بالفيديو والصور: "أبناء عيلبون" صورة مصغرة لمواجهة الاحتلال
كتبت- إشراق أحمد:
ديسمبر يطل بشتائه، العام 2005، "هشام زريق" بصحبه والده، لزيارة ابنة عمته المقيمة في "بازل" السويسرية، دار الحديث بين الثلاثة وتوقف عند "النكبة"، طلب الشاب والفتاة من "سالم زريق" أن يحكي القصة مرة أخرى، المكان كان له أثر في هذا، هنا بتلك المدينة الأوروبية خرج المؤتمر الأول للصهيونية عام 1879، مدبرا في خبث احتلال فلسطين، مئات المرات سمع "هشام" حكاية قريتهم "عِيلبُون" التي هدمها الصهاينة، غير أن تلك المرة مختلفة، "اتذكرها وكأنها تحدث الأن" قال الوالد بصوت مرتعش تخنقه الدموع، لأول مرة يرى الابن أبيه بهذه الحالة، ليتجمد الزمن عندها، ومع ترديده تلك الكلمات "مع الأسف لا يوجد مَن يوثق ما حدث قبل أن يموت الذين شهدوا النكبة".
لم يعلم الأب "سالم زريق" أنه بعد ثلاثة أعوام، سينوب عن ابنه لاستلام جائزة مهرجان "العودة" الفلسطيني عام 2008، عن الفيلم الذي أخرجه "هشام" لتوثيق جريمة المحتل بحق قريته، شعور بالفخر تملك الرجل المسن وهو يشاهد "أبناء عيلبون" الفيلم الوثائقي الأول لابنه، ولازمه حتى وفاته بالعام ذاته، وكأنه رحل بعد اطمئنانه أن طريق النضال موصول، يحفظه ويكلمه فرد مِن صلبه.
عِيلَبَون قرية صغيرة بمدينة الجليل الفلسطينية، قريبة من حدود لبنان كما قال "زريق" مخرج الفيلم، الذي عُرض في نحو 13 مهرجان حول العالم آخرهم تورونتو للفيلم الفلسطيني بكندا، دخل الاحتلال القرية صباح 30 أكتوبر 1948، عاث بها فسادًا حال 531 قرى فلسطينية دمرها، ففي بلدة آل "زريق" ارتكب المحتل مجزرة، حفظ أهل القرية مكان وقوعها بتسميته "ساحة الشهداء".
وقعت النكبة قبل نحو 20 عاما من ميلاد "زريق" الابن، المستقر في ألمانيا مع زوجته وابنه منذ عام 2001، لدرجة جعلت اللغة الانجليزية أسهل لديه في التعبير عن أفكاره بحكم الاعتياد، غير أن القضية الفلسطينية لم تغبِ عنه يوما، يُكرس عشقه للفنون لخدمتها، رغم دراسته لعلوم الكمبيوتر، وعمله مهندس برمجيات، لذا لم يتوانَ في تنفيذ فيلم وثائقي عن وحشية الاحتلال، مدفوعا بكلمات أبيه التي لم تفارقه.
24 دقيقة هي مدة الفيلم، يحكي به أبناء "عِيلبُون" قصة الجريمة التي ارتكبتها الخطة "دالت" لاحتلال فلسطين، وفي بلدتهم الصغيرة مَثل لما حدث. على أنغام الموسيقار اللبناني مارسيل خليفة تُروى التفاصيل، يستهلها "إيلان بابيه" المؤرخ اليهودي المدافع عن القضية الفلسطينية بالحديث عن النكبة، التي بدأ تنفيذها من عام 1897 حيت مؤتمر الصهيونية الأول، ويُعرض نص الوثيقة السرية الإسرائيلية المعطية الأوامر بإخلاء المناطق، والقضاء على كل العناصر "المعادية" –الفلسطينية.
دموع "أبناء عِيلَبُون" خط واصل بين الأشخاص مِن "رجال ونساء رفضوا أن تُنسى أهوال جريمة هذه الخطة الوحشية" كما قال "زريق"، الذي تواصل مع نحو 20 شخص ممن شهدوا يوم النكبة، تمر المشاهد أمامهم، يرونها كأنها تحدث لتوها؛ احتماء الأهل بالكنائس، انهيال الرصاص العشوائي فوق الرؤوس، والد "هشام" كان بينهم، وكذلك كل عائلة "زريق"، التي قتل الصهاينة ثلاثة منهم، لذا خرج الفيلم أشبه بمحاكاة ذاتية توثق حدث تاريخي، لم يكن الحزن المسيطر عليه فقط، بل النضال "فعِيلَبُون القرية الوحيدة التي طردها الاحتلال وعادت مرة أخرى"، حسب قول المخرج.
"النكبة ليست مجرد كلمة، لكنه حدث سلب الفلسطينيين أرضهم، الجرح الغائر حيث قُتل العديد من الفلسطينيين وذبحوا، والعديد يعيشون على بعد كيلو مترات قليلة من قراهم لكن لا يستطيعون العودة" هكذا عام 48 لـ"زريق"، مطالبا التوقف عن تسمية ذلك بـ"النكبة" بل "الهولوكوست الفلسطيني"، خاصة أن ما حدث وقع بعد عامين فقط على محرقة اليهود، حسب قوله.
جندي إسرائيلي مدجج بالسلاح يتجه نحو شقيقين من كفر عنان -قرية من عِيَلُبون-، أراد قتلهما، غير أن أمهما بقلة حيلة وغصة تكاد تنزع قلبها من مكانه، صرخت "اترك لي ولد منهما"، فكان لها ذلك، قتل أحدهما وعاش الأخر البالغ حينها 17 عاماـ، ليحكي لـ"زريق" أحد جرائم الاحتلال، الذي لازالت قريته تقاومه، كأحد قرى مناطق الـ48.
عاشت "عِيلَبُون" كما قال "زريق" تحت الحكم العسكري الإسرائيلي حتى عام 1966، دخلتها الكهرباء عام 1975، وأثناء تلك السنوات صادرت إسرائيل العديد من أراضي أهل القرية، مما قضى على مصدر دخلهم الأساسي "القليل جدا الآن يعمل بالزراعة"، كما أن الأراضي الواقعة حولها باتت في قبضة الإسرائيليين، مما منع عنها التوسع، "باختصار النضال لم يتوقف بعودة أهل عِيلَبُون بل هو عملية مستمرة".
لكل شيء نصيب من اسمه، وكذلك "عِيلَبُون"، فاسمها وفقا للمعنى العربي المتفق عليه "الأرض الصخرية الصلبة"، وبالنسبة لـ"زريق" هو المعنى المعبر عن أهلها "لأنهم نزحوا إلى لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1948، وعادوا لبيوتهم برغم كل المصاعب، وظلوا بها كما الأرض الصلبة"، وذلك سبب آخر دفع المخرج الأربعيني إلى تسجيل حكاية قريته الصغيرة لما بها من أمل "عِيلَبُون أعطت أهمية لحق العودة.. وأنا أريد أخبر العالم أجمع ما حدث للفلسطينيين ما بين عامي 1947-1948، وأنهم لم يهربوا، ولكن أغلبهم طرد، وتحولوا إلى لاجئين".
عمل "زريق" على إعداد الفيلم وإخراجه خلال عام 2006، قام بعمل فريق كامل، عاونه فقط مصور، وما زاده "أبناء عِيلَبُون" سوى معلومات أكثر عن الأحداث في فلسطين، وإدراكا لواقع "كم هو صعب أن تكون صانع أفلام فلسطيني تريد قول الحقيقة"، فما واجه المخرج المشاكل إلا لمضمون الفيلم من التمويل والمشاركة في المهرجانات، وتذكر "زريق" كلمات القناة الألمانية له "ستحصل على تمويل لو عملت فيلم يُظهر تعايش الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن ليس من أجل فيلم مثل فيلمك".
في ساحة الشهداء، تلك المنطقة الصغيرة بمركز الجانب القديم من عِيلَبُون، قادت قوات "الهاجناه" الإسرائيلية أهالي القرية، رافعين أيديهم فوق رؤوسهم، قبل أن يختاروا ذبائحهم، وضمنهم كان شقيق والد "زريق"، الذي وصفه بالفيلم "كان لابس رابطة منقطة" قبل أن تحتبس العَبرات في عينيه، ويتحرج صوته على استكمال الواقعة التي قتُل بها 17 من أبناء "عِيلَبُون" بدم بارد.
أنجز "زريق" فيلمه الأول وتبعه بأخرين يحملا عبق القضية، الأول عام 2009، والثاني 2011، يقاوم بتقسيم وقته لأجل الفن المعبر عن القضية، والعمل العائل لأسرته، ويعينه على المواصلة في الوقت ذاته، يستسقي من عزيمة أهل عِيلَبُون، ما يربت على كتفه في ظل غياب الدعم الذي يجعل أعماله تستغرق الكثير من الوقت، ويُعرضها للتوقف بين الحين والآخر.
"لأني رفضت الوقوف بدون صلاة" ختام يليق بـحديث أهل عِيلَبُون، انهت كلمات "محمود درويش" بصوت "مارسيل خليفة" الفيلم القصير، توفى والد "زريق" وعدد كبير ممن سجل الفيلم شهادتهم، غير أن المخرج يحفظ نصب عينيه وصيه أبيه وأهله، يَقسم أن يبقى على العهد ولو كان وحيدا، ويُكرس ماله وطاقته خلال السنوات القادمة لإنهاء النسخة المطولة من الفيلم، التي بدأها منذ 2007، لتوضيح مزيد من مجريات التاريخ والأحداث الشاهد عليها "أبناء عِيلَبُون".
تابع باقي موضوعات الملف:
67 عاما على الاحتلال.. فلسطين تكسب الرهان "ملف خاص"
في أول حوار عربي.. أبرز مؤرخ يهودي مدافع عن فلسطين يتحدث لـ "مصراوي"
الاحتلال يسكن مع "ناصر" في شقة 70 مترًا
بالفيديو والصور: الشهيد "فارس عودة".. راقص الدبكة يحيا
بالصور: مرابطات الأقصى.. نساء تزلزل المحتل بـ"تكبيرة"
أهداف سويف.. رحلة بنت فلسطين المصرية "حوار"
بالفيديو.. كيف تدافع عن فلسطين بلغة الغرب؟
بالصور: هنادي.. "ابنة الشتات" ستمر يوما من "فلسطين"
بالفيديو والصور: لينة النابلسي.. فراشة أحلامنا تطل من جديد
بالفيديو والصور: حناجر "ريم" و"رلي" تحاصر "بارود الصهاينة"
بالصور: فريق "المسارات المقدسي".. في حضرة فلسطين التي غيّبها الاحتلال
بالصور: في غزة فقط.. مواجهة المحتل بـ''سجادة حمراء''
خالد يقاوم حصار غزة بـ"الفرن الشمسي".. الاحتلال أبو الاختراع
فيديو قد يعجبك: