أول طبيب ميداني لـ"يناير": الثورة أحلى "غلطة" في حياتي
كتب- أحمد الليثي ومحمد زكريا:
تصوير- علاء القصاص:
ربما لم تترك الثورة ندباتٍ في جسد زياد، لكنها "طعنت" روحه غير مرة. فيما كانت طعنات غادرة "جميلة". حضر الشاب العشريني الثورة من يومها الأول، عايشها بكل التفاصيل، أسس مستشفى ميداني بدائي وشارك في تطبيب جراح الثوار خلال 18 يوما، وما تلاها من أحداث. لم تنله رصاصه ولم يُصبه سوء، غير أن ما بقي من ذكريات "يناير" لم يزل يؤرق منامه.
كان يوما عاديا ذلك الذي سبق فجر الثورة؛ داخل المدينة الجامعية بالعباسية ظل زياد فوزي الطالب بالصف الخامس بكلية الطب يستمع لما يُقال عن احتماليات "الغد" والغضب المكتوم. 30 طبيبا اتفقوا على النزول، فيما كان الشاب العشريني ورفيق وحيد من هبط فعليا لأرض الميدان.
كان غروب شمس الخامس والعشرين من يناير إيذانا بوجوده بين رفاق التحرير، في البداية سيطر هاجس مشئوم على فكر زياد "كنت بقول مش جايز الناس دي نصها تبع الأمن، وهيقضوا اليوم ونروح في داهية"، لكنها لحظات، وأول نفس مُلغم بالغاز المسيل للدموع كان كفيلا بأن يقشعر له فؤاد الطالب بالصف الخامس لكلية الطب؛ وجد نفسه بين صفوف مصريين يقولون "لا" لأول مرة دون خوف، صارت كلمة "يسقط حسني مبارك" تخرج مُحملة بنيران القهر، لا يزال ابن حي عين شمس محتفظا بأيقونات اليوم كقطع فريدة داخل متحف "فاكر اللبس والكوفيه، مش ناسي العلم اللي رفعته بكل عزمي، وكلمة مصر اللي كان ليها طعم مختلف".
قبل جمعة الغضب أقام زياد بروفة لمستشفى ميداني داخل نقابة المحامين، ذلك المكان الذي احتضن اعتصامه ثلاثة أيام كاملة من صباح السادس والعشرين من يناير حتى ليلة 28 "قالولي أنت الدكتور اللي هنا وجابولي شاش وقطن.. وبقى كل حد بيتخنق من الغاز أو يسحلوه بره ييجي وأسعفه بشكل أولي".
من أعلى نقابة المحامين كان زياد يرى الثورة تحقق مُرادها "الظباط كان واقف معاهم بلطجية لابسين بدل زي بتاعة الإعدام.. بس اللي كان بيحصل في الشوارع ميوقفش حد، الغول كان طلع من القمقم خلاص"، مسيرات متتالية، دخان، حناجر تهتف، صدور عارية، أصوات الرصاص يهزمها وقع أقدام الحشود "كانت أي إصابة نشوفها تهون.. كنا حاسين إننا كسبنا، الناس بتلف الشاش على جروحها وهي بتضحك"، وسط الفرحة ترك زياد الثوار وترجل حتى منزله بعين شمس قبل أن يعاود أدراجه للميدان ثانية "إتثبت من طوب الأرض واللجان الشعبية عملوا عليا ظباط، بس كل ما أقول لحد أنا دكتور ورايح التحرير اللي يديني شاش واللي يحدف قطن وفي حد أداني طقم جراحة كامل" يتذكر التفاصيل بوجه باسم. من لحظتها اتخذ الطبيب الشاب قراره "هساعد الناس على أد ما أقدر.. ومش همشي غير لما مبارك يرحل"، وكسب زياد رهانه عن جدارة.
الأول من فبراير، خطب مبارك يستعطف الشعب، أثرت كلماته في قطاع كبير من الناس، لكن في التحرير ثار جدل، سبب لمن وجد الحل في رحيله بـ"تشنجات"، ساعد فوزي العشرات منهم "عملتلهم إسعافات أولية عشان محدش يبلع لسانه"، ثم "لبست البالطو وطلعت على الاستتج قولت للناس أن الخطاب ده بيضغطنا نفسيا وهدفه إننا منكملش فلازم نكمل".
هناك بدا أن الثورة أحكمت قبضتها. آلاف المتظاهرين يهتفون ضد مبارك ونظامه. قبل أن يهجم على الميدان من استقلوا الجمال والبغال.
العشرات تدوسهم أقدام الحيوانات، تتعدد الإصابات وتتزايد مع مرور الدقائق "الناس بقيت تجيب المصابين قدامي، وتنادي على اللي معاه مصابين يجمعوهم عندي.. شوفت كمية إصابات مهولة، وأنا طالب معنديش الخبرة الطبية الكاملة، ومش قادر أقول الحدث أكبر مني".
لم يجد فوزي سبيلا غير الاشتباك مع الواقع، شمر ساعده وغمس يده في الدماء "بقيت أربط الجروح بالتيشيرتات"، انضم إليه عدد من الشباب "ناس تقطع الكوفيات، واللي يحط إيده على جرح عشان يوقف الدم، وأهالي يجيبوا شاش وقطن وبيتادين وخل"، بعدها انضم إليه عدد من الأطباء.
معركة الجمل مستمرة، نظم الثوار صفوفهم "عملوا مشهد عبقري وعظيم عمره ما هيتنسي، لبسوا الجواكت وقطعوا الكراتين ولفوها على راسهم، ووقفوا بضهرهم يستقبلوا الطوب اللي بيتحدف علينا.. وعملوا حائط صد للمتظاهرين عشان يوقفوا الزحف ع الميدان".
فيما الموقعة تحتدم، كان زياد يدعو الله أن يمنحه ألف يد، الإصابات لا تنتهي، تتزايد لحظياً، لكنه لم ينس لوهلة ذلك الشاب الذي لم يكمل عامه السادس عشر بعد "إيده كان فيها جرح واخد وتر وحالته خطر جدا، ربطها بحتة قماشة وقلت له جري على أقرب مستشفى"، لم تمر نصف الساعة حتى وجد زياد الشاب ذاته مرتميا أمامه بجرح غائر بطول جبهته "كان بيعيط ومش عارف يجمع كلمتين وهو بيقول: لو روحت وغيري روح الثورة هتضيع".
في نفس الوقت استمر فوزي ورفاقه في تضميد الجرحى "أغلبهم مضروبين في الراس 5 أو 6 غرز، يجولي أحطلهم بيتادين وأربط الجرح بتاعهم"، كان فوزي يقوم بعمله وهو مشدوه لما يحدث، فهو يمارس طبًا بدائيًا يتناسب مع خطة من أرادوا إجلاء الميدان من ثواره، يبكي لحظة انكسار زملائه ويبتسم لحظة صمودهم "شوفت 400 مصاب في اليوم ده.. والناس كان عندها عزيمة غير طبيعية".
كان علاج فوزي لمصابين موقعة الجمل هو النواة الأولى لمستشفى ميداني حقيقي في التحرير، تلاه عدد من المستشفيات، اتخذ كل منها رقمًا، وكان نصيب الشاب في العدد 5 "وبقى في صيدلية وناس بتيجي تكتب احتياجات المستشفيات من أدوية ودكاترة".
بعد 18 يوم، سقط حسني مبارك، هلل فوزي مع ملايين تمنوا أن ينجح ذلك، لكن انحراف الثورة عن مسار خطط الشباب له، دفعهم لاستكمال اعتصامهم في الشارع في أحداث عرفت إعلاميًا بـ"محمد محمود"، والذي شارك فوزي في إسعاف ضحاياها.
كانت تلك الأحداث الأكثر مأسوية في نظر الشاب، شاهد بعينه عشرات الجثث، وأسعف عشرات الإصابات الموجعة، لكن اسم "عماد" لا يغيب عن ذاكرة الطبيب، يسترجعه فوزي، فيما يحاول أن يحجز الدموع في عينيه.
كان زياد يُسعف عشرات المصابين باستنشاق الغاز، أحضر له الشباب "عماد"، الذي عرف من أصدقائه بأنه يعمل "صنايعي"، كان صدره يحمل رصاصة، جرى به الطبيب إلى أقرب عربة إسعاف "جسمه كان بيطرطش دم"، لكن بمجرد ان أدخله العربة وصله خبر وفاته.
كان الأمر صعبًا على نفس فوزي، لم يتمالك أعصابه، فيما أزّم حضور والدته الموقف، ليجعل منه المشهد الأقسى في حياته "الأم كانت بتصرخ وتقول عماد حي ممتش، إنتوا بتكدبوا، وبتتكلم في التليفون بتقول: تعالى ياابني.. عماد أخوك مماتش هو بس تعبان شوية".
انهار فوزي، لكن حاول تهدئة الأم المكلومة "طبطبت عليها وقولتلها عماد مات يا أمي"، لم تستوعب والدة الفقيد الأمر وقتها، وأيضًا لم يتخلص فوزي مما شاهده "كنت حاسس إن عماد وكل اللي زيه صدقوا الحلم وإحنا اللي قتلناهم عشان معرفناش ندافع عن حلمهم" ، كالتائه تحرك نحو المستشفى الميداني "كنت راجع لميدان التحرير وعنيا بتغلي، الجوانتي والبلطو متغرقين دم، شعري منكوش ووشي مليان غاز"، إلى أن عاد إلى عمله وسط المصابين.
7 سنوات مرت على الثورة، شارك فوزي في كل فعالياتها، يتذكر ما مرّ بها من أحداث، كان الطبيب طرفًا أصيلًا فيها، تحاول الدموع أن تخرج من عينيه، لكنه يمنعها، يحاول أن يتعافى مما أصابه من تشوهات، لم يتخلص منها بعد "الإصابة الجسدية لا يمكن تتقارن بالإصابة النفسية، الناس كانت محتاجة تقول آه بتاعت النوم في العسل، الثورة خلت عندهم سقف أحلام فظيع، والنهاردة دمرتهم وكسرتهم وقالتلهم متحلموش تاني.. الثورة أكبر جرح في حياتي، الثورة غلطة بس غلطة جميلة، ولو رجع بيا الزمن هغلطها تاني".
ما تيسّر من "نور" الثورة.. 7 سنوات على فقدان بصر محمد دومة
ضيف مؤلم.. الإصابة تصنع من "السويسي" بطلا للثورة
الثورة تكمن في الكاميرا وعين "سعداوي"
"داخليًا وخارجيًا".. الثورة تحاصر "منة الله"
أحمد سمير.. "إصابة أخفّ من ثورة"
فيديو قد يعجبك: