"سارة".. من دمنهور للقاهرة "كعب داير" يوميا
كتبت-رنا الجميعي:
ثمان أعوام قضتها "سارة عادل" بين دمنهور والقاهرة، حفظت معالم الطريق الزراعي، ويبدو أن الطريق عرفها أيضًا، تقول "سارة"، صحفية بإحدى المؤسسات الإعلامية، إنه حسب سجلات السكك الحديدية، فإن المسافة بين المدينتين "147 كيلو"، أي ما يعادل الساعتين وعشر دقائق بالقطار، وتبعًا لعلامات النقل والكباري فإن المسافة هي "158 كيلو"، وهو ما يقارب الساعتين والنصف من موقف "عبود".
قدمت "سارة" من "دمنهور" المدينة التابعة لمحافظة البحيرة إلى القاهرة، أخبرتها نتيجة الثانوية العامة عام 2008؛ أنها تستطيع تحقيق حلمها بدخول إعلام جامعة القاهرة، جاءت النقاشات حول مكان السكن، والتي آلت إلى أنها بالضرورة ستقدم ورقها إلى المدينة الجامعية، بعد التقديم حاولت أن تسأل ما الذي سيحدث بعد ذلك، كيف تعرف أنها مقبولة ومتى تسكن هناك، إلا أنها لم تصل لإجابات مرضية.
"صدمة حضارية"
مع قدوم الدراسة أعدّت "سارة" حقائبها للسفر، بدأت والدتها، وهي الابنة الوحيدة لها، بإعطائها النصائح المعتادة لفتاة ستعيش بالقاهرة لمفردها، ومع العناق حتى انقلب الموقف "إلى دراما، وعيطنا احنا الاتنين"، هُنا تراجعت الفتاة الجامعية عن قرار السكن "بشكل مبدئي". ما إن رأت "سارة" السكن بالمدينة التي ستعيش به حتى رفضت العيش هناك بشكل مطلق، كذلك والدتها التي اصطحبتها "كنت دلوعة جدًا وقتها"، لذا كان مشهد الغرفة والأسّرة غير مناسب للشابة التي لم تتعد العشرين وقتها.
تقول "سارة" "أنا جاتلي صدمة حضارية وقتها"، فلم يكن بساطة الأثاث هو ما رفضته فحسب، لكن محيط المدينة كان بالنسبة لها "مقطوع"، فالمدينة تقع على طريق سريع بجوار مشرحة مستشفى بولاق، ويحدها من الأمام كوبري للسيارات، ما اعتقدته الفتاة الجامعية بذلك الوقت أن سكن الطالبات يقع أمام الجامعة، فهناك مبنى ضخم يظهر بجوار كلية الفنون التطبيقية، غير أن ذلك المبنى اتضح أنه "مدينة الولاد"، تقول سارة ساخرة "يعني انتو مسكنين الولاد هنا، و راميين البنات ف بولاق"، وتأتي الإجابة "اه عشان يبقوا بعيد عن بعض".
اتخذت "سارة" قرارها النهائي أنها ستسافر بشكل يومي من بيتها بدمنهور إلى القاهرة، واحتمالية أنه للضرورة القصوى يُمكنها المبيت عند أحد أقاربها بالعاصمة، لكنها لم تفعل ذلك يومًا، رفضت العائلة فكرة السفر يوميًا لئلا ترهقها، غير أنهم لما رأوْها تستطيع القيام بالفكرة "وبجيب امتياز كمان"، هو ما شجعهم على قبول الفكرة.
يوميًا سلكت "سارة" الطريق الزراعي من وإلى القاهرة، تستيقظ منذ السادسة صباحًا لتلحق بقطار السابعة، حتى تتمكن من التواجد بمحاضرة التاسعة "اللي غالبًا بيكون دكتورها غلس ومبيدخلنيش"، تتذكر كيف أنها فوّتت محاضرات المادة الإنجليزية ب"الميد التيرم الأول"، لأن أستاذة المادة تبدأ في التاسعة وتنهيها بعد نصف ساعة، وقتها ذهبت "سارة" للدكتورة لتخبرها أنها لا تستطيع حضورها "قالتلي مش هحسب لك الغياب، بس حاولي الأبحاث تبقى كويسة".
لأن القطار غالبًا ما يتأخر عن موعده، تعرضت "سارة" لمواقف كثيرة بالجامعة تضطر فيها لسرد ظروف سفرها، وأحيانًا انقلبت النقاشات إلى مشاحنات خاصة بالامتحانات، "عذاب" تصف الصحفية كيف أن امتحانات التاسعة وما يسبقها من توتر بالطريق ثُم جدال بسبب التأخير، وأكثر العبارات التي تواجهها هي "أصحي بدري"، وهو ما كانت تستنكره "انت عارف أن بصحى كام عشان أبقى أدامك هنا"، وذات مرة بامتحان مادة "تكنولوجيا الطباعة" رفض المُراقب إدخالها، وهو ما قابلته الفتاة الجامعية بالاعتراض "اسأل الدكتور"، وبالفعل سمح لها أستاذ المادة بالامتحان، في نظر خريجة إعلام أنه كلما أصبح أحدهم بموقع سلطة "لازم يحافظ على برستيجه، وهو متخيل إني جاية متأخر دي إهانة ليه".
القاهرة لا تليق بها
لم تفكر "سارة" قبلًا في العيش بالقاهرة، رغم وجودها بها على مدار ثمان أعوام متتالية، "القاهرة مش مكان يتعاش فيه، ممكن يبقى مكان نتبسط ونخرج، نلاقي فيه كل احتياجتنا عشان المركزية بس"، تؤمن الصحفية أن الأمان يوجد بالبلد التي تعرف أهلها "عارفة إنه لو حصلي حاجة هلاقي اللي يلحقني"، أما السرعة التي تقوم عليها العاصمة فتطبع بها سكانها، هذا بالإضافة إلى أن الشوارع مقبضة بالنسبة لها.
اضطرت "سارة" سابقًا التفكير في السكن بالقاهرة، لكنها سرعان ما تُبعد الخاطرة عن بالها، تلك المرة كانت "أيام مرسي"، حيث تم قطع طرق القطارات مرات عدة "دي كانت أصعب أوقات عدت عليا"، حيث كانت تعود لمنزلها بمنتصف الليل، تلك الأوقات شعرت فيها "أنا لا عاوزة شغل ولا أي حاجة، عاوزة أقعد في بيتنا ومشفش الشارع".
رُغم ذلك فإن "سارة" تعرف أن مستقبلًا لا بديل عن العيش بالعاصمة، "لما بفكر في مستقبل مهني واجتماعي بلاقيه هنا"، فكل معاني النجاح في نظر الصحفية تعني الانتقال من مكان له إمكانيات محدودة، إلى آخر أرحب، تُكمل الشابة العشرينية "كنت هبقى سعيدة لو المركزية دي موجودة في إسكندرية، بيني وبينها أربعين دقيقة".
أصبحت "سارة" عالمة بسكك حديد مصر، خبرت القطارات وأحوالها، تعرضت لجداولها وتأخيرها، عدوت بأرضه لتلحق به، أحيان كثيرة ما فاتها القطار، فتضطر للذهاب إلى "عبود"، ثمان أعوام تعرضت الشابة العشرينية لارتفاع أسعار تذاكر القطارات، إلى أن وصل الأمر لإنفاق ستين جنيه باليوم الواحد فقط "رايح جاي".
لحق بـ"سارة" لقب "المغتربة"، أصبحت مثار شك الغرباء بمدينتها "بلاقي السواق يسألني انتي جاية متأخر ليه"، واستفسارات من قبيل "هي جاية لوحدها ليه، طب ليه بتنزل بدري"، تقول الصحفية إنها وجدت نفسها مُحاصرة بـ"ناس مالهمش علاقة بيكي أصلًا"، وأسئلة ليس من المفترض الرد عليها "أوقات برد لما أبقى مرحة، وأوقات تانية بقوله وانت مالك انت بتسألني ليه أصلًا"، يُلحق بتلك الأسئلة ما إن تُعرف الإجابات "ربنا يوعدك بواحد ابن حلال يغنيكي عن دا كله"، بالرغم أن الشابة العشرينية لا تقوم بذلك حتى وصول "ابن حلال"، لكنه الحلم الذي تعدو ورائه.
"على فكرة انتي جاية من الأقاليم" الجملة التي تُقال لفتيات مغتربات مثل "سارة"، والتي تعني نظرة أدنى لهن، رغم أنها تعلم أن سكان العاصمة معرفتهم بسيطة بالأقاليم، فهي بنظرهم "البلد اللي فيها غيطان وجواميس"، تجد خريجة إعلام نفسها شريكة في "لعبة العنصرية"، فتتحدث بذات اللهجة أحيانًا ما إن تواجه مثل تلك المواقف "على فكرة احنا بلدنا أحسن وفيها عمارات كبيرة عادي، والشوارع نضيفة والموقف منظم عن عبود"، من الناحية أخرى يراها البعض "بنت مسترجلة" لتعاملها اليومي مع سائقي الميكروباصات.
لم تُقابل "سارة" صعوبات كبيرة كفتاة مغتربة بالعمل "عشان كنت بقدم عينة من شغلي"، معظم الأماكن التي اشتغلت بها تمكنت من تفهم ظروفها، حتى تصل إلى اتفاق الحصول على "شيفت وسط"، فعليها الذهاب للعمل بالحادية عشر صباحًا، وتنهيه في الثامنة مساء، مكان واحد رفضها لتلك الظروف، حينما عرضت عليه ذلك الحل الوسط، قوبل بالرفض، حيث كانت طبيعة بالمناوبة الصباحية تبدأ منذ الثامنة، وهو ما لم يناسبها.
بالفترة السابقة بدأت تفكر "سارة" بالسكن "بقول إني لو في القاهرة هدّي شغلي أفضل"، ولأنها شارفت على الوصول ليقين "إني لو عاوزة أعيش في بلدي، فأنا بتخلى عن شغلي، الميداني على الأقل"، وهو المتعة بنظرها.
تابع باقي موضوعات الملف:
في دنيا المغتربات.. ''المعافرة صنعة'' (ملف خاص)
رحلة 3 بنات من الساحل إلى مدينة ''الزومبي''
حكاية ''منة'' بنت مطروح.. ''كواليس المدينة وسنينها''
يارا.. بنت صعيدية مش طالعة من التليفزيون
من الزقازيق للقاهرة.. اغتراب ''ندى'' وأهلها بلا عودة
رنا وإسراء.. بين ''مرمطة'' دار المغتربات و''نار'' السكن المستقل
بنات بحري في المنيا.. ايه اللي رماك على المُرّ؟
القاهرة التي تسكنها ''سارة''.. ''مكنتش على البال''
الروح تدب مطرح ما تحب.. حكاية ''مغتربة'' اسمها ''ندى''
فيديو قد يعجبك: