نريدها في الوقت نفسه أن تختلف قليلا عما كانت عليه. فنحن ندرك في قرارة أنفسنا أننا لن نعود إلى الصورة القديمة للحياة الطبيعية.
وربما نألف الوضع الطبيعي لأنه يشعرنا بالأمان. ففي أعقاب الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الأولى، أدركت الحملة الرئاسية لوارن هاردينغ أن الأمريكيين لا يحتاجون لأعمال بطولية، بل كل ما يحتاجونه هو عودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل أن تصيب الحرب حياتهم اليومية بالشلل.
وفطن هاردينغ إلى أن الشعب ينشد العودة بالزمن إلى الوراء حيث الأمان لمواجهة مخاوفهم. ونجحت حجته في إقناع الشعب، الذي انتخبه رئيسا للولايات المتحدة في عام 1920.
كان هاردينغ ومؤيدوه يتوقون للماضي أو الطبيعي والمألوف، مثلنا الآن. وكتب المحلل النفسي ماريو جاكوبي، عن النزوع البشري للحنين إلى الحياة المعتادة أو الطبيعية في الماضي والتي لم يكن لها وجود في الواقع.
فنحن نتمنى أن نعيش في العشرينيات الذهبية أو الحقبة الجميلة في باريس قبل الحرب العالمية الأولى أو نعاصر عراقة الماضي، لكن هذا العالم المثالي ليس إلا صورة رسمناها للماضي لتعوضنا عن العالم المحفوف بالمخاطر الذي نعيش فيه.
وقد يفترض البعض عند تعريف الوضع الطبيعي بأن نفكر في البداية في كل ما هو مطابق للمألوف، ليصبح معيارا نعرّف بناء عليه كل ما هو غير سويّ أو مخالف للمعتاد. لكن ماذا لو عكسنا الآية، وبدأنا بالتفكير في الأمور غير المألوفة التي تثير القلق والمخاوف، وبعدها نهدئ مخاوفنا بالتفكير في الوقت الذي كنا فيه بلا هموم قبل أن تنتابنا المخاوف. بحيث يصبح هذا الوقت هو الملجأ الذي نعود إليه هربا من المخاوف.
وبعد بضعة أشهر من الآن ستعود حياتي إلى طبيعتها، وسأستأنف الكتابة من منزلي وأتواصل مع عائلتي عبر تطبيقات المحادثة المرئية.
عندما نضع تعريفا للأوضاع الطبيعية، قد نبدأ بالتفكير في الأمور التي نرى أنها سوية، ولا نضع في الحسبان الأمور غير السوية
لكن البعض سيجد صعوبة في العودة إلى حياته الطبيعية، إذ أن بعض الشركات ستغلق أبوابها للأبد وبعضها سيفتح أبوابه مجددا. وبعض الناس لن يخرج من غرف العناية المركزة، وبعضهم سيجد صعوبة في شراء الطعام الذي يكفيه أو سداد الإيجار.
وسيجدد بعض الساسة عهودهم بإتاحة الرعاية الصحية للجميع، وسيذكروننا بأهمية الالتزام بالتدابير الوقائية في أعقاب الجائحة. وسيؤيدهم بعض الناس ويعارضهم آخرون، وفي النهاية ستبقى الكثير من الأمور على ما كانت عليه.
وسنواجه جميعا تحديات جسيمة لسنا مستعدين لمواجهتها. وسيحاول العلماء ومقدمو خدمات الرعاية الصحية التغلب على هذه التحديات، وسينجحون إلى حد ما، لكن سرعان ما ستظهر تحديات جديدة.
وقد شهد كوكب الأرض على مدى 500 عام، خمس حوادث انقراض جماعي، ويعتقد الكثير من العلماء أننا نمرّ حاليا بالانقراض الجماعي السادس. وفي مرحلة ما في المستقبل، لن يعد الجنس البشري آخر محطات التطور وذروته، فقد تتخطاه أشكال أخرى للحياة.
فيديو قد يعجبك: