مصراوي يرصد تفاصيل أول مباراة كرة قدم داخل حلب
كتبت- دعاء الفولي:
منذ كان عمره سبعة أعوام لم يفترق محمد مارديني عن الساحرة المستديرة. له في كل شارع بحلب السورية حكاية و"ماتش"، غير أن انقسام المدينة بين قوات النظام والمعارضة، أضاع عليه سنوات من اللعب داخل مدينته، قبل أن تُرد له الروح، مع انطلاق أول مباراة بين فريقي الاتحاد والحرية، السبت الماضي، في نادي رعاية الشباب، عقب ست سنوات من الانقطاع.
شعور مختلط بين الحماس والخوف اختبره حارس مرمى فريق الحرية في الجولة السادسة لدوري الأندية السورية. قبل أن يدخل الملعب، حاول توقع رد فعل الناس، عدد الحضور في المدرجات، كيف سيشجعون الفريق؛ أغرقت الأفكار ذهنه فيما همّه الأول "إننا نعمل مباراة ترجع البسمة للجماهير".
طوال ساعة ونصف مُدة المباراة، ارتفع صوت خالد إسكيف مُشجعا فريق الاتحاد. "أهلاويين" هو اللقب الذي يطلقه محبو الفريق على أنفسهم "لأنو فريقين الاتحاد والحرية زي الأهلي والزمالك بمصر.. وأصلا معظم سكان حلب الشرقية هن أهلاوية" يقول إسكيف لمصراوي بفخر.
تلك السنوات التي مرت دون كُرة قدم "كان عنّا شعور بالحرمان"، حتى أن إسكيف ظل في حالة صدمة بعد بداية المباراة، كأنّما يحيا داخل حلم.
الهدف الأول في الدقيقة الأولى بالمباراة له جلال في نفس إسكيف "كنت عم بضحك لأنه المباراة بلشت بشكل غير عادي واللي جاب الجون فريق الاتحاد". ظل المُصور التليفزيوني يُراقب من حوله؛ كان بينهم أطفال لم يُشاهدوا أحداث كروية في حلب قبل ذلك اليوم.
يتسع مركز رعاية الشباب لحوالي 10 آلاف متفرج، وهو عدد قليل إذا ما قورن بإستاد حلب الدولي حيث جرت آخر مباراة ضخمة عام 2010 بحضور 75 ألف شخص. ومنذ تواتر الأحداث اضطرت الفرقتان للعب في دمشق، وتقلصت ساعات التدريب "بسبب القصف وعدم استقرار الأوضاع الأمنية" في حلب الغربية، حسبما يقول محمود خانطوماني، أحد لاعبي فريق الحرية.
أثناء مباراة 2010 كان خانطوماني ضمن فريق الاتحاد للناشئين في سن 16 عاما "ساعتها غلبنا فريق القادسية الكويتي واتأهلنا لاستكمال اللعب في كأس الاتحاد الأسيوي". ظن الشاب ذو الاثنين وعشرين عاما أنه لن يلعب ثانية في حلب، حتى جاءته الفرصة أول أمس "حسيت إنه رجوعنا للعب مكافأة لأهل المدينة ياللي صبروا كتير". تمنّى لاعب خط الوسط لو فاز فريقه، لكن هزيمتهم بهدفين مقابل واحد زاده تعلقا باللعب في حلب مرات عديدة أخرى.
بينما تغزو نبرة الاحتفاء أنفس الذين حضروا الحدث، ظهر الاستياء على العديد من معارضي نظام الرئيس الحالي بشار الأسد، لاسيما الذين تم إجلاءهم من المدينة منتصف الشهر الماضي، وأشار بعضهم إلى أن لعب الكرة هناك ما هو إلا "رقص على جثث الذين راحوا ضحية قصف بشار وروسيا".
لم يفكر إسكيف في ترك المدينة، وجاءت الانفراجة، في رأيه، مع رفع يد المعارضة عن المدينة "لأنهم كانوا عم يتاجروا بأوجاع الشعب السوري". رغم ذلك يُصيبه حزن كلما تذكر انقسام جيران الشارع الواحد "لأنو كل شخص منهم عم بيقف مع صف سياسي مختلف". تلك الغصة التي تعتري نفس إسكيف، تخفت قليلا حين تعاوده وقائع مباراة أمس الأول، إذ ما زالت تتردد في ذهنه هتافات الحضور "كانوا بيترجّوا أعضاء اتحاد الكرة اللي حاضرين إنه يبقى فيه مباريات تانية في حلب".
المطالبات ليست أبرز ما علق بذهن إسكيف؛ بل "ممازحة" جماهير الفريقين بعضهم البعض، فمع كل هدف يدخل في المرمى ما يلبث المشجعون أن يستغلوا الفرصة لإظهار قوة فريقهم بالتهليل والتصفيق، حينها كان بدن المُصور يقشعر "كأني بحيا من جديد وانا عم شوف الجماهير بترجع تتناقر تاني" .
"الأجواء مو كانت عادية حتى على المستوى التأميني".. هكذا رصد طريف مغامس -أحد الجماهير- الوضع. تم إغلاق الشوارع المحيطة بالنادي الموجود في منطقة السليمانية "مُنع دخول السيارات في المنطقة المُغلقة"، ظهرت قوّات مكافحة الشغب، أو ما يُسمى بالضبط الأمني، وجرى التفتيش بشكل طبيعي للدالفين، فيما تسللت الراحة لقلب الشاب، حيث شعر أنه بمأمن أخيرا.
وكانت قوات النظام استعادت أحياء حلب الشرقية، منتصف ديسمبر الماضي، بعدما سيطرت عليها المعارضة عام 2012، وبناءً على اتفاق بين الأطراف تم إجلاء 35 ألف مواطن سوري -بين مدنيين ومسلحين- من الأحياء الشرقية لمناطق أخرى في الداخل.
تجهيز أرض الملعب لم يكن الأفضل، لكن ذلك لم يزعج خانطوماني "لأن هناك وعود باستكمال إصلاحه"، أما الجمهور فقد تفهموا الوضع، كما يروي مغامس "لاسيما إنو الفرقتين مكانوش بيلعبوا بشكل كامل قبل هادا الماتش". وتحتوي حلب على 3 ملاعب؛ الحمدانية، 7 نيسان واستاد حلب الدولي، وهو الأكبر على مستوى الشرق الأوسط.
خلال انقسام المدينة بين المعارضة والقوات النظامية، ظل التدريب قائما في أحياء حلب الغربية، بشكل يومي تارة ومتقطع مرة أخرى. حينها تحامل خانطوماني على نفسه للاستمرار في رياضته المفضلة "لي زملاء استشهدوا بسبب القصف وقت التدريب". اختار اللاعب البقاء في حلب، لكنه نزح لمنطقة وسط البلد بعد الإجلاء، حيث الأجواء أكثر أمانا.
بين الجمهور جلست السيدة صباح بصحبة ابنتها تُشاهدان المباراة، بعين مشجعتين متعصبتين، الأم لفريق الحرية والفتاة للاتحاد "كنا عم نشجع دون خوف، الملعب مليان ع آخره. كنت مبسوطة لأنو أخيرا هنفرح مِتل زمان".. هكذا وصّفت الشاب لعشرينية شعورها بعدما وطئت قدماها أرض الملعب.
بينما انحازت الأم والفتاة لاتجاهين مختلفين، اختار مغامس ألا يُشجع أي من الفريقين، يقول ساخرا "قعدت بمنطقة وسط بين المشجعين عشان مو أنحسب ع فريق خاصة إنو بعض اللاعبين جداد علينا وما كانوا بالفريقين قبل 2011". في تلك المباراة تحديدا، أراد الشاب فقط أن يُشجع "اللعبة الحلوة"، وهو ما جعل البعض يصرخون بين الشوطين قائلين: "الاتحاد والحرية يد واحدة".
تحاول حلب طرق أبواب الحياة بعدما عُرف نصفها الشرقي كأيقونة لمأساة إنسانية-طبقا لتوصيف الأمم المتحدة-خلال السنوات الماضية، وبينما يمضي الوقت تكسو "روح جديدة"
جنباتها، حسبما يقول مغامس، الذي يتمنّى أن تكون المباراة بداية لحياة عادية يعيشها الذين اختاروا البقاء في المدينة.
فيديو قد يعجبك: