بعد 17 عامًا من المطالبة.. عزبة الغضان "بقى فيها مدرسة"
كتب- إشراق أحمد وشروق غنيم:
تستيقظ الطفلة أميرة سمحي في تمام الخامسة صباحًا، تفرك عينيها وبُخطى مُتثاقلة تُجهِز حالها للذهاب إلى المدرسة، لكن الألم الذي يدُق في أقدامها يخذلها، فتقرر صاحبة الثمانية أعوام العودة إلى النوم من جديد.
خلال الفصل الدراسي الأول الجاري، تغيّبت طالبة الصف الثاني الابتدائي حوالي تسع مرات عن الذهاب لمدرستها، والسبب تتشاركه مع أطفال قريتها: بُعد المسافة. يحتاج طلاب عزبة "الغضان" إلى السير حوالي4 كيلو مترًا على الأقدام للوصول إلى مدرستهم الكائنة بمنطقة بهبيت –العياط جنوب الجيزة.
تلك المشكلة تخطو نحو الحل، بعدما ساهمت جمعية "من أحياها" في إنشاء مدرسة جديدة تضم السنوات الأولى للمرحلة الابتدائية، وتم افتتاح مبناها يوم الجمعة المنصرف.
مع الظهيرة وصل القائمون على المدرسة الجديدة، وطلاب من الجامعة الكندية جاءوا للمشاركة في الافتتاح. أمام الحافلتين الوافدتين أخذ الصغار يهتفون "بتوع الحفلة جم"، فيما كان أول الهابطين إليهم هم أصحاب القمصان الحمراء. طلاب الجامعة الكندية الذين وفدوا من أجل الترفيه عن الأطفال كما تقول يمنى أبو النصر، المنسقة بين الجامعة والجمعية لمصراوي "إحنا دايما بنعمل رحلات تطوعية لشباب الجامعة عشان يعرفوا اللي بيحصل حواليهم".
سيل من الأطفال هرعوا إلى الفصول التي أوشك تجهيزها، بين اللعب والجد قضوا أربع ساعات من المُتعة "العيال مناموش من امبارح ولابسين أحلى حاجة عندهم كأنه عيد عشان خاطر المدرسة" تحكي ببهجة أم رمضان، أحد أهالي العزبة.
وجود أرض مُعّدة للبناء، هو ما سهل الأمر على جمعية "من أحياها" لبناء المدرسة حسب قول إيمان عبد الرحمن، مسؤولة الجمعية عن المدرسة، موضحة إن سبب اختيارهم للمكان هو عدم وجود مدرسة تأوي حوالي 10 عزب، مما يضطر الأهالي إلى إخراج أبناءهم من التعليم وخاصًة الفتيات منهم.
قبل قرابة ثلاثين عامًا، حفظ منزل آل سليم وصية عن الجد "يتعمل على الأرض اللي فايتها منشآت لله". في عام 2000 أشار الحفيد عبد الحميد سليم على أبيه أن يبادروا لأجل بناء مدرسة توقي أبناء عزبة "الغضان" شر الطريق، لكن المحاولات لم تنجح.
بعد رحلة مع الإجراءات والحصول على موافقة من وزارة التربية والتعليم لبناء مدرسة في العزبة، سقطت كل الآمال أمام لجنة تفقد المكان التابعة للوزارة "قالوا لنا الطريق عايز يتسفلت عشان تتبني المدرسة" يقول عبد الحميد، ورغم تردد المحاسب القانوني على المحافظة، وإدراج تمهيد الطريق في الخطط إلا "أن مفيش حاجة حصلت والكلام ده من 2002 رغم أننا قلنا لهم الأرض متبرعين بها لأي مشروع يخدم الناس".
لم يتغير الحال بأبناء العزبة التابعة لمدينة العياط إلا بعدما استجاب القائمون على جمعية "من أحياها"؛ عرضوا عليهم التكفل ببناء المدرسة، وحينها تأكد عبد الحميد أن الأمل انقطع من الجهات الرسمية للتدخل في بناء المدرسة "حاولت أوصل لورق المدرسة قالوا لنا مفيش ضاع. قدموا على طلب تاني يعني هبدأ من الصفر"، لذلك شعر أن بناء المدرسة المجتمعية هو السبيل أمام القرية لتحقيق وصية الجد بإنشاء ما يفيد مكانهم.
منذ شهر مارس الماضي بدأت مَن أحياها في بناء المدرسة على النظام البيئي، فيما تنتهي من إعدادها بشكل نهائي في مطلع ديسمبر المُقبِل "هنشتغل الشهرين دول عشان الأطفال يندمجوا في جو المدرسة قبل التيرم التاني"، والمزمع عقده في الأسبوع الثاني من شهر فبراير المقبل حسبما تقول المسؤولة عن المدرسة.
مبنيان متقابلان على مساحة فدان، بياض لونهما جعلهما مختلفين عما حولهما من بيوت الأهالي، فيما تبدو الأسقف على شكل قبب، ومن الداخل لا ظهور لأي تدخل خرساني. وفي الجوار يتواجد محطة إعادة تدوير لمياه الصرف حتى يتم ري الأرض المحيطة للزراعة. حاولت المؤسسة عدم جعل المدرسة تقليدية، فقررت بناء أشجار حولها بدلًا من السور "الخُضرة أحسن من إحساس إنهم في سجن ومقفول عليهم".
جاء بناء مدرسة من أحياها كطوق نجاة بالنسبة للصغيرة أميرة "أبويا قالي خلاص مش هتمشي كتير تاني". تحكي أنها تتعرض إلى الضرب من قِبل مُدرسيها حينما تتغيب، فيما لا تنسى أنها بعد أن قضت ساعة ونصف في الطريق، عاقبها ناظر المدرسة هذا الفصل الدراسي بسبب التأخير وجعلها تعود مرة أخرى إلى المنزل "روَّحت عيطت".
بينما كان الصغار يلهون داخل الفصول الجديدة، جلست أم رمضان وأسرتها ترمق من منزلها مراحل نمو المدرسة المقابلة لهم، معها يخفق قلب بناتها بعودتهم مُجددًا إلى التعليم "هيبقوا قدام عنينا مطمنين عليهم"، فيما تأمل أن يختفي المشهد الذي عايشوه منذ ولادتهم "الصبح تلاقي العيال كلها ماشية على الطريق للمدرسة والعربيات بتقف من كترهم"، وبسبب ذلك قررت إخراج بناتها الأربعة من الدراسة "ببقى خايفة عليهم يحصلهم حاجة، ولو ركبوا توك توك أقل حاجة هياخد 30 جنيه، والعيلة يادوب مصروفها خمسة جنيه".
لم يكن قرارًا سهلًا بالنسبة للسيدة، فهي تعلم مرارة عدم تعليم فتياتها "إحنا لما نروح مكان لازم نسأل أو ناخد حد معانا عشان لو قدامنا يافطة مبنعرفش نقراها، أهي تنفع روحها وتقرا لعيالها"، ولهذا عمت الفرحة في نفس أم رمضان بالمدرسة الجديدة.
سعادة موازية بدت على وجوه طلاب الجامعة الكندية "التأثير على الجانبين أهل المكان بيحسوا أنهم متشافين والطلاب بيعرفوا بيتفتح عقلهم على أسئلة إزاي يقدروا الناس اللي حواليهم" تقول يمنى، المشرفة على الطلاب، موضحة أن الطلاب المنتمين لكلية الإعلام سيقومون بعمل مشروع مصور عن المكان من هذه الزيارة.
وإلى جانب الألعاب التعليمية منها والترفيهية، أتى الشباب بأدوات مدرسية وسبورات من أجل المدرسة، تركوها وغادروا بعد وصلة من تبادل الفرحة، شارك فيها بعض أطفال العياط الممارسين لرياضة الكاراتيه.
بدءًا من اليوم تستقبل مدرسة "من أحياها" في العزبة، الطلاب حتى إجازة نصف العام، تستوعب تلاميذ الصف الأول، الثاني والثالث الابتدائي، وفي العام المقبل ستكون جاهزة حتى السادس الابتدائي، فيما يتنفس الأهالي الصعداء، يتوقون لاكتمال الشكل النهائي للمدرسة الجديدة، ولسان حالهم "أخيرًا بقى عندنا مدرسة".
فيديو قد يعجبك: