بأي حال جئت يا "محمد محمود".. صاحبي "اللي كتفه في كتفي" معتقل
كتبت - رنا الجميعي ودعاء الفولي:
لم يرغبوا بأكثر من التغيير، لكن لم ينالوا من ذاك الحُلم، سوى إحباط نال منهم؛ مجموعة من الأصدقاء ضمتهم الألفة أولا، ثم الثورة، وأحلام متقاربة، عايشوا أياما رأوا الموت فيها، بسبب الغضب الذي نشب فيهم، ورغبتهم في الانتقام من الظالمين، لكنهم لم يحصدوا من أحلامهم غير فراق صديقين، جمعتهما ذات القُبضان، أما الثلاثة الباقين فالمقهى سلواهم، وسبيلهم لنسيان ذكريات حزينة، فيما غيّمت عليهم سحابة من البلادة والنكران، فلم تعد سيرة شارع "محمد محمود" وما شابهه من أحداث تُحرك فيهم شيئًا.
بمجرد اندلاع أحداث "محمد محمود" نوفمبر 2011، جنحت عقول الأصدقاء الخمسة إلى الذهاب للتحرير، دون تخطيط مُسبق اتصلوا ببعضهم البعض، كانوا يتواجدون في المكان لإخبار الآخرين بما يحدث على الأرض "ياض الناس هنا بتموت زي النمل" كانت الجملة الأكثر شيوعا، استخدمها هيثم شوقي ليخبر بقية "الشلة" بالأوضاع.
حينها شعر محمود حسن أنه لابد من رحيل المجلس العسكري، رافق أصدقائه للوقوف في الصفوف الأولى، تعود لذاكرته كيف كانت كثافة الغاز ورائحته "اللي بيقفوا قدام بيبقوا في حرب".. ذلك المشهد كان محمود جزءً منه، حيث حاول مع البقية لمنع تقدم الشرطة في اتجاه الميدان.
يدًا بيد كان الرفقاء يدلفون شارع الموت، ليشدوا أزر بعضهم البعض "كنا بنلعب على وتر الجبن بس بهزار"، غير أنهم كانوا يُعنفون أحدهم إذا ما قرر القيام بمخاطرة ضخمة، مثل عمار شلش؛ كان وسطهم حين تقدموا بأحد المرات ثم اختفى "مكنش ينفع نرجع وفيه حد مننا مش موجود"، بحثوا عنه حتى ظهر من العدم؛ فحذروه قائلين "عمار متغوطش أوي احنا مع بعض خاف على نفسك وعلينا".
رائحة الغاز مُميتة، تختلط بطعم "الجبنة القريش" التي يوزعها رجل طاعن في السن، وضحكات الأصدقاء في مقرّهم القريب من المتحف المصري، وعبارة "طب يا شباب انا هطلّع أمي عُمرة وابقى أجيلكوا"، يقولها أحدهم كناية عن رغبته في الفرار، لكنه لا يفعل أبدا.
كان لدخولهم الشارع سوية هدف "مآمنش أدخل وجنبي حد معهرفوش" يحكي هيثم كيف تلفّحوا بشال فلسطين ليحتموا من القنابل، وصورة زوجته وابنه حديث الولادة تتبادر لذهنه، فيما هو بالصفوف الأولى أمام قوات الداخلية. رغم كل شيء كان الشباب يشعرون أنهم أبطال، أكبر مخاوفهم تمحورت حول الموت "كنا بنقول لو اتصبت هفضل عايش على الأقل".
ضمن مجموعة الأصدقاء المقربة كان عماد عبد المنعم. رافقهم في أحداث نوفمبر 2011 وفي 25 يناير أيضا، كان عماد من الذين لم يلقوا بحجر واحد تجاه الأمن، ولمّا سأله محمود عن السبب "يا عم حرام العسكري دا مش فاهم"، أما أثناء أحداث "محمد محمود"، فلم يتغير رد فعل عماد حين رأى الشباب الغاضب يهم بضرب عسكري، حاول منعهم، كما جمع المصابين من العساكر داخل مسجد عمر مكرم "اشترى لهم كراتين عصير، وشاش وميكروكروم".
بعدها بعامين فقط، في فجر يوم 24 ديسمبر، على أرضية السجن جلس عماد على ركبتيه، كان قد اُعتقل من عمله بأحد المواقع الهندسية، وبنفس الفترة تم القبض على عمار -أحد أفراد الصُحبة- وتم اتهام الشابين بالانضمام لجماعة إرهابية.
مربوطة يديه وراء ظهره كان عماد حينما وقف فردان من العساكر بجانبه، أحدهما يقول للثاني "مسي عليه يا عم"، فيرد الآخر "ما تسيبه"، غير أنه مع الضغط من زميله ضرب العسكري الشاب بالبيادة "حسيت إن روحي بتطلع فيها"، تلك الحكاية سردها عماد لصديقه في إحدى الزيارات له، وكان رد محمود عليه "شفت اللي انت خايف عليهم"، كانت هذه المرة من الزيارات القليلة التي استطاع فيها محمود رؤية صاحبه، إذ يدّعي أنه قريبه حتى يتحدث إليه.
خلال أيام لحق محمد حسني بالأصدقاء الأربعة داخل شارع محمد محمود، هدفه الأساسي الاطمئنان عليهم بدلا من الخوف الذي يأكل قلبه فيما هو بمكان عمله، على أرض الميدان تعاقبت عليهم المواقف "مرة قفشنا راجل معاه بطاقة الداخلية وكانت الناس عايزة تضربه"، لكن الرفقاء حموه من بطش الغاضبين، لعل أكثر ما يذكره محمد عن تلك الفترة أنهم لم يكونوا متطرفين في آرائهم، كذلك معظم من كانوا في التحرير "مفيش تخوين عكس اللي بقينا نشوفه الأيام دي".
بشكل نهائي قرر هيثم عدم النزول في أي حدث عقب "محمد محمود"، اقتنع أنه "مفيش فايدة"، لكنه ظل على تواصل مع ما يحدث في البلد عن طريق أصدقائه الذين نزلوا أحداث العباسية في مايو 2012 "عماد ومحمود كانوا بيحكولنا عن الناس اللي بتتقتل في الشارع"، لكن مبلغ أحلامه صار "الخروج من البلد"، إلا أن ارتباطه بعائلته الصغيرة منعه.
يذكر محمود مقتل أحد أصدقائه بالشارع، حيث خرج قبله بدقائق، كان مصطفى يشجع الشباب بالصفوف الأمامية، ثم توجه نحو الشرطة للتحدث مع الضابط، غير أنه عقب انتهائه، مشى الشاب عدة خطوات عائدا لموقعه فباغتته رصاصة قادمة من الخلف استقرت أعلى رأسه.
صور عديدة التقطها محمود لأيام نوفمبر 2011، يحتفظ بها إلى الآن، أكثر الصور التي يشاهدها مرارا هي لصديقه الأقرب عماد، فيما قرر هيثم أن يمحو كل الصور المتعلقة بالأحداث، لا لشيء إلا لفقدانه الأمل.
مع الوقت لم يعد وجود أحد الأصدقاء على الأرض دافعا لنزول الآخرين "بقيت عارف إن لو حد نزل عشان أنا قولتله ومات هبقى أنا السبب"، لم يعودوا واثقين أن الدولة تستحق، فيما تغير تعاملهم مع الأحداث من "انا جايلك حالا انت فين" إلى "مش هقدر آجي معاك بس خلي بالك من نفسك".
بمنطقة المطرية وما حولها يعيش الشباب؛ هيثم، محمود، محمد، عمار وعماد، لا يمر يوما إلا ويجلس الثلاثة الباقون على المقهى، "محمد محمود" بقي كذكرى يسترجعونها بمرارة وسخرية، هيثم كان يسمع بأذنيه سب المواطنين لشباب التحرير في مترو الأنفاق، كان هو وأصدقائه ينقسمون في احاديثهم إلى فريقين "اللي ميّال شوية للتيار الديني كان بيميل للإخوان واللي العكس كان بيميل للميدان"، اختلاف وجهات نظرهم كان حادا حتى ليشعر الناظرون أنهم على وشك التراشق بالأيدي "بس في الآخر كنا بنروح سوا ومحدش فينا بيشل من التاني".
عدوى اللامبالاة أصابت الأصحاب منذ أحداث العنف التي ألمت بالمطرية خلال عام 2014، لم تستوعب عقولهم سقوط مدنيين دون ذنب في الاشتباكات "يعني ايه عيل صغير يبقى رايح يجيب كشري يتضرب بطلقة في دماغه ويموت؟"، أصبح التبلد رفيقهم السادس، كان كالمخدر المؤقت "بقينا نحكي في أي كلام على القهوة.. حياتنا وشغلنا.. أما السياسة والبلد فخلاص"، وحينما يطرحون فيما بينهم 25 يناير القادمة، لا يتحمس أحد "عدّا علينا كام سنة فيها ذكرى الثورة، وعادي يعني مفيش جديد"، يعتقد محمود أن الظلم لا يدوم "والناس الموجودة على الساحة هتنتهى"، لكن آخرون هم من سيقوموا بالثورة والتغيير القادم، وليس هُو.
اعتقال عماد وعمار لم يترك للأصدقاء التفاصيل الحياتية التي اعتادوا عليها "اتعودنا ناكل في مطاعم معينة وننزل نتفسح في حتت بعينها.. ومن ساعة اللي حصل لعماد نفسنا مبتطاوعناش نتفسح من غيرهم"، وفيما كان "البلاي ستيشن" يُسلي أوقاتهم البطيئة على المقهى، إلا أن هذه الألعاب انتهى زمنها بعد القبض على الصديقين.
أحداث "محمد محمود" هي البوصلة التي تغيّر عندها المشاركون "الناس كانت حاسة إنها عاوزة تنتقم"، لم تكن تلك الأيام هي الأكثر بشاعة من ذكريات أخرى مرت على محمود، فلا ينسى أحداث العباسية "أنا شفت قصاد عيني أدمغة ناس، مكنش فيه غاز أصلا، كله كان خرطوش ورصاص".
الدائرة طويلة ومُفرغة، من لم يمت برصاصة سيموت كمدا؛ هذه الأفكار هي فحوى أحاديث الثلاثة الباقين، صداقتهم لم تتقلص، بل تحيا فيما بينهم بمظاهر شتى؛ انتظارهم أمام سيارة الترحيلات كي يروا عماد أو عمار، بجلوس محمود ومحمد في المستشفى حتى تنتهي عملية الغضروف التي يُجريها هيثم، ولازالوا يرون بعضهم مرتين على الأقل في الأسبوع.
باتت ذكريات "محمد محمود" تُعيدهم لزمن النضال الجميل، لكنها لن تُعيد لهم عماد أو عمار، اعتقالهما أكثر ما يُشعرهم بالعجز "لو نقدر نساعد بأي حاجة هنساعد بس اللي يوجع إننا مش عارفين نعمل حاجة"، لا يندمون على الخروج من أجل إصلاح الأحوال، فإذا ما دارت الدائرة واحتاجتهم الثورة، لربما يجتمعون مرة أخرى ليلبوا النداء سويا.
فيديو قد يعجبك: