من داخل العريش.. آخر رجال الأقباط يتحدث لمصراوي
كتبت- دعاء الفولي وشروق غنيم:
داخل العريش تنقضي أيام موسى -اسم مستعار- بطيئة ومُرهقة. يستيقظ يوميًا، يطمئن على وجود أخيه الأكبر بجانبه، يطوف المنطقة الخاوية على عروشها، يتحسس خطواته، ينظر يمينًا ويسارًا، لا يخرج من المُربع الذي يمكث فيه، ولا يُخفف عنه مرارة الفزع والوحدة، سوى مكالمة هاتفية من عائلته التي سبقته إلى الإسماعيلية منذ 40 يومًا.
سبعة أقباط من أهالي العريش، قُتلوا خلال فبراير الماضي، على يد مُسلحين تابعين لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). حالة من الخوف استشرت وسط مسيحيي المدينة، بدأ نزوحهم بالعشرات، ثم ما لبث أن وصل إلى 100 أسرة استقروا في مساكن المستقبل ونُزل الشباب في الإسماعيلية.
لم يتردد موسى (47 عامًا)، قبل الاتفاق مع أحد السائقين لنقل أسرته خارج الجحيم. وعندما تأكد من وجود وسيلة آمنة، أخبرهم بالصاعقة: "أنا هفضل هنا شوية عشان البيوت وحاجاتنا".
قوبل الأب بعاصفة من الرفض؛ زوجته تبكي، تتوسل، أبناؤه الثلاثة يضغطون عليه للرحيل معهم، غير أنه عقد العزم على البقاء مع أخيه، دون حساب لحجم الخسائر "الموت مش أسوأ من اللي احنا فيه، فمش هيبقى موت وخراب ديار".
قرار البقاء كان محفوفًا بالأسى "كنت بين نارين إني أروح مع ولادي ومراتي ولا أفضل وأخلي بالي من حاجتنا"، دار حوار داخل عقل ابن سيناء "قلت إن الناس هنا غلابة وشقيانين على بيوتهم، وأنا كمان زي حالاتهم فوجودي هنا ولو مؤقت هيبقى أفضل". خلال الشهر الماضي عانى الرجل الأربعيني من محاولتي سرقة "كانوا ناس عادية مش من الجماعات"، إلا أنه طاردهم بصحبة شقيقه ففرّوا.
ينام الشقيقان معظم النهار، ثم يستعدان لليلة طويلة من السهر. يربض موسى منتظرًا لأي حركة غريبة، مراقبًا المحيط، متسامرًا مع أخيه أحيانا، فيما تنهال عليه ذكريات قدومه للعريش للمرة الأولى، سائلًا نفسه؛ لماذا لم ينفد بجلده حينما رأى علامات التغير على المدينة.
كان ذلك في أعقاب تولي الرئيس المعزول محمد مرسي، سُدة الحكم "العريش اتغيرت من ساعتها، وفي أفكار غريبة ضد المسيحيين بدأت تظهر"، لكن ما ربطه بالمدينة وجود أخواته الأربعة بنفس المكان بالإضافة إلى أن "ولادي كانوا في المدرسة ساعتها، قولت أصبر شوية"، لم تختلف الظروف السياسية فقط "أكل العيش نفسه بقى صعب"، عانى موسى من عمله في التجارة وأضحت الأوضاع أكثر بؤسًا.
يبلغ الابن الأكبر لموسى عشرين عامًا "كنت أكتر حد خايف عليه، لأن كونه شاب يخليه عُرضة للتصفية". غالب الأب حزنه على رحيلهم، مقابل ضمان أمانهم الشخصي، لكن القلق أكل قلبه حتى وصولهم الإسماعيلية عقب 4 ساعات.
قبل الرحيل أخبر موسى أبناء الحي ببقائه، ما دفع أرباب 14 منزلًا، نزحوا للإسماعيلية، لإعطائه مفاتيحها "عشان أبص عليها"، حبال التواصل لازالت ممتدة رغم بُعد المسافة وسوء شبكة الاتصال في أغلب الوقت، تهاتفه الأسر للاطمئنان على أوضاعه، وفي حالة احتياجهم لشيء من المنزل.
لا يقتصر ما يفعله موسى على المنازل فقط، بل يُراعي الحيوانات التي تركها أصحابها "باخد بالي منها وبأكلها"، كل هذه الأشياء توطد من قرار موسى بعدم الرحيل وتمنحه ونس يهوّن عليه وحدته. يقترح ابنه الأكبر العودة للعريش حتى لا يتركه وحيدًا، لكنه يرفض بشدة "الوضع خطر" حتى أن موسى لا يخرج لشراء الطعام إلا نادرًا "ببعت حد من جيراني أو لو سواق نازل البلد يجيبلنا أكل معاه".
لم تتمكن عائلة موسى من أخذ أية ممتلكات معها، ضيق الوقت وتسارع وتيرة العمليات المسلحة دفعهم لالتقاط "يادوب بطانيتين وشوية هدوم". يعرف الأب الأربعيني أن "إيد الشرطة عاجزة هنا"، حسبما يقول، راويًا أن آخر موقف جمعه بالشرطيين في المنطقة، كان من أجل حماية المنازل بعد فراغها، غير أن الضابط طلب منه الاتصال حال حدوث شيء فقط.
لا يعبأ موسى كثيرًا بالإجراءات التي اتخذتها الحكومة للأسر النازحة "المهم يكونوا بعيد عن العريش. أيًا كانت الظروف المعيشية"، ورغم وجوده في قلب الموت، إلا أن ينتظر بفارغ الصبر يوميا انضباط شبكة المحمول للاطمئنان عليهم، بينما تبقى أسوأ لحظاته حينما يتصل بوالده مرارا ولا يرد على هاتفه "بفتكر حصل له حاجة ومش عايزين يقولوا".
سمع موسى ما قالته غادة والي، وزيرة التضامن الاجتماعي، عن إمكانية عودة الأقباط إلى العريش خلال فترة 10 أيام، أصابته التصريحات بالذهول، إذ بات يعلم أن الأمور لن تهدأ إلا عقب سنوات.
أسرة الأب الأربعيني مازالت تُحاول إقناعه بالقدوم، ابنه الأكبر يعمل حاليًا ليُنفق على الأم والأخوة، بينما بدأ موسى في الاستسلام لإلحاحهم، تارة يعدهم بالبحث عن وسيلة تنقله، أخرى يطالبهم بالصبر، لكنه إذا قرر الذهاب، فلن يمكث في الإسماعيلية طويلًا، ربما عدة أيام، ثم سيعاود موقعه في العريش مرة أخرى، حتى تنقشع الأزمة.
فيديو قد يعجبك: