حكاية غنوة رددها المصريون أعلى دبابات إسرائيل.. "شدي حيلك يا بلد"
كتب- أحمد الليثي ودعاء الفولي:
الصورة للمصور الكبير- شوقي مصطفى:
على خط القنال كان الجنود يتلمسون "المدد" في القوة والعتاد، وكان المصريون في الشوارع يتحصلون على "مدد" من نوع آخر يأتيهم بصوت صادق يشد من أزر الأبطال مرددا بعلو الصوت "شدي حيلك يا بلد"، قبل أن تتحول لاسم أول مسرحية تساند الجبهة من على خشبة مسرح الجمهورية، لتخرج منها الحشود في مظاهرة، بهجةً بالانتصار، لكلمات خطها شاعر معجون بالوطنية وهو لم يزل ابن 17 عاما.
عقب ساعات من اشتعال الحرب في أكتوبر 1973 كانت الفنانة سميحة أيوب مدير المسرح الحديث –حينها- تطلب المطرب محمد نوح في عجالة، لا تزال سيدة المسرح العربي تستعيد التفاصيل بحماس اللحظة ذاتها؛ استدعاء المخرج الكبير عبد الغفار عودة، الاتفاق على الأشعار مع المؤلف نبيل بدران، خروج العمل في 48 ساعة، كيف تحولت المسرحية إلى ظاهرة لفتت أنظار الجميع.
"الناس كانت بتطلع من العرض تعمل مظاهرة" يحكي حسين نوح شقيق الفنان الراحل وعازف الدرامز في الفرقة الموسيقية للعمل الغنائي المبني على أكثر من أغنية أبرزها "مدد"، وعن تفاعل الجمهور معها ومن بينهم الشاعر إبراهيم رضوان صاحب كلمات الأغنية التي تحمل اسم العرض، ينشدون في نفس واحد "يا بلدنا قومي أنهضي آن الآوان.. النصر بعد الصبر بان، والصبر محتاج للجلد.. مدد مدد مدد"، فيما لم تنسى الفنانة سميحة أيوب مانشيت إحدى الصحف الأجنبية إعجابا بالمسرحية "مصر تغني تحت الرصاص".
كان لنوح فلسفته الخاصة في الأغاني الوطنية، فلا يراها في حاجة لمطرب صاحب صوت ناعم أو كلمات جذابة، وإنما "حالة" تجعل الشعب والبسطاء يرددونها بعلو الصوت، يقول لرفاقه "الناس لما بتسمع بلادي بلادي بتقولها من غير كسوف.. ومدد لازم الكل يغنيها من القلب عشان بتعبر عنه".
"مدد" ليست ابنة انتصار أكتوبر كما يظن كثيرون. لها مع الشاعر إبراهيم رضوان قصة بدأت عقب هزيمة 1967، حينما كان عُمره لا يٌجاوز 14 عاما "كنت حاسس بمرارة لسة عايشة فيا لحد دلوقتي". لم يستسلم الفتى للانكسار، ففيما يعيش بالمنصورة كتب الغنوة، قبل أن يُشارك في فرقة أٌسست تحت اسم "المنصورة 67"، كانت وظيفتها أن تجوب القرى والنجوع للغناء للناس وإبعاد اليأس عنهم "كنا ندخل القرية من دول نقف في وسط الشارع ونغني مدد وحاجات تانية فيتلم علينا الأهالي يغنوا معانا"، ورغم أن عدد أفراد الفرقة لم يزد عن 12 شخصا، إلا ان أثرهم كان ضخما إذ أوصى جهاز أمن الدولة عمدة كل قرية بألا يستقبلوهم "عشان كاوا بيقولوا إننا بنكذّب كلام الرئيس وبنفكر الناس بالنكسة"، فيما يذكر رضوان بحسرة أن آخر مرة خرج فيها برفقة "المنصورة 67" ركض خلفهم أهل إحدى لقرى لاعتقادهم بأنهم جواسيس.
رغم ما تبعثه "مدد" الآن في نفوس سامعيها من حرارة، لكنها جلبت وبالا على رضوان، طوال عدة أعوام من مضايقات الدولة والسجن، حتى تغيرت الأمور فجأة عام 70. في تلك الفترة كان رضوان مقيما بالقاهرة حين قابل صديقا فطلب منه الذهاب معه لمقهى في باب اللوق "فقابلت محمد نوح واتكلمنا واتمشينا وروحنا الحسين سوا"، وهناك انسابت الحكايات، فروى الكاتب للمُغني حكايته مع كلمات مدد "فقاللي سمعهالي.. لما بدأت فيها قاللي إزاي كاتب الكلام دة حرام عيك.. كان هيتجنن"، وبينما يستكمل الشاب حديثه، أخرج نوح قلما وخطّ الكلمات على ورق جريدة ثم انطلق يركض، حتى ظن رضوان "إنه استولى على الكلمات ومشي وسابني".
كانت خمسة أشهر قد مرت وقتما فتح رضوان جرائد الصباح فوجدها كتبت عن أغنية تقهر حالة الاستسلام، ذاكرين اسمه كشاعر كتب الكلمات، كان المُغني وكاتب الكلمات في محافظتين مختلفتين حين خرجت "مدد" للعلن، لكن لقائهما كان مؤثرا "نوح خدني بالحضن وقعد يعيط كتير لما شافني"، وبدأت مسيرتهما سويا بأغاني وطنية أخرى.
أشيع غير مرة أن محمد نوح قد قيد للمعتقل على أثر أغنية مدد، فيما يوضح حسين نوح الشقيق الأصغر للفنان الراحل بأن السجن جاء على خلفية غنائه "يا بلدنا يا عجيبة فيكي حاجة محيراني.. نزرع القمح في سنين يطلع القرع في ثواني"، الطريف أن القصيدة الساخرة التي أودت بنوح في الغياهب أيام ناصر، كان يحلو للسادات أن يطلب سماعها بعد النصر، حسب حسين "كان بيقوله سمعنا يا نوح أغنية القرع.. عايزين نضحك شوية".
خلال أيام الحرب كان محمد نوح لا يفتأ يتنقل بين الخنادق، يؤازر الجنود، يغني لهم، ينقل إليهم فرحة الشارع، وينقل عنهم حماس المعركة، وبعد أقل من شهرين كانت الاحتفالات في كل مكان، بينما استقر "نوح" وفرقته داخل معرض الغنايم –دار الأوبرا حاليا- يتراص المصريون، عائلات بأطفالها مبتهجون أعلى الدبابات والأسلحة الإسرائيلية المأسورة، ويزيد البهجة صوت "نوح" الجهوري، وفرقته المتألقة "كنا 6 عازفين و4 كورال.. وبنعيد الأغنية أكتر من 10 مرات". والناس تردد بأعلى الصوت "يا بلدنا سيبك من الدموع، يلا أقلعي توب الخضوع.. الصبر محتاج للجلد ومدد مدد".
ست سنوات فقط كان عُمر سحر نوح، حين اصطحبها الوالد إلى معرض الغنائم. حماس يبلغ عنان السماء أخذ بيد الفتاة، سنها صغيرة لكن تعرف معنى النصر "الحرب كانت منحوتة جوايا وبابا كان حاكيلي إن مصر انهزمت من دولة عدوة ومات ناس كتير أوي ومصر انهاردة انتصرت ورجعت عظيمة تاني".
كأنه بالأمس مازالت "نوح" تذكر اليوم، حشود لا يُرى لها نهاية، مسرح مرتفع قليلا، والدها غارق في بحر من العرق إذ يتقافز قائلا "مدد مدد"، فيرد عليه الجمهور "شدي حيلك يا بلد". ومن خلفه وقفت الابنة تراقب في ذهول، لم تُدرك كلام أبيها عن النصر إلى أن صعدت المسرح وغنّت معه. والدها الذي ترسخ بخيالها شامخا "كان بيبكي بحرقة رهيبة.. عمري ما شفت أبويا بيعيط زي اليوم دة"، فيما تُمسك يداه بزجاجة رمل أحضرها احدهم له من سيناء لاثما إياها كملهوف ابتلعه شوق السنين العجاف.
في نفس اللحظات وبينما تستعد سحر للغناء، كان الشاعر رضوان يمكث بجانبها، لاهثا ينظر للموجودين، فثمة سيدات أتين من سوهاج لُتغنين احتفاءً بالنصر مع الفرقة "كنت بقول لنفسي إزاي 3000 بني آدم واقفين بيسمعوا كلام كتبته من ست سنين ومبسوطين بيه كدة؟". إلا أن المشهد الذي مازال عالقا بذهن الشاعر "كان في عسكري راجع من الجبهة رجلة مقطوعة.. فضل يرقص على الغنوة نص ساعة ع المسرح والناس معاه كأنهم مسحورين".
"مدد عاملة زي البطارية اللي بتشحن الناس" هكذا كان يعلق نوح على تأثير أغنيته، "حاجة مرعبة وصادقة لأبعد مدى" يصف حسين الحالة التي صنعتها الغنوة مشيرا إلى أنها ظلت مطلبا جماهيريا "بنت السادات طلبتها في فرحها.. والكل في نفس واحد بيقول: إن كان في أرضك مات شهيد في ألف غيره هيتولد".
ولأن الأغنية كانت من أهازيج النصر، فلم يتخلَ عنها نوح حتى الممات "كل جمعة كان عيلتنا بتتجمع في بيتنا وبابا يعزفلهم ع البيانو ونغني مدد".. ظل ذلك الطقس ملازما للفنان الراحل كما تقول الابنة الكبرى، حتى تشربت منه حبها، فهو لم يُغنها لشهرة أو مال، بل صال بها مصر كما فعل رضوان، لكن عقب الحرب "الناس كانت بتتجنن لما تسمعها"، مازالت قلب السيدة يغوص في ضلوعها كلما تنصت لها، تذكر جلساتها بجانب الوالد يغنياها، فتغمرها سعادة لا توصف رغم مرور 43 عاما.
تابع باقي موضوعات الملف:
من داخل قريته.. مصراوي يستعيد فرحة الشعب بأول شهداء أكتوبر
معركة جبل مريم.. مكالمة عائلية على خَط النار ''تُرد الروح''
بالصور- البهجة على صفحات الحرب.. حكاية 100 ''بيجامة'' وصواريخ في ''قفة''
حكايات من الشوارع العربية.. كيف احتفل الأشقاء بانتصار أكتوبر
''الصورة واللي صورها'' من أقدم استوديو لجنود مصر.. اضحك يا دفعة للنصر
ذكريات البهجة في حياة أطفال أكتوبر: ''لبسوا الكاكي وزغرطوا للشُهدا''
بالصور-كيف سخر الكاريكاتير من هزيمة إسرائيل في أكتوبر 73؟
فيديو قد يعجبك: