إعلان

''الكراسة''.. شاهد صامت على رحيل الصغار

06:50 م الأربعاء 05 نوفمبر 2014

جانب من حادث تصادم البحيرة

كتبت- إشراق أحمد:

حملوها على ظهورهم، في حقيبة المدرسة، شدد على وجودها المعلم، وفرح الوالدين بكتابة صغارهم أسمائهم عليها، وغبطهم نظراؤهم لنيلهم فرصة لم يحظوا بها، منذ اليوم الأول بالتعليم أحضروا دفاترهم؛ ''كراسة'' بأوراق بيضاء، سطروا عليها حروف تعلموا هجائها، تاريخ كل يوم هم فيه، دونوا سطورا بالعربية عن الواجب والحقوق، عن تاريخ بلد، طُلب منهم التخلي عن ''شقاوة'' طفولتهم وقت تحية نشيده، ''بلادي بلادي لك حبي وفؤادي'' رددوها لسنوات، وفي الفصل سرح خيال البعض، فسطرت يده على هامش ورق الكراس الأبيض؛ أحلام وخواطر مكتوبة ومرسومة، فهذا كل ما عرفته ''الكراسة'' قبل أن يعرف الدم طريقه إليها.

مع طلوع شمس صباح يوم 8 إبريل 1970، وبقذائف غادرة لم يتخيلها صغار بالفصول، تهدمت مدرسة بحر البقر-الشرقية-، تناثرت أشلاء الصغار، كما دفاترهم ''كراستي مكتوب عليها تاريخ اليوم، مكتوب على كراستي اسمي، شايل عليها عرقي ودمي''، وسجلت الأوراق التي اُستهل بعضها بالبسملة صورة مجزرة، ارتكبها المحتل الصهيوني، راح ضحيتها قرابة 30 تلميذ بالصف الابتدائي، ولخصها صلاح جاهين بصوت شادية في أغنية ''انتهى الدرس''.

ربما ظنت ''كراسة'' الصغير، والصغيرة التي عافرت أيديهم للكتابة بها، حتى لا ينحدر القلم عن السطر، أن لا عهد للدماء بعد ذلك، ولا رفاق سيلحقوا بأصحابها، فالعبور تحقق والنصر تم والباغي أُخرج من مصر مع اندلاع حرب 73، لكن ذلك لم يحدث، لم تلبث أن تمر سنوات حتى عادت تشهد على أخلائها، كما شهدت على حروفهم وأحلامهم، لكن بوجوه شتى.

''الطفلة مصرية وسامرة.. كانت من أشطر تلاميذي''؛ أمام مدرسة المقريزي في مصر الجديدة تقدمت ابنة الثانية عشر عاما نحو باب الخروج؛ شيماء عبد الحليم لم تتخيل يوما أن تفدي ضحكتها رئيس وزراء مصر وقتها عاطف صدقي، انفجرت السيارة المستقرة بالقرب من المدرسة، التي أرادت أن تستهدف موكب ''صدقي''، لكن ما طالت إلا الصغيرة، فأودت بها أشلاء، وتركت دفاترها تسطر الدم.

''من طفل مولود في المر إنما كان حلو ضحوك الفم''، كانوا هم أيَضا بالمدرسة لكن هذه المرة في طريقهم إليها، ليس هناك حرب تنتفض لها البلاد، والإرهاب غاب كذلك، لكن شيء آخر اعترضهم، سلسلة مزلقان ''المندرة'' بمنفلوط في محافظة أسيوط المصنفة بأنها الأفقر بين محافظات مصر-وفقا لجهاز التعبئة العامة والإحصاء-، فترك السبيل مفتوحا أمام ''أتوبيس'' المعهد الأزهري، ومع قدوم القطار، تناثرت أشلاء أكثر من 50 تلميذا وأصيب آخرين، وتمزقت الدفاتر، وخرجت من الحقائب، منها ما التصق بواجهة القطار، وما افترش الأرض مفتوح الصفحات، وقد تشرب بدماء صاحبها مختلطة مع رفاقه، فـ''الكراسة'' باتت خالية منذ ذلك اليوم 17 نوفمبر 2012، تئن خوفا من تكرار الأمر.

عُرضت التعويضات، وانهالت التصريحات المطالبة بمحاسبة الإهمال، وانفض الجمع، و''الكراسة'' على الظهور محمولة كل يوم، قلقة فهي لم تتلمس محاولات تُبعد مصر عن مصاف الدول الأعلى نسبة في الحوادث، المتكررة بشكل شبه يومي هنا وهناك، لتقف في محطة أخرى جديدة المكان، مختلفة النتيجة، وكأنها ارتوت من الدم، وكأن ''الدرس'' يكبر مع عمر الضحايا،  فكانت النيران المتصدرة لحادث التصادم الواقع بالقرب من قرية أنور المفتي بأبو حمص –البحيرة- بعد أن التهمت أجساد 18 طالب بمدرسة الأورمان الثانوية الفندقية.

''ويرسم سيف يهد الزيف.. ويلمع لمعة شمس الصيف.. في دنيا النور فيها بقى طيف وساكتة على فعل الأباليس''؛ الدم السائل على الأوراق لم يعد ''راسم نار.. راسم عار على الصهيونية والاستعمار'' بل كل يد تشارك في الفساد، وكل عين تغفل عن الإهمال، وتترك طليقا بالطرقات، فيلتهم الكبير والصغير.

''انتهى الدرس لموا الكراريس'' يقولونها في كل مرة، منذ 18 إبريل 1970 من أجل أخذ الثأر لوطن استباح محتل حرمة أرضه، وفي التسعينيات صرخ بها موت ''شيماء'' في وجه كل من يظن أن العنف والموت والإرهاب هو الحل لإصلاح البلاد، وطيلة أكثر من ثلاثين عامًا تكفلت السنوات الأربع الأخيرة أن تمثلها، ظلت دماء الصغار على الطرقات تصيح بها لعل الآذان تسمع، والقلوب تعقل، لكن النتيجة مع قدوم ذكرى حادث قطار أسيوط  في نوفمبر الجاري، كانت تجميع وريقات دفاتر الطلاب، دون الشق الأول من وعي الدرس.

''وهب.. أخذ.. قذف.. قتل''؛ تفيض أرواح الصغار، يذهبوا في صباح اليوم التالي إلى المدرسة الجديدة، بها تتجلى أخيرً أوراق البعض وهو ''راسم شجرة التفاح في جناين الإصلاح''، بعد أن نالها التمزيق والسلب في المدرسة الأولى، يطمئن الصغار في سماء لن تعرف الحروب، الحوادث، الدم، الإهمال، ولا التصريحات المتهربة من المسؤولية.

 

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان