''نهلة النمر'': كسرت خوفي بـ ''15 جنيه'' واليتم منحني 100 أخت
حوار - يسرا سلامة:
وسط مجموعة أطفال أيتام، وقفت هى بخطوة واثقة، تحدثهم عن الرضا وحب الآخرين، الأخوة التي يجدهم كل يتيم في وسط دار كبير، وعن الرحمة والحب، ومقاومة صورة سلبية تحجرت في ذهن مجتمع، شخَص الأيتام في تبرعات ويوم في بداية شهر أبريل، وقسى عليهم في الكبر، لم يبدُ للأطفال أن الأمر مقنعا إلا عندما نطقت أمامهم بمكنون شخصيتها "على فكرة أنا يتيمة زيكم"، في إشارة إنها كانت واحدة من بنات دار أيتام، لتنفرج أساريرهم ويندمجون بداخل الورشة المُصصمة لتنمية مهارات الأيتام.
"نهلة النمر"، فتاة مصرية نشأت في دار أيتام، لا تعرف بيتا أو أسرة، حاربت ظروف اليتم، في تعليمها وعملها، لتصبح من رواد تنمية المتطوعين والأيتام في هذا المجال، هادئة، تحمل من مصر سُمرة البشرة والضحكة التي لا تفارق شفتيها، وحب الحياة، عدد من الجوائز والتكريمات حصلت عليها الفتاة في مصر وبلدان عربية، بجانب حديثها في كلمة بسلسلة المؤتمرات العالمية لنشر الأفكار المتميزة والمعروفة بـTEDX، ليمنحها اليتم قصة نجاح تحكيها في حوارها مع "مصراوي".
تعود "نهلة" قبل تلك الورشة مع الأطفال إلى الوراء، منذ أن كانت مثلهم طفلة بأحد دور الأيتام بمحافظة القاهرة، من مها إلى هدى وغيرها من الأسماء، تعددت وبقيت الشخصية واحدة، حتى استقر المشرفون على الدار على اسمها "نهلة مجدي سعيد".
طفولة "جنب الحيط"
أيام بداخل الدار قضتها الفتاة هادئة "إحنا لو حطناكي جنب الحيط مش هتعملي حاجة".. هكذا قالت لها إحدى المشرفات كلمة لم تنساها الفتاة، التي قضت ما يقارب من إحدى وعشرين عاما بين جدران الدار، لا تحب تسمية الدار بـ"الملجأ"، تعبر اللفظة إهانة تحتاج إلى تغيير في ذهن المجتمع، عاشت بين مراحل عمرية متعددة من أخواتها الأيتام، لتجمع في تلك الفترة من أيامها في الدار ما يقارب من 150 "أخت"، كما تحب أن تصف.
وكما تعددت الأخوات، تعددت المشرفات والأمهات البديلة، يأتين ويرحلن، يتركون في ذهن الفتاة ذكرى لا تُنسى، حين ظنت في صغرها أن المعارك بين الفتيات في الدار لا تحدث إلا بينهن، وأن البيوت من خلف جدران الدار تحوي أسر هادئة، ينعم بها الأطفال بآباء وأمهات واستقرار أسري، لتجد أحد المتطوعات تقول لمشرفة "كل الأسر بتتخانق زي بنات الدار بالظبط".
حياة وسط الصلاة والتعلم عاشتها "نهلة" في الدار، تتقاسم الفتيات الثواب والعقاب ولو على واحدة منهن، "تربية ملاجئ".. لفظة تعتبرها "نهلة" إهانة وتنميط من المجتمع للأيتام، تواجه "نهلة" أزمة تلك الصورة بقولها الساخر "إحنا زي الأطفال العادية، مفيش اختلاف إلا إننا من غير أم وأب"، يحمل الخارج كما رأت "نهلة" في أيامها كشابة صورة غير صحيحة عن فتيات الأيتام "دايما كنت بتسأل انتوا بتاكلوا لحمة زي الناس العادية؟ ودايما بقول أيوة احنا بناكل زي الناس يا جماعة، ومهتمين بنظافتنا ومظهرنا في المدرسة".
"أبوكي بيشتغل إيه؟"
كانت الفتاة تقطع الطريق من الدار إلى أبواب المدرسة المجاورة، تتحرك في جولة مع أخوتها بالدار، تعرف الإدارة بالمدرسة والمدرسات أن هناك طالبات أيتام يأتين للتعلم، وغاب الأمر عن أحد المدرسين مرة في أول حصة لها بالمرحلة الإعدادية، ليسأل كل طالبة عن مهنة أبيها، تلعثمت الفتاة قبل أن يأتي دورها، التفت يمينا ويسارا، حتى وجدت في إجابة أحد الفتيات أن والدها متوفي شفاء لحرجها الكبير في سنها الصغير.
ويأتي دور الفتاة في إجابة السؤال الصعب، وتقول إن والدها متوفي، ليرد المدرس بسؤال أكثر صعوبة عن مهنة والدها قبل وفاته، لتصمت دون إجابة، ويعاود سؤالها عن اسمها رباعيا ويلازمها الصمت "مش بس كان إحراج، أصلا مكنتش أعرف يعني أيه كلمة "أبوكي"، وليه بيسأل، كنت في قمة خوفي وعرفت بعدين إنه بيسأل عشان يعرف مين يقدر ياخد عنده مجموعة ولا لأ.. ومكنتش أعرف يعني إيه أسم رباعي، إلى أن ضافوا لأسمي "النمر" بعدين".
"يا بتوع الملجأ".. كلمات لاذعة طرقت أذن "نهلة" وأخوتها منذ صغرها، من صبية وقفوا خارج المدرسة عرفوا بالسر الذي لم يكن كذلك في الصغر، الدائرة الصغيرة التي عرفتها الفتاة اتسعت، ومعها اتسع الخوف من البوح بسرها عن اليُتم وسُكن الدار، بجانب ضيق أكبر تحصل عليه الفتاة وحدها بسبب بشرتها السمراء.
التمرد على سقف "المعهد"
الفتاة الهادئة كما تعود عليها أقرانها ومشرفيها، انطلقت خارج السرب، حين أصرت على استكمال تعليمها، عرف غير مكتوب اتفق عليه كل المشرفات في دور الأيتام، ألا تخرج الفتيات لمرحلة التعلم بالثانوية العامة، وتختار بعد الإعدادية أحد المعاهد المناسبة للفتيات، كمعهد التمريض أو السياحة والفنادق، ليظل استكمال التعليم الجامعي سقف لفتيات الأيتام، دون مبرر، "كان لسان حالهم بيقولنا (كويس إننا علمناكم لحد كدة)، لكنى صممت على التعليم".
المركز الأول على منطقة مصر القديمة، حصلت عليه الفتاة في الإعدادية، الفتاة الشغوف بالقراءة والاستذكار "كنت بهرب بالقراءة بالقصص والروايات، من مجلات ميكي وسمير إلى روايات إحسان عبد القدوس ويوسف إدريس"، لم تعتقد أن استكمال دراستها أمر بهذه الصعوبة، ووسط تعنت مشرفات الدار، ذهبت الفتاة وحدها إلى مدرسة الإعدادية وسحبت أوراقها بعد دفع سبعة جنيهات ونصف، ومثلهم في المدرسة الثانوية "بـ15 جنيه كانت كل تحويشة من مصروفي"، تتذكر الفتاة الموقف مازحة "كان كل همّي إن إزاي هقضي الصيف من غير ولا مليم"، لتفاجئ المشرفات بما فعلته، وتحصل بعدها على 15 جنيه آخرين "في الأول اتفاجأوا لكن رضخوا لاختياري"، لا ترى الفتاة أن الثانوية لم تكن حلما لها إلا لإنه تحدي "كنت رافضة التمريض، ومش بحلم إني أكون حاجة، بس حسيت في وقتها إني متفوقة ومن حقي أكمل تعليمي، ولو ما فتحتش الباب كان هيفضل مغلق".
أسئلة الصغر.. "كارثة" مشرفات
الفتاة الصغيرة التي أصبحت من رائدات تنمية دور الأيتام في مؤسسة "وطنية"، المعنية بتنمية وتطوير دور الأيتام، ترى أن ذلك الموقف ما هو إلا مؤشر لأزمة كبرى في تأهيل الأخصائيات الاجتماعيات والمشرفات على الدار، "ياريت كانوا يفهمونا يعني إيه يتم وإزاي نواجه المجتمع بأسئلته المحرجة، كانوا بيهتموا بلبسنا وأكلنا، ومش عارفين إن سؤال واحد من نوعية "أبوكي شغال إيه" ممكن تبقى كارثة تهدم حياتنا.. مش عارفين حتى يعني إيه أيتام".
رهبة من الناس كانت تملأ الفتاة؛ خوفا من ردة فعلهم لمعرفته حقيقة يُتمها، تفاصيل بينها وبين زملائها في الثانوية العامة أصبحت تخفيها، إذ إنها الوحيدة بين فتيات الدار التي ذهبت للمدرسة، "مكنتش بقول لكل أصحابي إني يتيمة وفي دار، لو كان حصل كان هيتعمل عليا حفلة، خاصة وسط فتيات في مرحلة مراهقة بكل ما فيها من منافسة بين الفتيات"، كانت تفكر الفتاة مرات ومرات كيف تحكي إنها بلا أسرة، تقول إن الأمر يبدو عاديا حين تقول إنها يتيمة وتعيش مع أسرة أهلها، لكن المفاجأة واللمزات تحدث حين تتبدل الأسرة بدار أيتام، "كان صعب احكي إن عندي أكثر من 100 أخت، وإني في يوم هقول أسماء لأخوات هيتغيروا في اليوم اللي بعده".
تلك الرهبة خفت قليلا كلما كبرت "نهلة"، وادركت أنه لا خوف في مواجهة مجتمع بأكمله، وأن اليُتم ليس سُبة لها، بدا الأمر صعبا حين سألت أحد مشرفاتها للتقديم في معهد الخدمة الاجتماعية، وتسأل المشرفة "أقول لزمايلي إني يتيمة؟" لتقول المشرفة لها "بلاش أحسن"، لتعرف الفتاة أن تحدي المجتمع أمر ليس سهلا، تسخر الفتاة من أحلامها "كنت بحلم إني أكون زوجة رجل مهم.. وده معناه إني هكون أكيد مهمة".
اليتيمة والمتدربة في نفس الدار
تحدي كبير واجهته "نهلة" في دراستها بمعهد الخدمة الاجتماعية، محاضرات عديدة سمعتها الفتاة بينها نصائح من الأساتذة عن كيفية التعامل مع اليتيم، وأسئلة تعبر عن مكنون نظرة المجتمع للأيتام من زملائها، دون أن يدري الطلاب أن زميلة لهم يتيمة بجواره، "كان صعب أقول إلا لناس قريبة مني جدا"، لتواجه "نهلة" موقف آخر عند بداية التدريب العملي، والتي كانت من المفترض أن تتدرب في أحد دور الأيتام، وتبدو المفاجأة على زملاء لها، يجدوها تعيش في نفس الدار الموكل لهم فيها التدريب.
رد فعل قاسي من أبناء دفعتها، لم تلتفت له الفتاة بالسنة النهائية بالمعهد "كنت عايزة السنة تعدي"، الرهبة الكبرى تحولت مع الوقت لـ"نظرة فخر"، للفتاة التي تحدت واقعها، قوة تمت بداخل روح الفتاة "كلمة "قوية" كنت بسمعها ومش فاهماها قوي، لغاية ما فعلا حسيتها، ولما بقيت مش مضطرة اخبي إني يتيمة، وإنه "بيدي لا بيد عمرو"، لازم وضع التعامل مع الأيتام والنظرة ليهم يتغير".
تلوم الفتاة على تعامل الإعلام مع الأيتام، والصورة النمطية التي تنقلها الدراما، كما تقول "الأيتام دايما أما بلطجية أو مدمنين أو لو بنت بتبقى منحرفة، وحتى النموذج الوحيد اللي جسده يحيى الفخراني في مسلسل "العدالة وجوه كثيرة" كان البطل لا يواجه المجتمع بحقيقته"، ترى العاملة في مجال دمج الأيتام أن المنظومة كلها يجب أن تتغير في التعامل مع الأيتام، وألا ترى اليتيم في يوم واحد أو احتفالية".
ثمرة تجربتها في تنمية قدرات الاخصائيين
إيمان يغمر "نهلة" أن لديها رسالة للعالم، رسالة تحملها عن واقع الأيتام، "فكرت إني اتجوز واخلف وإني اخفي يُتمي، أو إني اكتفي بالدراسة في المعهد، لكن حسيت إن فيه رسالة لازم احققها"، تقول الفتاة أنها شعرت بهذا حين بدأت منذ قرابة الثلاث سنوات بالعمل بشكل مندمج مع "وطنية"، وتنمية قدرات الاخصائيات والاخصائيين الاجتماعيين للتعامل مع الأيتام، وعقد ورش عمل للأيتام من أجل تأهيلهم لمجتمع ينمطهم، "بحاول أقدم لهم إللى أنا اتحرمت منه.. كل شخص في أي دار أيتام من المدير للبواب محتاج تأهيل".
ورغم ذلك الواقع لا تنكر الفتاة فضل الدار عليها، وشكر لكل الاخصائيات وأخوتها الفتيات، "لسة بيتي وبحبه وهما أهلي"، تقول "نهلة" "حتى أساليب الضرب في الدار، فهمت بعدين إن أسلوب التربية لإنهم ميعرفوش الأسلوب الصح"، تتابع الفتاة "ساعات بضطر اعذرهم لإن طريقة فهمهم للعالم كانت كدة".
على لافتة مكتبها، تحل "نهلة" فس صورها صنعها الأصدقاء لها وسط عظماء من الأيتام، مثل مانديلا وعبد الحليم حافظ، بعد أن انتشرت تلك الصورة من خلال هاشتاج #حكاية_نهلة، تحكي قصتها من خلال هذا الهاشتاج، ترى الطفلة أن اليتيم هو شخص لديه القدرة على أن يكون عظيما إذا توفرت له الامكانيات، تضرب مثلا على تعنت المجتمع تجاه الأيتام "لو طفل يتيم في مدرسة تشاجر مع طفل آخر، دائما يتم لوم الطفل اليتيم دون البحث في الشكوى".
تحلم "نهلة" أن يكون المجتمع أكثر وعيا بكيفية التعامل مع اليتيم، ترى أن ذلك يتحسن، لكن ينقصه الكثير، عدة تكريمات حصلت عليها "نهلة" من وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي أثناء وجودها في تدريب الاخصائيين الاجتماعيين، وذلك للاحتفاء بأول دفعة لدارسي "اكسيل الدولية" لتعزيز قدرات نمو الأطفال، وتنمية مهاراتهم، بجانب تكريم لجمعية "وطنية" كأفضل جمعية عربية تساهم في خدمة الأيتام في فئة القضايا الإنسانية من دبي.
فيديو قد يعجبك: