الحرانية.. إمبراطورية النسيج في مصر: قصة حب عمرها 65 سنة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
كتبت- رنا الجميعي:
تصوير- كريم أحمد:
تردد صوت داخل عقل أستاذ الفنون رمسيس ويصا واصف، يقول له إن الإبداع ينبع من نفس الفرد، لا يحتاج أن يكون مُثقفًا أو مُتعلمًا، بل الأهم أن يمتلك القدرة على الإنصات لصوته. بعيدًا عن العمران اختار واصف قرية يُجرب فيها ذلك، خلال عام 1952 بنى المهندس المعماري المركز المُسمى باسمه، ليظلّ منذ ذلك الوقت مفتوحًا لصناعة النسيج.
سيارة تأتي مُسرعة في الخميسنيات، منظر غير تقليدي لأهل قرية الحرانية "طبيعي يستغربوا في وقت مكنش فيه راديو إلا في بيت العمدة"، في ذلك الوقت جذب واصف الأنظار إليه، يذكر إكرام نصحي، مدير المركز، فضلًا عن الكبار فإن الصغار كعادتهم الطفولية أخذوا في الجري وراءه، تُلفت أعينهم ذاك الغريب القادم من المدينة.
فكّر واصف في التقرّب منهم، بنى ملعبًا للكُرة داخل المركز، يذهب مرتين أو ثلاثة أسبوعيًا "لما بقى فيه نوع من الثقة المتبادلة طرح عليهم إنهم يزاولوا فن النسيج"، اختار واصف تلك الحرفة تحديدًا لأنها "بطيئة، لو ادالهم حاجة سهلة هيزهقوا منها بسرعة"، أما النول فمع الوقت تعوّد عليه الصغار "كانوا يلعبوا شوية ويرجعوا ليه تاني".
ركّز واصف مع الأطفال لأن فطرتهم بكريّة"ويقدروا إنهم يمزجوا بين الواقع اللي حواليهم والخيال اللي عندهم"، ليظهر ذلك بجلاء على النسيج.
لم يُغلق باب المركز لخمسة وستون عامًا كاملة، توالت الأجيال، وتوفى ويصا واصف عام 1974، كما كبُر نساجو الجيل الأول، سارت ابنتا واصف، سوزان ويوانّا، بنفس الطريق من بعده، كانتا المُوجهتيّن للجيل الثاني من النُسّاج الذين قدموا بالتزامن مع وفاة صاحب المركز.
حينها أذاعت سوزان في القرية خبر احتياجها لأطفال جُدد "كنت عايزة أولاد مش من قرايب الجيل الأول، عشان أقدر أوجههم بدون تدخل"، تقول ابنة ويصا. أرادت أن تبني علاقة مُباشرة بينها وبين الأطفال "كنت عايزة أفهمهم كويس وأكتسب ثقتهم فيا بدون وسيط".
هكذا كبُر الجيل الثاني، الذي قدم إلى المركز من منتصف السبعينيات إلى الثمانينيات، وهو آخر جيل موجود للآن، انقطع الأثر من بعدهم، حيث يوجد حوالي 30 نسّاجا، تتراوح أعمارهم من الخميسينيات -حيث الجيل الأول- إلى الثلاثينيات "بين فنانين نول صوف وقطن وباتيك"، تذكر صباح، إحدى النسّاجات.
كالعائلة يتعامل أصحاب المركز مع النسّاجين، يُلقي نصحي بالتحية على العُمّال، يعرف اسم كل عامل وعاملة، يعلم أحوالهم وحكاياتهم "دي بسيمة أقدم واحدة في المكان، ودي نادية اللي قابلت الأميرة ديانا"، داخل المركز يسير نصحي ويُشير إلى غرفة كل النسّاجين، ويذكر المعلومات عنهم، فيما تلمع عينيه بالفخر.
داخل 15 غرفة يجلس كل عامليْن معًا، في العاشرة صباحًا قدمت نادية في عباءتها السوداء، لا يُوجد نظام صارم خاص بالمواعيد "أنا ممكن آجي من الساعة تسعة لحد المغرب، وممكن لو ورايا شغل في البيت ماجيش"، توجهّت نحو مكانها الذي لم يتغير منذ 35 عام، فتحت غرفتها بالمفتاح الخاص بها "دا مكاني معايا مفتاحه ومحدش تاني يقدر يفتح الأوضة غير ثريا زميلتي اللي بتشتغل معايا".
أدخلت نادية الشمس عبر شباك صغير بنهاية الغرفة، جلست إلى نول الصوف الذي تعمل عليه منذ شهر، ولم تنس أن تُدير مؤشر الراديو نحو إذاعة الأغاني، تُنتج لوحة بدأتها بالنباتات؛ ورد البصل وعبّاد الشمس، من أين تأتْ نادية بأفكار للسجاد الذي تُنتجه منذ أعوام طوال؟، للسيدة تعريف بسيط للغاية عن الفن "الحاجة الحلوة اللي بتشدني في الطريق".
في غرفة مُجاورة جلس محروس وحده، ينسج سوق المواشي على النول "بعمله على النايم ودي الطريقة الأصعب"، للنسج طريقتان "ع النايم والواقف"، تبدأ السجادة التي يعمل عليها محروس من يمين الأشخاص، يُشير إلى صاحب المواشي "يعني أنا بدأت أرسم الراجل دا من يمين وشه بالجمب"، عرف النسّاج الأربعيني المركز منذ أن كان صبي في الحادية عشر "أول شغل عملته كانت رسمة لأبو قردان".
يتمكّن النسّاج من عمل حوالي 90 سم خلال شهر "بسيمة مثلا بتعمل سجادة من متر لتلاتة"، حيث تستغرق أكثر من ثلاثة أشهر في القطعة الواحدة. يعتبر سعر السجادة الواحدة في متوسط الخمسة آلاف جنيه، يقول نُصحي إن النسّاج لا ينتظر حتى بيع قطعته، بل يأخذ 40% من تكلفتها أثناء عمله بها، ثُم البقية بعد الانتهاء من تقييمها "احنا كمركز بنشتري السجادة من النسّاج"، تلك الطريقة تعتبر الأفضل بالنسبة لمُدير المركز "لو العامل اشتغل عشان يبيع بعد شوية مش هيبقى فيه ابتكار".
يعتمد دخل محروس على إنتاج السجّاد، يكفيه هذا، هو ربّ أسرة مُكونة من زوجة وخمسة أولاد، اثنين منهما في حقوق القاهرة والمعهد الفني، لا يشكو النسّاج الأربعيني من سير العمل "مفيش ضغط، لما بمّل بمشي"، يُحبّ محروس كثيرًا عمله الذي نسج عليه شجرة البونسيانا الحمراء "موجودة في المتحف والناس بتتفرج عليها".
يفتح المركز أبوابه للجميع طيلة الأسبوع عدا الاثنين، فضلًا عن أنه مكان لبيع السجاد، يضم متحفًا لعرض تلك القطع الفنية، يتم اختيار الأفضل لكل النساجين، ليراها رواد المكان "بييجي عائلات مصرية كتير"، كذلك تأتي جولات مدرسية.
اشتهر مركز ويصا منذ زمن، يُعرض السجّاد بالمعارض الدولية، وبجانب زواره العاديين فلم يخلو من الشخصيات العامة. يحكي نصحي "أيام أمين جامعة الدول عمرو موسى وقبليه بطرس غالي كانت الهدايا بتكون من هنا"، كذلك فعل الرئيس السادات قبلهم "سنة 74 هادى السادات الرئيس الأمريكي كارتر بهدية من هنا"، أما أحدث الزوار الكبار فكانا "السفير الإنجليزي وسفير أستراليا".
لا يُعرض السجاد في المعارض الدُولية وحده، بل يرافقها أصحابها، هكذا سافرت نادية إلى لندن، ومحروس إلى روما في سن الـ17، يتذكر النسّاج قدومه منذ العاشرة صباحًا للمتحف "ونلاقي الناس مستنيانا عشان تسألنا عن السجاجيد اللي عملناها"، أما نادية فلا تنس مُقابلتها للأميرة ديانا وهي مُرتدية عباءة قروية ملونة "كانت ست عادية خالص ومبهورة بشغلنا".
عدد من نُسّاج المركز كبار السن لا يقرأون ولا يكتبون، يتعلمون فقط خطّ اسم " كل نساج بيكتب اسمه على سجادته لأنها لوحته هو" يقول نصحي، تكتب ثُريا ونادية أسمائهما على خشب النول، هكذا يتمكنا من نقله في كُل مرة يُنتجا فيها قطعة نسجية، تذكر نادية "أنا متعلمتش في المدارس عارفة اسمي بس، عشان كدا بترحم على صاحب الفكرة إنه علمني حاجة".
يتحدث نُصحي عن المركز بكثير من الإيمان، قبل أن يُصبح مديرا للمكان عام 1987، تزوج سوزان ابنة واصف، هو أستاذ العمارة أيضًا الذي اهتم بالمركز، ذلك الكيان الحائز على جائزة آغا خان للهندسة المعمارية في أوائل الثمانينيات، يتحدث المدير بحماس عن واصف الذي لم يمتلك هذا المكان فقط، بل بنى بيوته بفلسفته الخاصة "واصف من متبنيين العمارة البيئية".
يعتبر نصحي المركز "تجربة إنسانية"، لا يقتطع جزءًا من وقته ليكون هناك "احنا بيتنا جوة المركز"، رُزق الزوجان بصبي وصبية، الآن الابن مهندس معماري، ويهتم بالبيئة أيضًا، أما الابنة تعمل مهندسة ديكور، ورغم أنهما لا يتدخلا في عمل المركز حتى الآن بشكل كبير "هما فاهمين قيمة المكان زي ما يكون متخزن جواهم"، حيث تعهّد الأولاد على ابقاء المركز على ما عليه.
تغيّر الكثير حول المركز، أما هو فبقى. يُشير نُصحي إلى العمارة الخرسانية التي تُبنى لتسد الجزء الأخير من الأفق، كيف يستمر المكان رغم الزمن المتغير؟، بالبدء يحكي نصحي عن إدراك واصف لأهمية البقاء "من الخمسينات وهو عارف إن النباتات اللي محتاجينها في الألوان لازم تبقى موجودة قبل اختفائها تمامًا"، يزرع نصحي تلك النباتات؛ مثل صبغة الفوة التي يشتري بذورها من المكسيك، ويتم الحصاد كل إبريل.
جُزء من ضمان الاستمرارية هو العامل البشري، لا يُوجد حتى الآن جيل ثالث يعمل بالمكان، رغم المحاولات، تقول سوزان "فيه حاجات أكبر مننا، الأجيال اللي طالعة فقدت شغف التعلم"، هذا ما تتفق عليه ثلاث نسّاجات أخريات، صباح ورضا وهانم، تُعلق واحدة منهن "عيال الانترنت زي ما بيقولوا"، تومئ الأخرى مُشيرة إلى النول أمامها "أنا بقالي شهر على السجادة دي، عشان يقعد عيل عليه حاجة صعبة".
كان لسوزان مُحاولات سابقة، منها تعلّم طفل مصاب بشلل الأطفال "كان ابن واحدة عندنا، وكان عندها أمل يبقى موظف لكنه فشل في الدراسة وحزنت عليه"، فحملت سوزان مهمة تعلُمه الحرفة، ولمدة أربع سنوات أنتج بالمركز، إلا أن ولد آخر في مثل عمره أثّر على تفكيره "قاله دا أنا لو وصلت طلبات للبيت هاخد أد كدا"، بعد وقت ترك الصبي المركز.
رغم فشل سوزان في تعليم أحد من الجيل الجديد، إلا أنها لسنين مضت ترعى الجيل الثاني برفقة أختها يُوانّا. لا يعتنيا فقط بمسألة تعلّمهم بلم يُلما بأمورهم الشخصية أيضًا. عبر الزمن تمكنّت ابنة واصف من غرز حب حرفة النسيج داخل الجيل الثاني، صحيح أنها لا تعلم كيفية استمرار المركز، لكنها توقن بمواصلة طريقه "دي حاجة صادقة ونابعة من القلب"، يتفق مع الحديث نصحي، يُلقي بنظره ناحية نادية المنهمكة في النسج "الست بالذات في الريف تبان إنها درجة تانية، هي لما بتيجي هنا محدش بيأمرها".
تعلم سوزان أن المركز لم يكن كيانا مُنفصلًا عن المجتمع، فالقرية التي لم يعلم أهلها مهنة سوى الفِلاحة، الآن لا يخلو منزل فيها من النول "حتى لو بشكل تجاري"، تؤمن ابنة واصف ببقاءه "هنكمل بصورة ما"، أما نادية فتقول بكثير من الحُب "طول ما فيا صحة أنا شغالة هنا، حتى لو مشيت من الباب هاجي من الشباك".
فيديو قد يعجبك: