9 أشهر على اختفاء "الضيف الخفيف".. ماصوني يدندن بعيدًا
كتبت-رنا الجميعي:
صورة نيجاتيف مشوشة، ترتبك فيها الألوان والموجودات، يقف على عتبتها شخص، ملامحه غير واضحة، غير أنه يرتدي نظارة، يضع أصابعه داخل جيوب بنطاله، يديه لا تستقر في راحة بالداخل، ينظر أمامه إلى كاميرا يقف خلفها صديق، بجواره الأشياء بلون أصفر باهت، سيارة تاكسي تعبر خلفه، ويبدو أن الموقع الذي اختير للتصوير أمام كوبري قصر النيل، حيث يقف الأسدان، تجاه دار الأوبرا، لا يُمكن لعين المشاهد أن يجزم في هذه الصورة بأي تأكيد، باستثناء المكان، فلا حقيقة موجودة.لا تستطيع إدراك من هو هذا الشخص، أو أن تصفه بثقة العارف، يبدو أن صاحبها فعل ذلك لأنها أقرب إليه هكذا.
اختفى مصطفى ماصوني، منذ تسعة أشهر، لا أثر له، غادر أصدقائه مساء يوم 26 يوليو 2015، لشراء طعام، لساعات ظلّ الأصدقاء في انتظاره، حتى أكلهم القلق، طرق الأهل والأصحاب كل الأماكن المحتملة، لا وجود له، اتصال من أمن الدولة للشركة التي يعمل بها، للاستعلام عنه، رجحّت كفة الداخلية، يقول القائمون على صفحة "ماصوني فين" بإحدى التعليقات :اسمه مش موجود لا في قسم ولا مشرحة ولا مستشفى ولا محضر نيابات ولا سجون.
"أعاني من ذاكرة هشّة لا تساعدني على كتابة ما أملكه من ذكريات مع نفسي أو مع الآخرين، مما يجعل علاقتي مع البشر هشّة أيضا، حيث تبدأ بلقائنا وتنتهي ب"أنا لازم أمشي دلوقتي عشان.. أي حجّة من التي حفظها -الباقيين من- أصدقائي"، مما جعل معظمهم يُكمِلون الجملة بدلا مني، أنا ضيف خفيف، أصدقائي يعلمون هذا جيدا، فغالبا ما أكون آخر الحاضرين وأول المُودّعين". *مقطع منشور كتبه ماصوني بتاريخ 2 سبتمبر 2013، على الفيس بوك*
هو ضيف خفيف كما قال عن نفسه، يؤكد ذلك زكي حسين، أحد أصدقائه، كما تصفه "نوران نبيل"، صديقة أخرى، "مصطفى كائن منطوي"، كلا منهما تعرّف عليه بظروف مختلفة، منذ عام 2012 تعرفه نوران، أما زكي فيتذكر تاريخ عزاء الصديق الذي جمعهما معًا "في عزا حافظ، 16-4-2013".
الموسيقى كانت رفيقة ماصوني دومًا، على حسابه بموقع الساوند كلاود لديه ستة آلاف متابع، آخر مقطع موسيقي قام بنشره كان بتاريخ 5 يونيو، بعنوان إنجليزي "the origin of non-entity"، شارك الشاب بإنشاء راديو مدينة البط، في فترة من حياته -إحدى الإذاعات التي اشتهرت على الانترنت- كما يقول صديقه "محمد السارتي"، "المزيكا اللي يلاقيها يرفعها على حسابه".
درس السارتي والماصوني بكلية الهندسة، الأول بجامعة القاهرة والثاني في حلوان، لكن ما جمعهما فعلًا كانت الموسيقى، حضور الحفلات في ساقية الصاوي ومسرح الجنينة، يعرفه السارتي لخمسة أعوام، منذ 2011، النقاشات بينهما تشغلها الموسيقى، فالسارتي عمل أيضًا براديو جرامافون، ويتشاكسان حول من فيهما يُنتج موسيقى أفضل، يقول حسين "حبه للمزيكا خلاه يبسط كل اللي حواليه بيها لحد ما بقوا يستني الوقت اللى مصطفى هيبعت فيه تراكات".
المقاطع التي نشرها الماصوني على حسابه، كلها بصنع يديه، لم يكن الشاب مؤلفًا لها، فقط يُنثر ذوقه على المستمعين، وضمن تلك المقاطع أحبّ السارتي منها، آلهة الزقوم، "مكنتش أعرف عن القصيدة دي حاجة قبل كدا"، وهي من تأليف الشاعر العراقي "سركون بولص"، يقولها الشاعر بصوته الرخيم، ويُضفي عليها كآبة أكثر موسيقى خالد مزنر، التي اختارها الماصوني لأن تكون خلفية لها "هو بيقطع ويلزق المزيكا اللي تعجبه بس"، من بين ما قاله سركون بولص بصوته:
جئت إليكَ من هُناك
إنّهُ الدَمار
قالَ لي
وسارَ مُبتعداً ، واختفى
في كلّ مكان.
تخرّج الماصوني عام 2012، لم يعمل بمجال دراسته رغم اجتهاده "أخد امتياز في البروجكت"، عمل في أكثر من مكان "كان كل همه يشتغل ويسيب أهله ويستقل عنهم"، استقّر الماصوني كمونتير فيديو قبل اختفائه "من كتر حبه لشغل المونتاج وحبه للسينما والصوت وكل حاجة فيها إبداع في المجال ده، ساب مجال شغله الأساسي في الهندسة وركز في شغله ده"، يقول حسين، انشغل بوظيفته كثيرًا حتى اضطر أصحابه للقائه في مكتب عمله "كنا بنسهر معاه بالليل"، يضيف السارتي، ونقل مكان نومه لهناك "كان فيه مكتبة وبطاطين، مكنش بيطلع حرفيًا من المكان".
يتذكر السارتي مرة وقف الماصوني بجانبه "كنت عاوز أنشر كتاب وأخدت منه فلوس للنشر"، يعيد سرد نصائحه التي قالها له "كان نفسه أكمل شغل هندسة"، لكنه لم يأخذ بنصيحته "هو نفسه ساب المجال"، بالنسبة لحسين فإن الماصوني مصدر سعادة لكل أصدقائه "وقت ما بيظهر ما بيننا وقت سعادة دايمة حتي لو كنا مهمومين"، كانت أوقاتهما معًا عبارة عن تجوّل ليلي في الشوارع الخالية "كنا بننزل كل يوم نتمشى بس في شوارع فاضية، ونسمع مزيكا، ونرجع نكمل شغل من الفجر لحد بالليل، وننزل تاني نعمل نفس الحاجة".
الطقاطيق والأغاني العربي الكلاسيك هي أكثر ما أحب سماعه الماصوني، فيما كان يكتب بشكل جيد على حسابه بالفيس بوك، وعلى موقع تمبلر له مدونة باسم "لا شيئيات"، لم يكن نَهِم للقراءة "كان بيقرا فين وفين"، يقول السارتي، لم يغتر بقراءاته، التي تتضح في أسلوب كتابته، "بيحب يقرا الكلاسيك، ولو عدى حد علينا قال اسم رواية كان بيشارك في المناقشة".
ظلّ خبر اختفاء الماصوني قيد السرية "أهله مكنوش عاوزين الموضوع يتنشر" على أمل ظهوره، لكن بعد ثلاثة أشهر فاض بالأصدقاء، أنشئوا صفحة "ماصوني فين"، ظلوا يُرددون اسمه في فضاءات الموقع الأزرق، علامة استفهام تُلاحق اسمه، بدأت الأسرة كذلك في الحديث، ساورت الشكوك حول القبض عليه، ولحاق اسم الماصوني بالكثير تحت مُسمى "الاختفاء القسري"، وتقدمت شقيقته "أميمة"، في مطلع أكتوبر الماضي، بمحضر رقم ٢٨٨٦ إداري قسم القطامية،، لمعرفة مكان احتجاز، وتصدّر هاشتاج "الماصوني_فين" على تويتر، غير أن جاء رد الداخلية جاء بالنفي "الأجهزة الأمنية في الوزارة أكدت عدم وجود الناشط مصطفى الماصوني لديها، وإنه غير محتجز لدى وزارة الداخلية".
بآخر العام الماضي تدوال رواد الفيس بوك اسم الماصوني، وكذلك على ألسنة بعض الإعلاميين، غير أن العام الحالي شهد صمت يزداد حول سيرة الشاب، فلم يُذكر سوى بين المقربين، وفي مُقتبل شهر مارس الحالي، بمُفردها وقفت نوران أمام وزارة الداخلية بميدان لاظوغلي، تُمسك لافتة كُتب عليها "ماصوني فين".
عام ونصف فصل بين عزاء الصديق الذي اجتمع فيه حسين والماصوني لأول مرة، ذات يوم دخل إحدى مطاعم الزمالك وجد الماصوني صدفة هناك، ومنذ ذلك اليوم لم يفترقا، حتى اختفى مساءً بعد مغادرته منزل أصدقائه، كان من بينهما حسين، ويستنكر كيف اختفى هكذا "كل اللي فاهمه إنه اتخطف واختفى دون سبب، اهتماماته كانت بين شغله كان بيقعد بالأيام جوة الشركة مابيتحركش عشان حابب اللي بيعمله .. وأهله وحبه واصحابه، كل الحاجات دي مابقتش موجودة معاه وهو موجود في الضلمة ورا سور الدولة".
أغلقت نوران حسابها على تويتر بسبب الماصوني، كان الموقع هو وسيلة توطد العلاقة بينهما "أكتر كونفيرشنز بينا كانت على تويتر"، لم ترى الشابة صديقها قبل شهرين من اختفائه "كنت مشغولة وقتها"، كذلك السارتي الذي قابله في أحد أعياد الميلاد قبلها بشهر، مع انتشار خبر اختفائه "بقينا نتكلم عنه على السوشيال ميديا"، لكن يأس حذا به مع انتفاء أي أخبار عنه.
نشر الماصوني أحد مقاطع الموسيقى بعنوان إنجليزي ترجمته "لقد غادرنا وحيدين لكن ثمة أعمدة ضياء تزين زوايا غُرفنا"، تسعة أشهر مضت على اختفاء الماصوني بينما أثره وسط أصدقاءه، وفي فضاء الانترنت، مازالت تتذكره نوران بقطعة كتبها على تمبلر بعد وفاة صديقه حافظ، كما يجيء ببالها حينما تسمع أغنية فيروز، وحدن، "هو اللي كان حاكيلي حكاية الأغنية دي وإن طلال حيدر كتبها للفدائيين الثلاثة اللي كانوا بيعدوا علي بيته".
"السموم تزداد وتتكاثف في الهواء كلما اقتربت من العاصمة، الخراء يتجسد ويكون سحابة هائلة تتكاثف تتدريجيا كلما اقتربت من مدينة نصر، الفزع والخوف والرغبة في الاختفاء والهروب ولو زحفا على الوجه، تذكرت الآن أنني بدأت في كتابة هذا الاستفراغ للتحدث عن شيء ما لم أعد أذكره الآن، ولن أستطيع أن أكمل وأنا أفكر فيما هو هذا الشيء.. ربما هذا سببا للتوقف عن الكتابة، أو ربما لأنني لم استطع يوما ان أكمل شيء لآخره.. كم أتمنى ان أختفي في أحشائي". *تكملة المقطع المنشور لماصوني*
فيديو قد يعجبك: