إعلان

مصرواي داخل جلسة حكي عن دنيا التوحد.. الصبر رفيق الأمهات

09:04 م الثلاثاء 05 أبريل 2016

مصرواي داخل جلسة حكي عن دنيا التوحد

كتب - يسرا سلامة وإشراق أحمد:

انتهى الجمع المقام على خلفية اليوم العالمي للتوحد، في جمعية "ابني" للفئات الخاصة والتوحد، وبينما يتوجه الحضور للمغادرة، التفتت ناريمان جورج مودعة أم أخرى، قائلة بابتسامة "كل سنة وأنت طيبة".

عقب ثلاثة أعوام من الاحتفال باليوم العالمي داخل الجمعية، في شهر إبريل من كل عام، يلتقي الأمهات، يتبادلن الحديث، فيما يمرح صغارهن باللعب، لا يختلف نمط يومهن عن سابقيه، غير أن هذا الشهر، هو بمثابة فرصة لرفع أصواتهن، بالتوعية عن مرض أبنائهن، وكل مَن يعاني مثلهم.

كسا اللون الأزرق أرجاء المكان، بدا في بالونات تستقبل الأمهات، اللاتي لم تخلُ ملابسهن من اللون الذي يرمز للتوعية بالمرض، كأنهن ينتظرن فرصة لالتقاط الخبرات وتجاذب أطراف الحديث بينهن، فما تهم إحدى الأمهات بالحديث، حتى تجذب إليها عدد آخر من الأمهات، فالمواقف المتبادلة من حياة التوحد اليومية هي الأكثر نفعا لتعاملهن مع صغارهن في فهمهن لحالتهن "كل طفل توحدي مختلف عن غيره.. زي بصمة الصُباع"، تقول "ناريمان"، فطيلة عشر سنوات هي عمر معرفتها بمرض ابنها البالغ 12 عاما، كانت تستمع لحكايات متباينة، أحيانا أسوأ حالا من ابنها، تخفف عنها ما تلاقيه.

1

قبل أكثر من عشر سنوات، اكتشفت ناريمان مرض ابنها بالتوحد، بعد ولادته بسنتين وتسعة أشهر، تراها الأم فترة متأخرة، "كان جهل منى لأن مفيش توعية" تقول والدة جورج، التي تجد أن التوعية عن "التوحد" أكثر هذا العام، وعلى الرغم من اكتشاف رشا عصمت مرض توأميها بعد سنة و10 أشهر، كان الرفض والإنكار شريك بينهما فور معرفتهما بحقيقة المرض، تتذكر "رشاط تعقيبها فور تشخيص الطبيب "توحد اللي هو الدوا بتاعه إيه"، ليس هين على الأم أن تسمع بشيء يصيب وليدها، لا تستوعب ما يقوله الأطباء، تستنكره كما تقول "ناريمان"، فتظل نفسها تحدثها "هو أنا ابني مش طبيعي إزاي؟".

 

الأيام كفيلة بكسب الأمهات خبرة التعايش مع المرض، وفهمه "بقيت صبورة أكتر.. مبقتش استعجل النتائج" كذلك تغيرت "رشا"، بات لها قدرة مختلفة عن غيرها من الأمهات، ففور علمها بالمرض، لم تكتف بالخبرات المسموعة في الدقائق المعدودة للإخصائيين، والقراءات، بل أرادت أن تتعلم كيف تتعامل مع صغيريها "روحت أخدت كورس مكثف في كلية تربية بجامعة عين شمس قسم الإرشاد النفسي"، إفصاحها عن ذلك، لفت سمع غيرها من الأمهات، صاروا يسألونها عن طبيعة ذلك التدريب وكيف يفيد، فيما كانت جمعيات التأهيل، والقراءة، والرصد الدائم لتصرفات "جورج"، والتعامل معها بشكل عفوي، هي زاد "ناريمان" في تربيتها لابنها. 

2

 

رغم اعتياد الأمهات على حياة التوحد، غير أن هناك مواقف تكسر صبرهن لوهلة، فتتذكر "ناريمان" كلمات مختلفة انهالت عليها جراء حركات سريعة أو انفعالية لابنها، أو إطلاقه لصوت بشكل مفاجئ من صراخ أو ضحك حال كثير من أطفال التوحد، على غرار "يا عيني.. حرام عليكي ليه بتعامليه كدة" أو "ابقى ربي ابنك"، تتحمل الأم أكثر من هذا إلا أنها أحيانا لا تجد سوى الدموع، وضمة صغيرها لتخفف عنها "ده كفاية حضنه".

في مطار القاهرة، حين دلفت "رشا" بصحبة توأميها، لتجد طابور المسافرين ممتد، فأخذت بيديهما إلى طابور كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، ما لبثت أن تحركت حتى أمطرها أحدهم بتعليق تسمرت له لدقائق "حلو فكرة أن الواحد يقول على ولاده احتياجات خاصة عشان يعدي بسرعة"، وقعت الكلمات على سمع الأم كالصاعقة، غير أنها تعمدت العودة إليه ورده عن قوله، وتوعيته "مفيش أم في الدنيا هتقول على ولادها احتياجات خاصة وهم مش كده حتى لو هتقف 100 طابور". تحكي "رشا" عن إحدى المواقف التي تعرضت لها، فيما تتأثر الأمهات الأخريات، ليتشاركن التأكيد على ما تسببت به الصورة الذهنية الخاطئة عن ذوي الإعاقة والجهل بمرض التوحد، فهيئة الأطفال الطبيعية تشكك الكثير بأنهم يعانون من شيء ما، لذا كثيرا ما تسمع الأمهات سؤال "إزاي عندهم تتوحد وهم شكلهم طبيعي؟".

3

في دائرة الحديث، تأتي "رشا" كمحور ارتكاز، لا تنصرف للحكايات الشخصية كثيرا، تغير الدفة في نهاية الأمر، إلى استفادة عامة، وتوعية بطبيعة مرضى التوحد بشكل عام، فإحدى الأمهات تطرح سؤال عن الانفعال على الأطفال واستخدام الضرب حين تنتابهم نوبات التشنج والعصبية الشديدة، فتخبرها "رشا": "هم أصلا مش فاهمين أن ده غلط"، بهدوء تلفت انتباها، فيما تضيف لها معلومة "ساعات لما الطفل بيضحك مش معناه إنه مبسوط ده ممكن يكون متألم لكن مش متحكم في قنوات رد الفعل عنده"، فمتابعة تصرفات الصغير هي أكبر معلم للأم، يمدها بخبرة التصرف في كل موقف لطفلها كما ترى "رشا".

بينما تنساب الكلمات بين الأمهات، كان الصغار بداخل قاعات التدريب بالجمعية، يجد أطفال التوحد الفرصة للترويح عن أنفسهم، فإلى مثل تلك الأماكن تلجأ الأماكن، لتعينها على دمج صغارهم مع الحياة، بممارسة الأنشطة المختلفة، إلى جانب الذهاب إلى المدرسة التي تحرص عليها بعض الأمهات. كان يستقبل الرواد عدد من منتجات الورش التي يقيمها الأطفال مع الاخصائيين الاجتماعيين، منتجات مثل الشمع والمنتجات الجلدية والإكسسوار، بالإضافة إلى قطع من الأقمشة والملابس والخياطة بصنع أيديهم، بحسب مشرف قسم التأهيل المهني بجمعية "ابني" إبراهيم عبد العاطي، مضيفا أن تلك المنتجات تخرج من الأطفال من فوق الثالثة عشر عاما، إذ يقوم 90% من الأطفال بصناعة تلك المنتجات، وأن كل ورشة تهدف إلى تطور حركي معين لدى الأطفال.

 

4

نسبة مرض التوحد ليست قليلة، تقدر بنسبة متوسطة160:1 وفقا لمنظمة الصحة العالمية طفل، وفي مصر بنحو أكثر من 800 ألف "لما بروح الجمعيات بحس أن كل الأطفال عندها توحد" إحساس "ناريمان" تشاركها به غيرها من الأمهات الحاضرات بإيماءات الأعين، قبل أن تلحقها "رشا" بتعليق "ده إن مكنش في كل عمارة، أنا عندي طفلين وجارتي عندها طفل برضو"، لتنساب كلمات الأمهات بعدها، عن طبائع الصغار المشترك، ويغضن في مواقف يتألمون لها حينا، ويطلقن لها الضحكات عمدا حينا آخر.

حب الماء، الأشياء السريعة، الأماكن الواسعة وغيرها... صفات تجتمع في كثير من الأطفال التوحديين، لا يعبئون للخطر الناجم عنها، حال جميع الصغار، كذلك لا تفلح كلمات أمهاتهم التحذيرية معهم، فقط ينطلقون إلى عنان فعلهم، لذا لا مجال أن تغفل عين الأم والأسرة عنه، وتتذكر "ناريمان" قبل نحو 4 أعوام، حين التفت عيناها لثواني معدودة عن "جورج"، فإذا تجد باب المنزل مفتوحا، لتفزع الأم وابنتيها بحثا عن الصغير، الذي نزل إلى الشارع بميدان رمسيس، بينما كان يرتدي فقط ملابسه الداخلية، وهو ما تصفه الأم بالرحمة، فبعد الهرع وراءه، تساءلت "ناريمان" عن الأماكن التي يمكن أن يفكر بالذهاب إليها، فسارعها الجواب "المترو"، وبالفعل التقت بأشخاص أكدوا وجود طفل صغير يبكي قرب الشارع المتواجد به مترو الأنفاق، لكن الأم لم تتحمل الذهاب إليه، خارت قواها، لتسقط أرضا، فيما ذهبت شقيقته لجلبه، فما إن عاد إلى حضنها هدئا معا.

ما لبثت أن حكت "ناريمان" عن مواقف "جورج"، وما يتبعه ذلك من تركيز في أخذ احتياطات التأمين، أو الالتفات الشديد مع الصغير، الذي يحب بشدة القطارات، حتى أنه يمضي الكثير من الوقت أمام الكمبيوتر مشاهدا لها، حتى ابتسمت ناهد عبد الحميد، وتداخلت بالحديث عن صغيرها عبد الله، الذي انطلق لركوب المترو وحيدا، بينما هم في فرح بمنطقة المطرية، ليعود إليهم كأن شيء لم يحدث، فتبادلها "ناريمان" الضحكات المحملة بالغصة "جورج لو كان ركب المترو مكنش رجع".

5

حياة الطفل التوحدي ليست هينة، الأم بها هي البطل الأول "بالنسبة للطفل التوحدي الأم كل محور الكون" تقول "ناريمان"، لذا يغلب على التجمعات وجود الأمهات، تفسر والدة "جورج" هذا بأن الأمهات الأكثر عاطفية بطبيعة الحال، فيما لا يتحمل الآباء كثيرا رؤية أبنائهم بهذا الحال، لعقلانية تفكيرهم "دايما بيفكروا هيعمل إيه لما يكبر"، فيما تتهرب الأم في الغالب من هذا السؤال، بما تعلمه لأبنها من ممارسات حاضرة متوالية، تعينه على الحياة، فأولوياتها مع طفلها مختلفة، لذا حينما خُيرت بين الفرحة بتعليم ابنها أم قيامه باحتياجاته اليومية بنفسه، كان الثاني خيارها دون تردد.

في الوقت الذي لا تتوقف حكايات أطفال التوحد ، كانت "رشا" تتقصى وراء كل قصة وفاة، لا تكتف بالترحم عليهم، بل تصر على معرفة السبب "عشان أخد احتياطي، الحياة مع طفل توحد متقدريش تخططي ليها، لكن تعرفي أكثر"، ولأن اغلب حالات وفاة مرضى التوحد بسبب الغرق "لأنهم بيحبوا الماية جدا"، فسارعت الأم بتعليم أولادها السباحة، وكذلك حال الأمهات الواعيات بطبيعة أطفالهن.

داخل دائرة الحديث تسمع إحدى الأمهات من "رشا" عن استخراجها بطاقة ذوي الاحتياجات الخاصة الذي أخرجته لتوأميها، "ضمان وهيحتاجوه بعدين"، بعدما حدث موقف أمام زوجها، وإصرار أحد المسؤولين على دخول شاب توحدي للخدمة العسكرية لأنه ليس لديه ورق يثبت على ذلك، ورغم لوم البعض لها على إقدامها على تلك الخطوة، لكنها باتت مقتنعة بجدواها، وهو ما انتبهت له الأمهات الأخريات.

توقن الأمهات الملتقية كل عام، أن حياتهن مع اختلافها فهي قدر، واختبار إلهي، ترفض تعامل البعض للأطفال على أنهم غرباء، رغم أن هناك أمهات أخرى تتحمل عقوق أبنائهن، يئنون لجهل البعض بطبيعة ما يعانونه، واعتباره وصمة، في حين أن صغارهم "أحن ولادهم" كما تصف "ناريمان، وملائكة المنزل كما تعتبرهم "رشا". تغادر الأمهات، عاقدة الأمل ليس فقط في حياة أفضل لصغارهن، بل كذلك في زيادة الوعي بالمجتمع، الذي حتما سيتعامل معه أطفالهن شاءوا أم أبوا.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان