بالفيديو .. مصراوي يكشف: مباني ومنشآت عامة قابلة للاشتعال (تحقيق)
تحقيق- علياء رفعت ونانيس البيلي:
ألسنة اللهب تتطاير، الدخان يتكاثف، "سرينات" عربات الإطفاء تُدوي فتجذب الانتباه، بينما ينسل رجال الإطفاء واحدًا تلو الآخر من السيارات ليجذبوا الخراطيم فتتدفق المياه على أمل أن تخمد حريقًا هائلا. لحظاتُ رعبٍ عاشها سكان منطقة وسط البلد أثناء حريق "مسرح الليسيه"، الذي أسفر عن احتراق قاعته بالكامل، وتضرر بعض الحوائط، وتدمير شبكته الرئيسية، وأجهزة العرض. ورغم مرور شهرٍ على تلك الحادثة فإن الجميع لا يزال ينتظر تقرير المعمل الجنائي للوقوف على أسباب الحريق الذي دمر مسرحا يوصف بأنه "تاريخي".
"حريق الليسيه" مجرد حلقة ضمن مسلسل الحرائق التي أصبحت أخبار اندلاعها، شبه يومية، وجرت العادة على اتهام "ماس كهربائي" أو "عقب سيجارة"، بينما يتوارى السبب الحقيقي خلف جدرانٍ غطاها السواد.
كانت تلك الواقعة هى البداية التي انطلق "مصراوي" على إثرها في رحلة بحث تردد خلالها على مختلف الأماكن الحيوية والتاريخية التى تزدحم بالمواطنين يوميًا، ليكشف غياب وسائل التأمين ضد الحرائق بأغلب المنشآت العامة ما يعرض المواطنين للخطر ويُكبد خسائر بشرية وأخرى مادية تُقدر بالملايين سنويًا.
خريطة توضح عدد الحرائق فى مصر وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة والأحصاء..أضغط هنا
بعد 3 أشهر، من تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والأحصاء قدرت الغرف التجارية خسائر حريق "الرويعي" الذي أيقظ مصر صباح 9 مايو 2016، المبدئية بحوالي 400 مليون جنيه -حسب نائب رئيس الغرفة التجارية- بينما كانت لخسائره البشرية قصةً أخرى.
في مدخلٍ صغير بأحد الأزقة؛ عُلقت "لافتة" كبيرة تحمل اسمه "الشيخ عبدالجبار يونس". هكذا خَلد صلاح ذِكرى أخيه الذي يُعرفه كل سُكان المنطقة بأنه ضحية حريق العتبة. "راحوا في شَربة ميه عشان ينقذوا البضاعة والفلوس" قالها محمد محجوب أحد أقارب يونس بحزنٍ وهو يستعيد ذكرياتِ يومٍ مشؤوم احترق فيه قلبهم قبل بضاعتهم.
مجمع التحرير: طفايات صدئة قابلة للانفجار.. ومبنى ضخم بدون حساسات الحريق
كانت الساعة قد جاوزت التاسعة صباحًا حين تلقى يونس اتصالا هاتفيا يخبره بنشوب حريق بالعتبة، إلا إنه لم يهتم بالأمر في بدايته، ليُفاجأ بأخيه صلاح يبلغه أن النيران امتدت للعقار الذي يشمل مخزنهم، فهرول معه لإنقاذ شقى العُمر، أو ما تبقى منه. بالقرب من المخزن، كانت النيران تستعر وتأكل بضاعة الأخوين، فأصر عبدالجبار على الدخول لجمع الأموال من الخزينة، لكن القدر لم يمهله للهروب من النيران.
عقب تلقي التعازي ومرورع ِدة أشهر، قرر صلاح إزالة آثار الحريق بالمخزن ودهان حوائطه ليعاود العمل ليعول أسرته وأسرة أخيه، لكنه فوجئ بإخطارٍ من الحي ينذره بسبب ترميمه المكان دون ترخيص، ليتحول الأمرإلى مخالفة قانونية وقضية وغرامة بلغت 90 ألف جنيه لم يستطيع تسديدها، فحُبِس بعد أن فقد شقيقه وكل أمواله.
على بُعد أمتارٍ معدودة من مسرح الليسيه الذي دمره الحريق ؛ يقع "مجمع التحرير"، أحد أهم المباني الحيوية والتاريخية. داخل المجمع؛ تجول "مصراوي" بحذر، بينما رصدت عدسته الوضع بدقة.
فى الطابق الأرضي من المُجمع، اتخذنا الممر الأيسر. غُرف الأرشيف المليئة بالملفات تنتشر بمحاذاته بينما يوجد العديد من "طفايات الحريق" على مسافات متباعدة. بعضها مُعلق في صناديق مكسورٌ زجاجها، والبعض الآخر تنتشر به علامات الصدأ من الخارج فلا تستطيع التحديد إن كان يصلُح للاستخدام أم لا. على مقرُبةُ من تلك الطفايات مكب كبير للنفايات، تتساقط فيه الأوراق والمخلفات طوال الوقت من أعلى لترسو على أرضه إلى جوار المواسير وصندوقٍ أحمر يحتوي خراطيم المياه المُخصصة لإطفاء الحرائق.
لكن الوضع في الطوابق العُليا من المُجمع بدا مُختلفًا عن الطابق الأرضي. طفايات الحريق "الجديدة" تنتشر في أغلب الممرات الطوابق دون أى وجودٍ يذكر لحساسات الدخان أو الحرارة. وكان اللافت للنظر، تلف بعض الصناديق الحمراء، إن لم يكن أغلبها، ووضع قوالب من الطوب الأحمر داخلها، أو أمام الباب المُخصص لغلقها.
قصر العينى: الخطر فى سلالم الاستقبال القديم والممرات الضيقة فى طوابق الاستقبال الجديد
وطِبقًا للكود المصري لهيئة الحماية المدنية، فإن وجود الطفايات التي يتنشر بها الصدأ هو أخطر من عدم وجودها حيث إنها قابلة للإنفجار في أى وقت، وأن عدم وجود مجسات للدخان أو الحرارة من شأنه أن يساعد الحريق على التفاقم والذي لن يصلح معه وقتها خراطيم المياه أو طفايات الحريق التي يجب أن تستخدم في الحرائق المُحيزة فقط، مما يعني أن مجمع التحرير هو قنبلة موقوتة في انتظار شد فتيلها ليشتعل كل شيء بمساعدة النفايات والأوراق دون أن تجدي معه وسائل الحماية الموفرة أى نفعٍ يذكر.
يستقبل "مستشفى القصر العيني" فى قلب القاهرة يوميًا آلاف المرضى من مختلف أنحاء الجمهورية. داخل المبنى العام للاستقبال الجديد خلت بعض الممرات بين الطوابق من طفايات الحريق أو صناديق خراطيم الإطفاء، وعُلِقت لافتات خضراء كُتِب عليها "خروج في حالة الطوارئ"، بينما تواجد عدد من تلك الصناديق ببعض المداخل الجانبية للأقسام.
"ضيقة، ومظلمة" هذا هو أكثر ما يميز سلالم الاستقبال القديم بمبنى القصر العيني العام، التي خلت من أي وسائل للتعامل مع الحرائق سواء الطفايات أو خراطيم المياه. بينما تناثرت صناديق خراطيم الحرائق الحديثة بكثرة في الطابق الأول من مبنى القصر العيني الجديد.
القصور في تأمين سلالم الاستقبال القديم وبعض الممرات بين طوابق الاستقبال الجديد، قد يصعب معه التعامل السريع مع الحرائق حال اشتعالها بتلك المناطق، نتيجة لسرعة انتشار الحرائق وبُطىء إخلاء المرضى للطوابق نظرًا لحالتهم الصحية، كل ذلك في ضوء المساحة الواسعة لمبنى القصر العيني العام والتي سيتصعب السيطرة على أى حريق بتلك الوسائل البدائية.
ويقول المهندس "نبيل حسن"، رئيس خط الحريق بالقصر العيني والمسؤول عن خراطيم إطفاء الحرائق، إنه لا يعلم تحديداً سبب عدم وضع معدات إطفاء فى سلالم الاستقبال القديم، لكنه يشير إلى أن وضعها بذلك المكان ربما يجعلها عُرضة للسرقات التي تحدث كثيراً بجميع المباني. "ممكن تكون محطوطة على الأرض مش متعلقة" قالها حسن مشيراً إلى ضرورة وضع الطفايات فى العلب المُخصصة لها لضمان عملها إذ أنها تفسد إذا دُحرجت على الأرض، كما أن وضعها بتلك العلب بشكلٍ لافت يسهل على رجال الإطفاء ومن يرغب في مساعدة الحماية المدنية حال اندلاع حرائق.
"اللي بيحصلنا ده ولا المسرحية" كلماتٌ بسيطة اختصر بها مصطفى –فى العقد الثانى من العمر" حال عائلة يونس بعدما حدث لأخواله، فالأول أكلته النار حيًا، والثاني حُبِس لأنه قرر إزاله سواد الحريق من على الجُدران ليمارس عمله، ولم يعوضهم أحد عن الخسائر المادية الفادحة التي تسببت في استدانتهم وقطع أرزاق بعض العاملين في المخزن بعد تخفيض العِمالة، لتُصبح العائلة أمام حلٍ وحيد وهو الاستدانة لتسديد الغرامة المطلوبة على 4 أقساط بأمرٍ من النيابة لحين البت في القضية المنظورة أمام القضاء، يقول مصطفى "إحنا اللي كان المفروض نتعوض، اتخربت بيوتنا وبقينا مديونين لطوب الأرض والحكومة جاية علينا كمان".
داخل مسرح "الجمهورية" بميدان عابدين بدا الجميع في حالة استعداد فالساعة قاربت الخامسة عصرًا، وأوشكت المسرحية على البدء. استقبلنا رجل الأمن لدى دخولنا من البهو الكبير ليخبرنا أننا لن ننتظر العرض إلا قليلًا، فتجولنا لنرصد الأوضاع.
طفايات الحريق تنتشر بكل مكان في المسرح، فالبهو الرئيسي وحده تستقر به 4 طفايات في أماكن متفرقة، إلى جانب صندوق أحمر كبير مُحكم الإغلاق يحمل داخله خراطيم المياه التى تستخدم في حالة نشوب الحرائق.
"المكان والديكور كله خشب في خشب" قالها أحد العاملين بالمسرح موضحًا سبب انتشار طفايات الحريق بكثرة في الداخل، مُضيفًا "أصل دي مفيهاش هزار، أرواح الناس مينفعش نلعب بيها". بينما أكد أن هُناك إدارة مُختصة -من قِبل وزارة الثقافة التي يتبعها المسرح- تتولى التفتيش الدوري على المسارح للتأكد من تطبيق كافة وسائل التأمين ضد الحرائق "بييجوا يتأكدوا من سلامة الطفايات والصناديق مرة كل شهر".
القلعة: شرارة واحدة تكفى لإشعال السجاد والموكيت المفروش بمسجد "محمد علي
وبحسب اللواء "نادر نعمان"، استشاري الوقاية ومكافحة الحريق، فالوقاية من الحرائق لا تتطلب فقط وجود طفايات الحريق أو صناديق خراطيم المياه، ولكن هناك العديد من الإجراءت التى يجب اتباعها أثناء تصميم المباني منها؛ تشييد المبنى من مواد مقاومة للحريق تتناسب مع الحمولة الحرارية المحتملة، تصميم الطرقات والممرات وسلالم المباني بحيث تسمح يإخلاء المبنى بسهولة، بينما يجب أن يراعى أثناء تصميمها تعليق اللوحات الإرشادية التى تدل على أماكن الهروب في حال نشوب أى حريق، وتقسيم المباني ذات الأحجام أو المساحات الكبيرة إلى وحدات صغيرة بإقامة فواصل (جدران- أسقف) من مواد مقاومة للنيران بحيث يصعب نفاذ النيران من خلالها وبذلك يمكن حصر الحريق داخل حيز محدود دون انتشاره في باقي المبنى.
كانت قلعة صلاح الدين الأيوبي بالمقطم، هي المحطة الرابعة لـ"مصراوي" حيث التشديداتٌ الأمنية وإجراءات التفتيش الصارمة على جميع المداخل. بنظرة عامة داخل حرم مسجد "محمد علي" الواسع قد يظن الزائر خلوّه من أي وسائل لإطفاء الحرائق، ولكن بالتدقيق يُلاحظ وجود طفايات على نوافذ المسجد، ساحة المسجد أيضًا احتوت عددا من الطفايات، إضافة إلى طفاية كبيرة في أحد الأركان.
فى قاعة المركبات الملكية الآثرية، عدد لافت من الطفايات بين القطع الآثرية وكذلك في أركان القاعة. ويقول "رامي.م"، مدير أمن قاعة المركبات الملكية، إن نظام إطفاء القاعة كاف ومناسب، إلا أنهم خاطبوا إدارة الصيانة بالقلعة لتحويل نظام الإطفاء من الطفايات التقليدية إلى نظام الحساسات الحديث حتى لا تتأثر القطع الأثرية بالمياه أو البودرة.
لكن في حالة اشتعال حريق بالقلعة فإن السجاد والموكيت المفروش بمسجد "محمد علي" سيساعد على سرعة امتداده، كما أن الآثارالمتواجدة قد تتلف حتى إذا تمت السيطرة على الحريق، حيث يفيد الكود المصري لهيئة الحماية المدنية بضرورة تزويد المناطق الأثرية بوسائل إطفاء تعتمد على ثاني أوكسيد الكربون بعيدًا عن الماء أو البودرة للمحافظة على الآثار وحمايتها، وهو ما اثبتت زيارتنا انعدام تواجده.
يقول اللواء "ممدوح عبدالقادر"، رئيس هيئة الحماية المدنية السابق، إن المشكلة تكمن في المنشآت غير المرخصة، لأن أغلب المباني المرخصة يتوجه أصحابها بخطاب رسمي لهيئة الحماية المدنية قبل البناء لترسل لجنة تعاين المكان وتوصي بإرشادات السلامة التي يجب تطبيقها، ولكن ذلك لا يحدث طوال الوقت لأن عقوبة مخالفة هذا النظام ضعيفة ولا تتجاوز تسديد بضعة جنيهات.
وأشار عبد القادر أن هناك العديد من المنشآت الحكومية في مصر غير مؤمنة كما ينبغي؛ منها مجمع التحرير "ملوش صاحب نقدر نحاسبه!". ويوضح أن دور هيئة الحماية المدنية يقتصر على التعامل مع الحريق حال نشوبه، ولكن مسؤولية التأمين الكاملة لا تقع على عاتقها وحدها، وتشترك فيها جهات عديدة منها الحي والمحافظة.
تفيد التقارير التى نشرتها الجمعية الدولية لعلوم السلامة من الحرائق "iafss.org" بأن ألمانيا واحدة من الدول الرائدة في هذا المجال كونها تطبق اشتراطات صارمة تعتمد على التحليل العلمي حيث اعتمدت الحكومة الألمانية على تدريب العديد من المتطوعين في مجال مكافحة الحرائق والذين زاد عددهم على عدد رجال الإطفاء العاملين بالمجال ذاته، لضمان الوصول الأسرع لموقع الحريق، بينما تمركز رجال الإطفاء التابعون لوحدات المكافحة في المناطق الصناعية الكبرى والمهمة.
اتبعت تلك المنهجية إحدى الشركات الكبرى التى نشأت في ألمانيا وهى شركة "شتوبيش" والتي تعتبر رائدة عالمياً في مجال "الحماية الهيكلية من الحرائق". وتهدف الشركة منذ انشائها إلى تغيير تصميم المباني بكل المقاطعات الألمانية حتى يُعاد تصميمها مرة أخرى بما يتوافق مع الآليات المستحدثة.
ومن ضمن هذه الآليات؛ تصميم طُرق خاصة للهرب في الممرات التي تقوم بتفعيل العزل الحراري لكي يستطيع الأفراد إخلاء المؤسسات، استخدام الستائر غير المرئية والتى يتم تصميمها باعتبارها جزءً لا يتجزأ من المباني فلا تُفرد أو تُلاحظ إلا في حالة وجود حريق حيث تُفرد تلقائيًا حال ارتفاع درجة الحرارة لتسمح بعزل النيران في حيز ضيق وعدم امتدادها لتطال باقي المبنى لتضمن تقسيم الغرف الكبيرة إلى مناطق أصغر، وتسد مهاوي المصاعد والسلالم والأقبية باعتبارها مسارات لانتشار الغازات، الدخان والنار. فأنظمة الحماية من الحرائق بألمانيا لا تعتمد -حسب موقع الشركة- على وجود أدوات للسيطرة على الحرائق بالمؤسسات ولكنها تعمل على تفادي الحرائق قبل حدوثها، والخروج بأقل خسائر ممكنة.
عائلة "يونس" التي فقدت أموالها وأعز أفرادها، ليست الأولى ضِمن سلسلة طويلة من الأفراد والعائلات التي أصابتها الحرائق بالجزع والخسارة، وفي ظِل انعدم تأمين المناطق الصناعية، وغياب وسائل الحماية المدنية بالمنشآت العامة، لن تكون حادثتهم الآخيرة أبدًا.
فيديو قد يعجبك: