"في عالم موازي".. مصراوي يرصد حكايات سُجناء بُرج العَرب
كتبت- شروق غُنيم:
في التاسعة من صباح الإثنين الماضي، كان سجن برج العرب بالإسكندرية، يشهد زيارة من وفد بوزارة الداخلية، على رأسه اللواء حسن السوهاجي، مساعد وزير الداخلية لقطاع مصلحة السجون، وبرفقته وفدٍ صحفيٍ لتوثيق الزيارة.
"سجن برج العرب أمامكم، ولكم مُطلَق الحرية في تفقده، ولقاء المسجونين، ولن نمنع أحد من دخول أي عنبر داخل السجن"، وجه اللواء السوهاجي هذه الكلمات للوفد الصحفي، والتقطت عيون الكاميرات الآتي: طاولة كبيرة يفترش عليها صنوفًا متعددة من الأطعمة، "شيف" يقف حول إناءٍ كبير لطهي الطعام، وآخر يُعّد الخبز، على طاولة آخرى يلتف حولها عدد من السجناء، منشغلون في القراءة، بينما تتراص الكتب على أرفف مختلفة من خلفهم، ما يُهيّئ بأنها مكتبة، وصورًا أخرى لملعب يقضي السجناء فيه وقتًا ترفيهيًّا.
من داخل بُرج العرب
في الثامن والعشرين من إبريل 2014، قُبض على محمد الإمام، الطالب بكلية التربية، بتهمة "الانضمام لجماعة إرهابية"، كلّفه ذلك 22 شهرًا مكث خلالهم بسجن برج العرب، وفي 11 فبراير 2016، نال البراءة بعد "مماطلة وتأجيلات من الداخلية تارة، والقضاء تارة أخرى"، ما يجعل في جعبته الكثير من التفاصيل والحكاوي عن السجن، والفرق بين الوضع بداخله، وما ظهر في زيارة وفد الداخلية .
يروي الإمام لـ"مصراوي" المُعاناة التي يخوضها السُجناء ببرج العرب، والتي يتساوى فيها الجنائيين مع السياسيين، تبدأ بالاستقبال، والتي يتم خلالها تجريد السجين من كامل ملابسه، وبدء طقوس تعذيب سادية، تتعمّد في مُجملها الإهانة والوجع، "إجبار على الترجيع، والحمام، مع وصلة من الشتائم".
كل شخص دَلف السجن في ظروفٍ مختلفة، لكن تظل طرق التعذيب واحدة؛ "الفلكة، تُستخدّم حينما يُضبَط مع السجن مُخالفات، وهناك العُليقة، والتي تعتمد على تعليق السجين، ثم ينهال الضرب عليه بالشوم، أما التأديب، فإنه يحتوي على كل هذه الطرق من التعذيب في زنزانة لا تتعدى مساحتها متر في متر".
لكن الإمام يرصد اختلافًا في المعاملة التي يتلقاها السجين السياسي بالتفصيل؛ "في يوم 3يوليو 2014 حصل اقتحامات لزنازين المعتقلين السياسيين وتم اقتياد مجموعة منهم للتأديب والاعتداء عليهم بشكل سبب لبعضهم إصابات لا تزال موجودة حتى الآن، مثل الاعتداء على محمود محمد عبد النبي، وضربه حّد الإغماء، ما أسفر عن عدم سماعه بالأذن اليُسرى بشكلٍ جيّد"، بالإضافة إلى الاعتداء على "خالد محمد عماد وسحله وإجباره على الزحف حتى مبنى التأديب".
لم تكن فكرة الزيارة غريبة على الإمام، فقد مرّت عليه في مارس من العام الماضي، "جه السجن محمد علي، رئيس مباحث سجون وجه بحري، حينها بقوة من مصلحة السجون، عملوا تجريدة لكل زنازين السياسين، أخدوا كل متعلقاتنا، وهدومنا وبطاطينا وأكلنا وكل حاجة وسابونا بالملابس الداخلية وكاحول لكل فرد وتلات بطاطين، ده غير كل اللي راحوا التأديب واللي اتهانوا واتضربوا".
الزيارة التي ينتظرها السجين، لا تتعدى العشر دقائق، وقبلها يُعاني الأهالي خلال طابورٍ طويل، "يحدث تحرش ببعض النساء من قِبل المخبرين أثناء دخولهم الزيارات"، بالإضافة إلى "سرقة طعام السُجناء، والزيارات".
ثلاثة أشياء برزت خلال الزيارة الأخيرة من قِبل مصلحة السجون، على رأسها الطعام الوفير، ينفي الإمام "الأكل في منتهى السوء، مش بيتحط فيه ملح لإنهاك قوة المعتقل، المكتبة والملاعب محدش بيشوفهم، المستشفى بيذلوا الناس عشان يروحوها وفي ناس محتاجة تحاليل وعمليات وعلاج ومش بيتعالجوا عشان المستشفى غير مُجهّزة، في ناس كتير ماتت بسبب سوء الرعاية الصحية، سواء سياسين أو جنائيين".
يوم التفتيش.. مُعاملة خمس نجوم
أمتارٍ بعيدة تفصل بين جولة الوفد، والأهالي المصطّفون أمام بوابة السجن من أجل الزيارة، لكنّهم دون أي شئ، تلمّسوا وجود تفتيش من مصلحة السجون؛ "الباب الخارجي كان مدهون طازة بعلم مصر، زرع على الجنبين، السجن من برة مكنوس وممسوح، تزايد عدد الأمن المركزي، وأعلام الداخلية ومصر مُعلّقة".
تحكي رنوة يوسف، زوجة الصحفي يوسف شعبان، -الذي يقضي حكمًا بالسجن لمدة عام وثلاثة أشهر ببرج العرب-، لـ"مصراوي"، عن تفاصيل يوم التفتيش، والذي كانت موجودة خلاله؛ الزيارة التي كانت تتم بعد وجودها بإثنتي عشر ساعة في الطابور، تّمّت في هذا اليوم تحديدًا برتم أسرع عن المرات السابقة، "المُعاملة كانت خمس نجوم،على غير العادة، لم يٌرفَض طعام من الزيارة، يوسف نزل بسرعة، وسابونا نقعد نص ساعة، مع إن أقصى حاجة كنا بنقعدها في الزيارة تلت ساعة".
على الجانب الآخر من تواجد التفتيش الأمني، "إحنا كنا في عالم وهمّ في عالم"، تصف رنوة قاعة الزيارة بأنها "كانت في حالة سيئة، والحمام كان في منتهى القذارة، طبعًا لإن المساعد مكنش حيعدي من عندها".
زنزانة مساحتها 5 متر في 6 متر، يتكدّس فيها ما يقرب من 27 شخص، لا يوجد موطئ لقدم، لذا يلجأون بسبب ضيق المساحة، إلى ما يُسمى بـ"الطيارة"؛ وهي عبارة عن تعليق "شكاير" الأرز الفارغة في الهواء، حتى يكون هناك صّفين داخل الزنزانة، ليتمكنوا من النوم، لكن زيارة الوفد التي تحدثت عن السجن وكأنه مُنتجعٍ سياحيّ، وأبرزتها الصور، تراها رنوة بأنها "كاذبة"، تحكي عن الأطعمة التي تُقدّم إلى السُجناء، والتي تُسمى "التعيين": "عبارة عن شيء غير مفهوم، بطاطس ورز معمول بقاله شهر وبيتسخن كل يوم، واللحمة يومين في الأسبوع وسيئة جدًا، ورائحتها كريهة، وقدّموا لهم فاكهة قبل كدة، جابتلهم تسمم"، ونظرًا لهذه الحالة، فإن السجُناء يعتمدون على طعام الزيارات، والذي يُمنع أغلبه لاسيما في شهر رمضان، "كل أنواع الحلويات، بالإضافة للمحشي والبقسماط والعيش والتمر، والصواني اللي معمولة فالفرن"، وعن المكتبة والملعب وورشة النجارة، "عمرنا ما سمعنا عنهم ولا شفناهم".
أما عن الأوضاع بداخل السجن، فإن برج العرب "من أكتر السجون اللي فيها أمراض متفشّية، سواء أمراض جلدية زي الجرب والحساسية ومضاعفاتهم، أو فيروس سي اللي بتنقل عن طريق أدوات الحلاقة اللي بيستخدمها كل الناس".
قائمة طويلة من الممنوعات في الزيارة، أو أن يحوز عليها السُجناء؛ "ممنوع الورق والأقلام، الراديو والتليفزيون، الدفاية المروحة، أما الكتب فمسموح بكتابين في المرة الواحدة"، يحول السجن الانفرادي بين يوسف والعالم الخارجي، وأيضًا ما يدور بداخل السجن، يقضي التريض بمفرده، ولا يرى الناس إلا قليلا، عدد ساعات التريّض تقلصت إلى ساعتين، "ولو فيه أحكام قوية زي إعدامات أو مؤبدات، السجن بيعلن حالة الطوارئ وبيقفل التريض بالأيام".
السُجناء الذين ظهروا بزيّ جيّد، ولُحى مُهذّبة، تقول عنهم رنوة، " مفيش أي تأنق في السجن، يا تسيب شعرك كله ودقنك، يا تحلقهم خالص، حتى اللبس "الكاحول" لازم يكون مبهدل، أما لبسنا اللي بنشتريه ليهم، فده بيتلبس جوة الزنزانة"، وتضيف، "مرة الضابط قالي جايبله تريننج غالي كدة ليه؟هو رايح النادي؟ ولَّا فاكرنفسه جمال مبارك؟".
عواقب التفتيش
في شهر مارس من كل عام، تُجري مصلحة السجون تفتيشًا، تأخّر الموعد هذا العام، لذا تنفّست هند، -شقيقة لؤي القهوجي، والذي يقضي عقوبة سنة وثلاثة أشهر، وزوجة الدكتور عمرو عاطف، الذي قضى 30 شهرًا حتى الآن من التأجيلات بداخل برج العرب-، الصَعداء، لكن في نهاية الشهر قدِم اللواء حسن القهوجي على رأس الوفد؛ "تفتيش مصلحة السجون بييجي علينا بخسارة، بيصادرو الملايات وأي حاجة معاهم في الزنزانة".
تسرد هند واقعة على لسان زوجها الدكتور عمرو، حدثت بالتزامن مع وجود الوفد: "رفضوا يخرّجوا سجين للعيادة عشان ياخد حقنة السُكّر، بسبب وجود التفتيش"، والسُجناء السياسيين تم منعهم من التحدث إلى الوفد الصحفيّ.
لائحة السجن غير مُطبّقَة، ما يٌربِك حسابات الأهالي بشأن طعام الزيارة؛ "كل مرة على حسب مزاج الضابظ، زيارة قالولنا البقسماط والتمر ممنوعين، وفي زيارة تانية دخلوا"، أما المكتبة فإنها ممنوعة على السُجناء، "ممنوع أي حد ينزل المكتبة، الكتب بنهربها زي المخدرات، الجرايد الرسمية بتدخل، لكن لا يُسمح بالمجلات، التريض ساعة بعكس ما تنص عليه اللائحة، وحققوا مع زوجي عندما كتب "مقالة عن الأوضاع الحقيقية التي يمر بها المحتجزين بالسجن
زيارات مَسروقة
في الثالث والعشرين من نوفمبر عام 2014، قُبض على كريم العطار، ولا يزال يقبع داخل السجن منذ سنة وخمسة أشهر احتياطيًّا، بسبب حيازته "أمسكية رمضان، مطبوع عليها صورة الرئيس المعزول محمد مرسي، ووش كارتون عليه صورته أيضًا، كان كريم قد وّزعت عليه خلال صلاة العيد".
يحكي مُصطفى العطار، ظروف القبض على شقيقه كريم، "كريم ليس له نشاط سياسي دائم، فقط يكتب آراؤه وأفكاره خلال تدوينات على "فيسبوك"، برج العرب، وكل شوية يأخذ تأجيلات".
يحمل مصطفى رواية مُغايرة لما تَلته وزارة الداخلية: "الصور لا تعكس الواقع الموجود داخل السجن، من أول المكتبة إلى الأكل، الطعام الذي ظهر في الصور غير موجود بالأساس في السجن، الأكل يا إما مسروق من زيارات الأهالي، أو مأجرينه".
رحلة عذاب أسبوعية تتمثل في الزيارة، التي تُحدد مُدتها على "حسب مزاج الضابط"، من الممكن أن تستغرق نصف ساعة، أو ثلث ساعة، "رغم أن اللائحة تنص على أن تكون ساعة"، حسب وصف مصطفى.
يجد السجناء والبالغ عددهم حوالي 27 شخص في زنزانة واحدة، خيارين من أكل تناول الطعام؛ الاعتماد على الزيارة "كل واحد فيهم له موعد مختلفة، وبعد استلام أكله، بيتم التوزيع على كل الموجودين، حتى موعد زيارة شخصٍ آخر، وهكذا"، أما الخيار الثاني مُتمّثل في كانتين السجن، والذي يقول عنه مصطفى: "سعره غالي، ومش الكل بيقدر عليه؛ بيعملوا صفقات على ناس محبوسة".
أما المكتبة التي ظهرت في صور التفتيش، "غير موجودة"، "حتى الكتاب أو الورقة أو القلم أو الألوان جريمة، وممنوعة رغم إن لائحة السجون لا تنص على ذلك، حتي الكتب التابعة لدور النشر التابعة للدولة بدون سبب، ولما بنسأل بيتقالنا "هو كدة".
المُعاملة الحَسنة التي تحدث عنها اللواء السوهاجي، يرد عليا مُصطفى قائلًا: "لم يتعرض كريم للتعذيب بالمعنى المباشر للكلمة، لكن في تأديبات، وهي قهرٍ للنفس لا يوجد أصعب منه، بيتم إهانته في التأديب، بيرشوا عليه جردل ميّة، وفي مرة كان جردل بول".
فيديو قد يعجبك: