عيد منزوع البهجة.. كيف يحتفي الأقباط بـ"القيامة المجيد"؟
كتبت - شروق غنيم ودعاء الفولي:
الثانية عشر من صباح اليوم، انتهى قُداس القيامة لعام 2017. على استحياء لامس الفرح نفوس الأقباط، زاحمتهم ذكريات أسبوع الآلام، بعدما وقع انفجاران بكنيستين في طنطا والإسكندرية، راح ضحيتهما أكثر من 40 مواطنا. حملوا جراحهم على أكتافهم، صلوا كثيرا كي تنزاح الغُمّة، أعرضوا عن العيد واستبدلوه بالتعازي، إذ بات الاحتفال السنوي بقيام المسيح من الموت، تنقصه أجساد من ماتوا والمصابون.
منذ صغره لم يُصل مارك بطرس إلا بكنيسة مارجرجس بطنطا، وعلى مدار 28 عامًا توثقت علاقته بأغلب الخُدّام والشمامسة بها، فأصبحت الكنيسة ركنًا أساسيًا من احتفاله بالعيد، لكن في تفجير أحد الشعانين، صعدت روح 5 من أصدقائه المُقربين و"مفيش حد مات معرفوش".
يُخيم الحُزن على عيد مارك "اللي كانوا بيصلوا الألحان وبيعملوا تمثيلية القيامة صُحابي"، فيما يؤلمه أن يغيب عن كنيسته ماجرجس لأول مرة في حياته "لما لقيتها ضلمة زعلت، مش متعود عليها كدة، وكان نفسي أصلي فيها حتى لو لسة متضررة من الحادث".
الأربعاء الماضي، أعلنت الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية إلغاء احتفالات عيد القيامة المجيد والاقتصار على القُدّاس فقط، واستقبال من يرغب بالتعزية في جميع الإبراشيات.
رغم فداحة الفقد؛ إلا أن صاحب الـ28 ربيعًا تمنى عدم إلغاء حفل الأطفال، المُعتاد إقامته صباح كل عيد القيامة "عشان الأطفال بقت تخاف تدخل الكنيسة، بعد لما شافوا الحادثة"، ويذكر كيف هتف ابن شقيقه، صاحب الأربع سنوات بكلمة "قنبلة"، حينما مر أول أمس من أمام ماجرجس."
بالنسبة للأب أندراوس فرج، أحد كهنة مطرانية الأقباط الكاثوليك بالمنيا، -التي بادرت بإلغاء الاحتفالات-؛ فإن إيقاف مظاهر الاحتفال واجب إنساني، بعيدًا عن حجم الأزمة "أحيانًا كنا بنعلن الحداد لما يسقط شهداء في الجيش أو الشرطة أو غيرهم.. في الآخر دم يُراق من غير ذنب"، حسبما يقول لمصراوي، موضحًا "عندنا في الصعيد نقول الدم لسة مبردش.. كيف نحتفل واخواتنا مغدور بيهم؟".
استقبال العزاء بين جدران الكنيسة هو الإجراء الوحيد الذي سيتخذه الأب فرج "بدل ما نسمع كل سنة وانت طيب هنسمع البقية في حياتك". حين وقعت كارثة طنطا والإسكندرية، لملم الأب حزنه، تحامل على ألمه، لكنه استمر في وعظ أبناءه "الإيمان أقوى من الموت.. الله معانا.. الله يحمينا"، ظلت الصلوات تُتلى داخل المطرانية، ومعها تتعالى أمنيات الحضور لعل السلام يغسل النفوس.
بينما يُغطي حّزن المنيا على العيد اليوم، ستُرسل الكنيسة الكاثوليكية في طنطا وفدًا للمصابين وأهالي الضحايا. مازال الأب فرج يؤمن بما سيأتي "مرينا بأسوأ من كدة وقدمنا شهداء.. بس مش هنيأس من ربنا وصلواتنا"، يحكي عن رعشة انتابته حين لاحظ زيادة عدد المصلين في المطرانية خلال الأيام الماضية "يمكن وقت الفجيعة الإيمان بيتهز لكنه بيعود أقوى الأول".
على عكس مارك، فإن ديفيد عّفت، أحد أعضاء فريق كشافة الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، يرى أن هناك ضرورة لإلغاء حفل الأطفال صباح عيد القيامة "عشان يعرفوا إن إخواتهم استشهدوا، ويفهموا إن في حاجة غلط حصلت"، فيما يعتبر أنه لأول مرة لا يملأ الكاتدرائية، وهي الأكبر في إفريقيا والشرق الأوسط، مظاهر فرح في العيد، وهو ما يعكس حزن عميق يعتمر صدورهم بعد الحوادث الأخيرة.
ما جرى في تفجيري طنطا والإسكندرية، كان ضمن سلسلة من الكوارث، إذ تم تهجير أكثر من 100 عائلة قبطية من العريش إلى الإسماعيلية في فبراير الماضي، بعد تهديدات وقتل وقع على أيدي ما يُسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ومع حلول العيد، خضع مكاريوس-اسم مستعار- لإلحاح أبنائه عليه كي يلحق بهم تاركا سيناء أخيرا منذ 4 أيام، ورغم وصوله إلى مساكن المستقبل بالإسماعيلية حيث مسكنهم الجديد، إلا أنه لم تصله أي مشاعر تتعلق بالفرحة أو العيد.
مايزال شقيق مكاريوس في العريش، يتحرك في مساحات ضيقة ومحدودة، وحيدًا يستقبل العيد، آلام تسكنه لما آلت إليه مدينته، حتى أن كنيسته ماجرجرس موصدة، إضافة إلى آلام حادثتي كنيستي طنطا والإسكندرية.
في الإسماعيلية، تحتل نفس المشاعر قلب مكاريوس، إلى جانب قلق كبير وتوجس من أن يصير مكروه في هذا اليوم "خايف على عيالي"، لكن ذلك لا يُثنيه عن الذهاب للكنيسة، في حين يشعر ابنه الأكبر بيتر –اسم مستعار- بالغُربة والتشتت "العيد بالنسبة لي لمة العيلة، وإحنا عيلتنا اتفرقت بعد اللي حصل بالعريش".
اختفت الأجواء الاحتفالية عن عالم بيتر هذا العام، فالشاب لم يشترِ حُلة جديدة للعيد، فيما سيفتقد الكحك التي دأبت والدته على إعداده في هذه المناسبة، منذ 21 عامًا حين مولده "منقدرش نحتفل وإخواتنا ميتين"، يُعزي نفسه بأن كل ذلك سيمُر "بقول أنا في رحلة بعيد عن مدينتي، وبكرة الدنيا تتحسن من غير ما نخسر حد".
منذ الأحد الماضي، اتشحت ميرفت جرجس بالأسود، صارت حركتها أبطأ، غابت ابتسامتها وهي التي انتظرت تلك المناسبة لتُحيي ذكرى القيامة وسط العائلة.
مازالت مشاهد الأشلاء المتناثرة بأرجاء كنيسة مارجرجس في طنطا تملأ ذاكرة السيدة الخمسينية، لا تتمالك دموعها كلما علمت أن مكانها في الصفوف الخلفية هو ما أنقذها من موت مُحتم "وكل ما أفتكر إن حبايبي وجيراني اللي مات منهم واللي اتصاب أحس كأني مش قادرة أتنفس"، إذ كان أقرب الراحلين لها هو الشمّاس سليمان، والذي تعتبره بمثابة ابن.
بالأمس ذهبت جرجس إلى كنيسة أخرى غير التي اعتادتها منذ 30 عاما، حضرت القُداس، بكت كثيرا على الراحلين، لكنها لم تشعر بخوف "يمكن دي الحاجة الوحيدة الكويسة.. إني حاسة إن الناس بتغالب فزعها".
تحاملت السيدة على حالها حتى انتهاء المراسم الدينية "روّحت البيت محستش إني عايزة أعمل أكل لا محمّر ولا مشمّر"، ألقت نظرة على المنطقة المحيطة "كانت بتبقى كلها عيال بتلعب وتجري"، شعرت بغصة في الحلق وهي تراها خالية، قبل أن تنزوي إلى منزلها.
خلال الأيام الماضية كرّس جون بُشرى وقته للمرور على كنائس المنيا الأرثوذوكسية، استعدادًا لاستقبال طقس القيامة، ورغم عدم وجود عيد، إلا أن مسئول لجنة المواطنة بالكنيسة شعر أن إلغاء الاحتفال أثلج صدره.
لا خوف من الصلاة، حسبما يقول بُشرى "يمكن في ترقب وسط الناس.. كأنهم مستنيين الموت.. بس في نفس الوقت بيروحوا برجليهم"، منذ أن وعى الشاب الصعيدي على الدنيا وهو ينتظر يوم العيد لحضور تمثيلية قيام السيد المسيح من الموت "بنعملها في الكنيسة كمحاكاة وبتبقى مُبهجة جدًا وفيها زغاريد"، إلا أنهم اضطروا لإلغاءها اليوم، ولم يتم الإبقاء على أي مظاهر احتفالية سوى استبدال الأعلام السوداء في الكنائس والخاصة بأسبوع الآلام بأخرى بيضاء.
إلغاء احتفالات اليوم ليست سوى جزء يسير من التضامن مع من رحلوا، غير أن الشاب يتسائل دائمًا عن نهاية سلسلة الدماء "ليه نتضرب في عيدنا كل مرة.. بداية بالقديسين وبعدين في عيد الميلاد في البطرسية وأخيرا في القيامة؟.. هي دي عيديتنا؟".
لأول مرة منذ 10 أعوام، لن يُصلِ الأب ميخائيل، كاهن كنيسة ماجرجس العريش داخلها "الوضع مش مريح إني مصليش في المكان اللي متعود عليه، بس كلها صلاة لربنا وفي بيته.. السنة دي صعبة.. العيد جاي بأسى".
أواخر فبراير الماضي نزح سمير شكري من العريش إلى الإسماعيلية، ورغم تأهبه منذ أكثر من أسبوع للاحتفال بالعيد، لكنه تراجع عن الأمر بعد انفجاري طنطا وإسكندرية.
لم يقرر شكري الاعتكاف في منزله خوفا مما قد يحدث في الكنيسة "بس لأني مليش نفس أعيّد". بعد وقوع الانفجار أصاب الفزع المواطني السيناوي "ليا معارفي في طنطا كان قلبي بتقطّع عشانهم"، مسّه الحزن وصار الكرب مُضاعف "بسبب اللي حصل في الكنيستين وإحساسي إني هقضّي البيت بعيد عن العريش لأول مرة من أربعين سنة".
في ذلك الوقت من كل عام كان شكري يصطحب أبنائه الثلاثة للقُداس في كنيسة مارجرجس، وما أن ينتهي الطقس الديني حتى يعودوا للمنزل لتناول الطعام "وبنتلم كلنا في بيت العيلة تاني يوم". لم يتبقَ للأسرة أي تفاصيل سعيدة من العيد سوى ملابس جديدة اشتراها للأبناء، بعدما تبرّعت له إحدى الكنائس بمبلغ مالي.
يستنكر مارك-التابع لكنيسة طنطا- قِلة التواجد الأمني على كنيسة أبي سيفين التي صلى بها أول أمس "من أول الشارع لحد باب الكنيسة محدش سألني حتى رايح فين"، في حين يختلف الوضع بشارع ماجرجس "قعدت 5 دقايق اتفتش عشان أروّح بيتي، رغم إن بطاقتي موجود فيها إني مسيحي"، لذا يأمل أن يعرف التأمين طريق كافة الكنائس "وميبقاش منظر بس".
ينوي مارك قضاء عيد القيامة في الصلاة صباحًا بكنيسة القديس أبانوب، وباقي اليوم الأحد، بين المقابر لزيارة والده المتوفي، ثم التجوّل على أفراد عائلته، وبعدها على عائلات ضحايا الحادث لمواساتهم، وزيارة المُصابين "نعيد عليهم ونقولهم إننا مش ناسينهم"، فيما يستقبل نادي الكنيسة من الحادية عشر وحتى الثانية ظهرًا المُعزّين، إذ جهّز مارك وزملائه تيشيرتات مبطوع عليها اسم الكنيسة وأسماء الشهداء للصلاة بها.
فيديو قد يعجبك: