القطن.. ذهب مصر "مكدس" على الأرض في انتظار مشترٍ
القطن المصري
-مارينا ميلاد:
قبل أيام، كان مهدي الموجي (المزارع بمحافظة الدقهلية) يجلس جوار محصوله من القطن المتراص على الأرض، ويمسك هاتفه متلهفًا لسماع أخبار جيدة تأتيه من المزاد الجاري داخل مقر لجنة هيئة تحكيم واختبارات القطن لمحافظات الوجه البحري، والذي يبعد عنه أكثر من مائتي كم.
لكن خاب أمله حين أبلغوه أن الشركات الخاصة لم تشترِ كميات كثيرة من المحصول، ليبق محصوله ضمن نحو 37 ألف قنطار مكدس بالمحافظة (حسب تقديررئيس جمعية القطن بالدقهلية) لا يجد مشتري حتى موعد المزاد التالي، الذي لم يُحدد بعد.
طريقة بيع القطن للشركات الخاصة عبر المزادات، هي قوام المنظومة الجديدة التي بدأتها الحكومة منذ عام 2019 لـ"تحقيق الشفافية في عملية البيع وضمان أعلى عائد للمزارعين"، وفقا لما أعلنته حينها. لكن مزارعين يشكون الآن "عدم جدواها بالنسبة لهم".
فتلك اللحظة التي جنى فيها "مهدي" (73 عامًا) القطن قبل شهرين ونصف، عَمل بداخله شعورًا متناقضا ما بين سعادته بإنجاز زراعته بعد سبعة أشهر وتكلفة بلغت نحو 300 ألف جنيه لخمسة أفدنة، وما بين حزنه لقلة الإنتاجية في كل مرة. فاكتشف أنه جمع أربعة آلاف قنطار فقط بعدما كان يخرج بنحو 14 ألف قنطار خلال السنوات الثلاث السابقة.
ويعدد الرجل أسباب ذلك ما بين "عيوب التقاوي، والمبيدات غير السليمة، والظروف الجوية".
لكن على كل حال، واصل فعله وأخذ يفكر في السعر الذي سيرسي عليه المزاد المقبل لهذه الكمية، والذي يمكنه به شراء احتياجات شهر رمضان، إلى جانب سداد ما استدانه لشراء أسمدة ومبيدات غير تكلفة الجني نفسها. فتكلف فدانه الواحد قرابة 70 ألف جنيه.
مَشى باتجاه حلقة التجميع بمدينته بلقاس، وفقا لما تستدعيه منظومة العمل الجديدة، حيث يسجل بياناته ومواصفات محصوله، ويسلمه إليها لتطرحه بالمزاد. ثم ينتظر حتى يأتِ الموعد ويخبروه بالبيع.
لكنه لم يتوقع أن يحل شهر رمضان ويفوت المزاد دون أن يبيع أو يحصل على أي عائد مادي مؤقت!
يجول "مهدي" بنظره بين محصوله الممدد داخل أرض مركز التجميع الحاضر بها كاتب ووزان وخفير. ثم يقول بنبرة غاضبة: "هذا كل ما أملكه، نحن نعيش على مكسب يأتينا كل موسم ويتأخر كثيرًا، فلك أن تتخيل أن هذا المكسب لم يأتِ من الأساس!".
فانتهى المزاد الأخير على بيع أقطان نحو 23 حلقة فقط مـن إجمالي 444 حلقة من محافظات الوجه البحري التي جرى طرح كمياتها، على أن يتم طرح البقية في مزاد لاحق. وسجل سعر القنطار نحو 10 آلاف جنيه لأقطان الوجه البحري (طويلة التيلة)، والتي تضمنت أصناف سوبر جيزة 94، وسوبر جيزة 86، وسوبر جيزة 97، واكسترا جيزة 92. وذلك السعر هو ما حدده المسؤولون عن منظومة تجارة وتداول القطن التي تتولاها شركة مصر لحليج الأقطان، وهو ما يسمى "سعر ضمان" أو الحد الأدني لفتح المزاد.
وفي المزاد السابق، حددت الحكومة 12 ألف جنيه لقنطار القطن طويل التيلة (وجه بحري)، و10 آلاف جنيه لقنطار القطن قصير التيلة القادم من الوجه القبلي. لكنها خفضت السعر إلى 10 آلاف للوجه البحري و8 آلاف للوجه القبلي، ربما لإغراء الشركات الخاصة بالشراء، على أن تتحمل هي فارق السعر. لكن يبدو أن ذلك لم يكن كافيَا.
فإجمالي ما تم بيعه لم يصل إلى الكميات المستهدف بيعها، وفقًا لمستندات تظهر نتائج المزاد. فيقول أحد التجار فور انتهاء المزاد: "شركات القطاع الخاص أحجمت عن المشاركة بسبب ارتفاع سعر فتح المزاد عن أسعار القطن العالمية. فلا أحد يريد أن يخسر".
بالنسبة لـ"مهدي" كان ذلك الرفض غريبًا، فيحكي "أن في المواسم السابقة وصل سعر القنطار إلى 15 و16 ألف جنيه، ولو كانت الظروف أفضل لأنسحب هذه المرة، لكنه لم يقدر على تحمل الخسارة الكاملة".
ويكمل الرجل الذي ينفق على أسرته المكونة من عشر أفراد من الإيراد: "رمضان وارتفاع التكلفة بسبب سعر الدولار جعلني لا أفكر في المجازفة، رغم ذلك لم أحصل على شئ".
لذا يقول محمد سعد (رئيس جمعية القطن بالدقهلية)، إن مسألة المزاد التي طُبقت مع المنظومة الجديدة "أثبتت عدم فائدتها للمزارعين". وفي رأيه، "أن الشكل القديم للتعامل والبيع كان أكثر نفعًا، حيث يتوجه المزارع للجمعية الزراعية بالمحافظة ويورد محصوله ليتقاضى مقدم سعر البيع ثم باقي المبلغ خلال 15 يومًا بعد الفحص".
أما الآن، كما يذكر، فينتظر المزارع طويلا بعد جني محصوله حتى يتحدد ميعاد المزاد، وإن تم بيع كميته في أفضل الأحوال، قد يتقاضى مستحقاته بعد فترة طويلة، فهناك مزارعين لم يحصلوا عليها منذ شهر ديسمبر الماضي أو ربما قبله.
كما أن الجمعيات الزراعية، حسب وصفه، "باتت دكاكين مقفولة، ليس هناك استفادة منها".
وفي أغسطس 2019، أعلنت الحكومة منظومة جديدة لتداول وتسويق الأقطان من داخل محلج الفيوم. وتلخصت في "أن يقوم المزارعون بتسليم الأقطان - مباشرة ودون وسطاء - لمراكز تجميع لإجراء مزادات عليها مع تحديد الحكومة لسعر محدد للبيع يسمى سعر ضمان".
وهذا من شأنه "تحقيق الشفافية في عملية البيع وضمان أعلى عائد للمزارعين ومواجهة السلبيات في النظام السابق للتداول والتغلب عليها"، وفقا لرؤية وزارة قطاع الأعمال.
وبالفعل، شرعت في تنفيذ النظام الجديد تجريبًا في محافظتي الفيوم وبني سويف، ثم عممت الأمر على بقية المحافظات لاحقًا.
وفي أغلب الأحيان، عزفت شركات تجارة الأقطان من القطاع الخاص عن المشاركة في المزادات بدعوى ارتفاع سعر فتح المزاد، وهو ما أثر على "مهدي" وغيره بمرور الوقت، بل وشعر أن "مصيره بيدهم"، كما يقول.
لهذا؛ يرى عفيفي قادوس (عضو الجمعية العامة لمنتجي القطن)، أن "القطن يجب أن يكون مدعومًا من الدولة، تشتريه من المزارعين وفقا لأسعار عادلة تناسب تكلفة زراعته ثم تتعامل هي مع الشركات، ولا يكون رزق المزارع مرهونًا بإقبال وعزوف الشركات الخاصة أو متروك للأسعار العالمية".
فيما يحتاج محمد سعد (رئيس جمعية القطن بالدقهلية) لما يسميه بـ"ضبط" أمور كثيرة بهذه المنظومة كالتوريد بالحيازة الفعلية، أي لا يطرح أحد أكثر مما يملك، وتوفير البذرة الإكثار، غير توقيتات المزادات التي يجب أن تناسب وقت جني القطن.
وقد حاولنا التواصل مع شركة مصر لحليج الأقطان المسؤولة عن المنظومة ولم نتلق ردًا.
وبينما يتنقل "مهدي" بين شجيرات حاملة على أعناقها رؤؤس قطن ناصعة البياض في قريته، تذكر حين كان يشمر جلبابه وهو صغير ويهرول عبر الحقول الخضراء الممتدة بطول قريته، ليلحق بالعمال وأبيه ويجنون القطن معًا. يقول: "كانت فرحة جني القطن لا تقارن بأي شيء آخر".
وقتها، ارتفع متوسط مساحات زراعة القطن، واستمر كأحد أهم مصادر الدخل للفلاحين وللدولة على حد سواء، قبل أن يتراجع مع إلغاء الدورة الزراعية الإجبارية عام 1994 (كانت تحدد للمزارعين نوعية الأصناف ومساحة الأراضي المنزرعة بها) وقلة جودة البذور ورفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج. ومع مرور الزمن وبفعل الكثير من القرارات، تقلصت أرض عائلة "مهدي" والإنتاجية وأدخل على القطن محاصيل أخرى كالأرز والفاصوليا والقمح.
وأصبح القطن، كما يقول الرجل بأسى، "لا يأتِ بهمه ولا بتكلفته".
يلتف "مهدي" لينظر إلى محصوله المحشور داخل أكياس بنية متهرأه بفعل الشمس والتقلبات الجوية، وينتظر مع غيره قرارا حكوميًا يحدد مصير تلك المحاصيل المتراكمة من القطن إما تقوم شركة مصر لحليج القطن بشراء كامل الكميات أو موعد مزاد أخير قبل إغلاق الموسم، قد يباع فيه قطنهم أو لا.
فيديو قد يعجبك: