هاني المصري.. رحلة "كيمو الأصلي" إلى العالمية
كتب - محمد مهدي:
في نهار أحد أيام شهر أكتوبر من عام 1967، سمع المارين من أمام مدرسة الجيزويت صُراخ تجاوز أسوار المدرسة من قوته وإلحاحه، بالداخل التف المدرسين حول طالب لم يتعدَ الـ 16 عامًا، يمسك فَكه باكيًا طالبًا الخروج من المدرسة للذهاب إلى طبيب أسنان يُنقذه من آلامه، كان الأمر يبدو حقيقيا لا زيف فيه؛ فقرروا السماح له بالرحيل مبكرا عن الموعد المُحدد لليوم الدراسي، وما أن خرج "هاني المصري" من بوابه المدرسة وابتعد قليلا حتى ارتسمت على ملامحه ابتسامة النصر، فيما كانت يداه تتحسس مكمن النقود في جيوبه قبل أن ينطلق إلى سينما مترو بوسط المدينة لمشاهدة فيلم "The jungle book" خمس مرات متتالية، مغامرة صغيرة تمهد لرحلة كبيرة للفتى الذي سيتحول عبر السنوات إلى رسام ومصمم كبير يكتب اسمه بريشة من ذهب في استديوهات "والت ديزني".
منذ صغره؛ بدا واضحًا أن هناك ما يجذب "المصري" إلى الرسم والألوان، لذا بعد تخطيه المرحلة الثانوية في دراسته، قرر الالتحاق بقسم الديكور بكلية فنون جميلة على غير رغبة أسرته التي فضلت أن يُكمل طريقه الدراسي بين أسوار كلية الهندسة، فعلَ المستحيل للوصول إلى وجهته حتى أنه لجأ إلى وزير التعليم العالي لأكثر من مرة حتى وافق الرجل على ضمه للكلية بقرار وزاري، وهناك وجد ضالته، شغفه بالرسم والتصميم والعمارة.. وصار الطريق من منزله بمصر الجديدة إلى الكلية بالزمالك متعة يومية.
بجانب دراسته؛ انهمك "المصري" في العمل بالمسرح حيث قدم عدد كبير من الديكورات على مسارح الجامعات المختلفة مع المخرج سمير العصفوري، الذي استعان به بعد شهور من تخرجه عام 1974، في مسرحية إيزيس" ليجد نفسه مسؤولا عن عمل كبير تابع للمسرح القومي يتم عرضه في باريس بإمكانيات صغيرة، غير أنه تمكن من النجاح في الاختبار الأول ليستكمل مشواره في نفس المهنة بمسرحيات أخرى مثل "العيال كبرت" و"إنها حقا عائلة محترمة" للفنان فؤاد المهندس، كما قام بتصميم "بوستر" مسرحية "شاهد مشفش حاجة" بطولة عادل إمام.
في أواخر السبعينيات، وبينما يعمل "المصري" داخل مرسم خاص بشركة دعاية، فوجئ بوصول مديره في العمل برفقة رجل مُسن، عَلم أنه أحد أفراد عائلة "جروبي"، يرغب في بيع ممتلكات العائلة قبل الرحيل عن مصر، وضرورة تغيير ماركة مصنع الآيس كريم لبيعه منفصلا عن باقي مصانع ومحلات الأسرة، اقترح الفنان العشريني - وقتها - ابتكار شخصية جديدة تتحول إلى ماركة جديدة للمصنع، تمت الموافقة على الفِكرة على أمل الوصول لشخصية فريدة ساحرة تجذب الأطفال إليها، غادروا المكان وتركوا "المصري" لتنفيذ المهمة الصعبة.
داخل مرسمُه، برفقة أقلامه وأوراقه، جلس "المصري" لساعات يحاول ابتكار الشخصية القادرة على دخول قلوب الأطفال بيسر، دار في خاطره استغلال حيوانات مختلفة، أرانب وقرود ودولفين، لكنه لم يرضَ عن أي نتيجة رغم المجهود المبذول في الرسومات، حتى تذكر هيئته وهو صغير حينما كان يعاني من السمنة ويتلقى تعليقات ساخرة من الأسرة على وزنه وتسميته بـ "الدبة الزرقاء" لأنه كثيرا ما كان يرتدي ملابس زرقاء، لحظتها اشتعلت الفكرة في رأسه، دبّ الحماس في يديه، وبدأ في رسم دبّ أزرق سمين، يشبهه تمامًا، وفي اليوم التالي كان يحمل أوراقه وشخصيته الجديدة، وفور الكشف عنها فوجئ بحماس الحضور وموافقة أسرة "جروبي" عليها وطلبهم بسرعة العمل على تصميم العبوات ومطبوعات مصنع الآيس كريم.
رغم الشهرة الجيدة التي حققها "المصري" في نطاق عمله خلال وقت قصير، إلا أنه قرر في منتصف الثمانينيات مغادرة مصر، والذهاب إلى أمريكا، بعد وفاة أساتذته "صلاح جاهين" و"يوسف إدريس" و"شادي عبدالسلام" فضلا عن واقعة جمع من ينتمون إلى الجماعات الإسلامية للنسخة الشعبية من ألف ليلة وليلة وحرقها في وسط ميدان الحسين، شعر لحظتها أنه لن يستطع العيش هنا، روحه تحتاج إلى الفرار، عقله شغوف بتعلم شيء جديد، لم ينتظر كثيرا، قام باستخراج تصريح للسفر مع أسرته كسياحة إلى الولايات المتحدة، وهناك استكمل مشواره الطويل نحو العالمية.
عاش "المصري" لعدة سنوات في منزل صغير بمدينة نيوجيرسي برفقة أسرته، يعمل في شركات دعاية وتصميم غير معروفة أو مجلة العربي الصغير، يتقاضى أجرًا يكفيه بالكاد، لكنه لم ييأس أبدًا، كان لديه حُلم بالانضمام إلى كتيبة العمل داخل استديوهات "والت ديزني" لم يتخلَ عنه حتى في تلك اللحظات التي واجه فيها الرفض من قِبل الشركة بعد محاولات عديدة لتتقدم إلى وظائف في الشركة العملاقة، قبل أن يتمكن من تحقيق حلمه في مارس 1990 ويتم الموافقة على وجوده ضمن العاملين في "والت ديزني".
في عام 1998 عمل "المصري" ضمن القائمين على فيلم "The Prince Of Egypt" من إنتاج المخرج الكبير ستيفن سبيلبيرج، عن قصة خروج اليهود من مصر، ولعب دورًا كبيرًا في تطوير القصة وتدقيقها بصريًا وتاريخيًا، والتصدي لتخريب متعمد للشخصية المصرية خلال العمل، حيث طالبوه برسم حورس بأجنحه تشبه النسر النازي، وتصميم مسيرة العساكر المصرية أشبه بخطوات الإوز لكنه هدد بترك الشركة واللجوء إلى الصحافة لفضحهم فتراجعوا عن طلباتهم، في الوقت نفسه شارك الفنان الكبير في أعمال أخرى عالمية من ضمنها "thedorado" و"spirit".
منذ عدة سنوات اختار الرسام والمصمم العالمي العودة إلى مصر من جديد، في محاولة منه لتمرير خبراته وإفادته بلاده بكل ما تعلمه في سنوات الغربة، سعى من أجل إنشاء أول استديو للرسوم المتحركة في مصر لكنه لم ينجح، قام بتصميم لوحة جدارية (خيامية) عن قصة ألف ليلة وليلة، ارتفاعها 5 أمتار وطولها 8، تحوي آلاف القطع من القماش، وأكثر من 100 لون، عرضت لأكثر من مرة في أماكن ثقافية منها داخل قصر الأمير طاز الذي يعتبره "المصري" أفضل الأيام التي ظهرت فيها اللوحة.
اعتاد طلبه ومحبي الفنان الكبير على طلته اليومية من خلال صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، يتحدث عن مسيرته تارة، يطرح نقاش حول قضية ثقافية تارة أخرى، ينشر صورًا مع فنانين عالميين؛ التقى بهم خلال رحلته في هوليود، ومؤخرًا إعلانه عن إصابته بمرض سرطان الدم في مارس الماضي، ويومياته مع المرض اللعين، انتصاره أحيانا، وهزيمته في أوقات ثانية، قبل أن يكتب لهم منذ أيام عن وصوله لمرحلة حرجة مع الأمراض التي يعاني منها ورغبته في حالة وفاته بالابتعاد عن الحزن "أرجوكم متحزنوش.. وافتكروا فيا مع الضحكات والمناقشات والأفكار اللي حاتخدموا بيها حبيبتنا كلنا مصر الوطن"، ليفاجئ عشاقه مساء الاثنين بخبر وفاته عن عمر يناهز الـ 64 عاما، تاركا سيرة عطرة وتاريخ مشرف ومحبة لا تنتهي.
فيديو قد يعجبك: