نيلسون مانديلا.. تجربة أنقذت شعب وألهمت شعوبا أخرى
تقرير – هند بشندي:
تاريخ من الكفاح والنضال الإنساني جعلت يوم عيد ميلاده، يوما يحتفل به العالم أجمع؛ فنيلسون مانديلا احتفل الخميس بعيد ميلاده الـ95 في المستشفى الذي يرقد فيه منذ نحو ستة أسابيع في بريتوريا، بجنوب أفريقيا.
لم يحتفل مانديلا وحيدا، فقد احتشد عدد من محبيه، أمام مستشفى مدكلينك هارت حيث يرقد منذ 8 يونيو الماضي وذلك للاحتفال به، وقامت فرقة موسيقية عسكرية بعزف النشيد الوطني ثم أنشودة ''هابي بيرث داي''.
وفي الوقت نفسه أحتفل العالم أجمع معه في يوم أطلق عليه ''يوم مانديلا العالمي'' السنوي الموافق 18 من يوليو من كل عام، وهو اليوم الذي أقرته الأمم المتحدة ودعت فيه لتخصيص 67 دقيقة لمساعدة الآخرين، وهي دقائق ترمز إلى السنوات الـ67 التي أمضاها الرئيس الجنوب أفريقي السابق في الخدمة الإنسانية.
وأصدر البيت الأبيض بياناً باسم الرئيس بارك أوباما بهذه المناسبة قال فيه ''سوف نستمد دائماً القوة والإلهام من نموذجه الاستثنائي في الشجاعة الأخلاقية والطيبة والتواضع''، وتمني أوباما لأن تكون حياة مانديلا في خدمة الآخرين، منارة حتى تسعى أجيال المستقبل من أجل قيام عالم أكثر عدلاً وازدهاراً.
مانديلا.. الملك
ولد روليهلاهلا مانديلا في قرية صغيره تدعي مفيزو تبعد 600 ميل عن جوهانسبرج، كان والده زعيم قومه كان يطلق عليه ''الملك''، لكن بعد ضم القرية لاتحاد جنوب إفريقيا فقدت حياتها القبلية، وفقدت معها زعمائها وملوكها لكن مانديلا كان يشعر منذ طفولته بانه ''ملك''.
''نيلسون'' هو الاسم الذي اختاره له معلمه في المدرسة التبشيرية تيمنا باسم أحد الأبطال الإنجليز ليصبح اسمه ''نيلسون مانديلا''.
أنهي مانديلا دراسته العليا في جامعة جنوب أفريقيا الأهلية الخاصة بالسود، وقد اعطته الحياه الجامعية تجربة قيادية من خلال النشاط الطلابي ذو البعد السياسي، ليبدأ بعدها العمل ككاتب لدى محامي يهودي اسمه سايدلسكي وصفه مانديلا بقوله ''انه أول رجل أبيض عاملني معاملة البشر''.
سنوات من الكفاح السياسي قضاها مانديلا أدت لاعتقاله وسجنه بتهمه التآمر للإطاحة نظام الحكم، وفي المحكمة عام 1964، قال عبارته الشهيرة ''كرست حياتي لكفاح الشعب الإفريقي، وحاربت هيمنة البيض بقدر ما حاربت فكرة هيمنة السود، كنت دائما أرفع نموذج المجتمع الديمقراطي الحر حيث الجميع يعطون فرصا متعادلة، واذا اقتضي الأمر سأموت من أجل هذا الهدف''''.
وكانت تلك هي العبارة التي كررها في فبراير 1990، في أول خطاب له عقب خروجه من السجون.
27 عاما قضاها مانيلا يحمل الرقم 466/64 في سجن في جزيرة روبن، لكن مانيلا لم يقف عند هذا الرقم واستطاع ان تتسبب رحلة كفاحه بعدد مهول من الأرقام، فرقم 695 يمثل عدد الجوائز العالمية التي حصل عليها، بما في ذلك جائزة نوبل للسلام وميدالية الكونجرس الأمريكي، بالإضافة إلى 115 درجة فخرية حصل عليها، بينما رقم 85 هو عدد الشوارع والكباري التي أطلق اسمه عليها، كما ان هناك نحو 95 نصب تذكاري تمجيدا له.
درس في الغفران
أصبح مانديلا في 10 مايو 1994 أول رئيس أسود لجمهورية جنوب إفريقيا وذلك بعد فوز حزبه المؤتمر الوطني الافريقي بأكثرية ساحقة في أول انتخابات متعددة الأعراق، ليتحدث عقب انتخابه ويقول ''اليوم نتحدث ليس كمنتصرين بل نحن نتكلم كمواطنين''.
وخطب في الجماهير يوم توليه الحكم، وقال ''حان وقت التئام الجراح، آن الأوان لردم الحواجز التي تفرق بينا''.
دائما ما يقول إن المهاتما غاندي كان المصدر الأكبر لإلهامه في حياته فقد شكلت فلسفته حول نبذ العنف والمقاومة السلمية ومواجهة المصائب فكر مانديلا، وهو ما فعله والدليل على ذلك دي كليرك الرجل الأبيض الذي تقاسم مع منديلا جائزة نوبل للسلام عام 1993، وقال عنه مانديلا في 10 ديسمير 1993 عندما استلم الجائزة ''لقد كانت له الشجاعة ليعترف بان خطأ فظيع قد وقع على شعبنا وبلدنا من خلال فرض نظام التمييز العنصري، كان له بعض النظر ليتفهم ويتقبل ان كل شعوب جنوب افريقيا تحدد مستقبلها من خلال مفاوضات يشترك فيها الجميع على قدم المساواة''.
وفي الكتاب الذي أصدرته منظمة اليونسكو تحت اسم ''سلام إلى الأصدقاء وإلى السجانين''، أشار إلى أنه رغم نضاله المرير وسجنه المديد لم يخلط بين آلامه الشخصية ومتطلبات الوضع السياسي لشعب جنوب افريقيا.
ويقول الكتاب ان ما ميز هذه الجمهورية أن مانديلا حكم جنبا إلى جنب مع نائبه دي كليرك الذي كان في وقت سابق على رأس النظام العنصري وفي مقام الجلاد، وبذلك جنب البلاد من مصير سيء عرفته شعوب العالم الثالث بعد الاستقلال حين تحول أبطالها إلى حكام انتقاميين يؤسسون حروبا أهلية أو أزمات حادة تطحن الدول فتجعلها تحن أحيانا إلى عهد الاستعمار.
لكن رغم المعاناة لم يفكر مانديلا ولو لمرة واحدة بعد خروجه من السجن في الانتقام، بل على العكس خرج الزعيم المناضل ليعطي درسا مذهلا في الغفران، ليؤكد دائما على ذلك بمقولته ''إن جنوب إفريقيا للجميع، وإذا كنا قد استعدنا السلطة؛ فالواجب أن نحافظ على حق الأقليات بما فيهم البيض''.
لست ملاكاً
''أنا لست ملاكاً''، هكذا يؤكد مانديلا لأنطوني سامبسون الذي وثق حياته في كتاب ''مانديلا السيرة الموثقة''، وترجمته للعربية هالة النابلسي وغادة الشهابي، وهو نفس ما أشار له مانديلا في أول خطاب له عقب خروجه من السجن عندما قال ''أقف أمامكم ليس كنبي بل كخادم متواضع لكم أنتم الشعب''.
عندما أصبح رئيسا لجنوب افريقيا رأى العالم في ذلك نهاية القصة الخرافية، لكن في الحقيقة كان ذلك بداية لقصة مختلفة تماما، وقال عقب توليه للحكم ''لقد جيء بنا من العمل السري ومن السجون لنتولى الأمور لقد ألقينا فجأة وسط تلك المسئولية الهائلة في حكم بلاد نامية جدا''.
تقول السيرة التي وثقها سامبسون إن مانديلا عندما وصل إلى مكتبه في أول يوم له كرئيس في بريتوريا لم يجد أي موظف؛ فطلب تجميع موظفي المكتب في صباح اليوم التالي وصافحهم يد بيدا وطمأنهم أن أحد منهم لن يُلقى في الشارع.
في الشهور الأولى له كرئيس استمتع بشهر عسل رائع لاسيما مع الجنوب أفريقيين البيض الذين شعروا مع هذا الرجل المسن المتسامح براحة مدهشة، فلقد ولّد جوا من الاستقرار، وفي نهاية المئة اليوم الأولى من رئاسته لم يكن بمقدور الفيناينشال تايمز إيجاد بيض يتكلمون عنه بسوء.
أصبح منديلا مشهورا لدى الجميع بوصفه الرجل الذي صفح عن الأعداء الذين سجنوه. قبل السجن كان مانديلا عدونيا تمام لكنه أدرك أن السلام المستقبلي لجنوب أفريقيا سيعتمد على الصفح.
مصر.. وتجربة مانديلا
اعتزل مانديلا السياسة في عام 2004، ويقول الدكتور ناجح إبراهيم، المفكر الإسلامي إن ما فعله مانديلا يعطى نموذجاً فذاً للإيثار، وعدم الرغبة في السلطة وإعطاء الفرصة للآخرين.
''العدالة الانتقالية''، هي أكثر ما يمكن لمصر ان تستفيد منه من تجربة مانديلا، خصوصا في حالة الصراع السياسي القائم، هكذا رأت الدكتورة إجلال رأفت، الخبيرة بالشئون الإفريقية، معتبره ان تجربة مانديلا في هذا المجال ''مبهرة جدا.''
وأوضحت رأفت لمصراوي أن العدالة الانتقالية لا تعرف مفهوم ''عفا الله عن ما سلف''، لكن هي تحاسب فقط من يثبت عليه جرائم، وخصوصا ان في مصر ارتكبت جرائم بحق الشعب المصري وسالت دماء كثيرة.
وقالت إن ''مانديلا سامح وغفر بعد اعتذارات ومحاكمات تمت''.
فيديو قد يعجبك: