مصراوي يرصد تفاصيل 30 دقيقة احتجز فيها الاحتلال راهباً مصرياً بالقدس
كتبت - إشراق أحمد وإسلام ضيف:
داخل مبنى بطريركية الأقباط الأرثوذكس في مدينة القدس المحتلة، يواصل رهبان دير السلطان إقامة صلواتهم، ينقصهم رفيقهم الـ21، كادوا أن يفقدوه قبل أسبوع، لكن الأمر مرّ بسلام، ليغيب مكاريوس الأورشليمي في عزلة أرادها وليس لأسر أو اعتقال تفرضه قوات الاحتلال، ذهب الراهب إلى مدينة أريحا الفلسطينية، يبتغي استشفاءً مما مر به من موقف عصيب، كان فيه على مرأى ومسمع الكثير خارج حدود الأراضي المحتلة.
صباح الأربعاء 24 أكتوبر الماضي؛ نشر أحد المتواجدين في محيط كنيسة القيامة، تحديدًا داخل دير السلطان، مقطعًا مصورًا لعدد من جنود الاحتلال الإسرائيلي ينقضون على رجل دين ويطرحوه أرضًا، ويقيدون يديه ثم يقتادونه خارج المكان وهو يقاوم ذلك.
دارت دقائق الفيديو وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فيما خلفها هناك تفاصيل بطلها راهب مصري يخدم بالدير المتواجد في القدس المحتلة، ويتبع الكنيسة القبطية في مصر، ساقه القدر للاحتجاز نصف ساعة في يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
ونظرًا لقرار لجنة الرهبنة وشؤون الأديرة بالمجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بحظر تحدث الرهبان إلى الإعلام، ولأن الدير يتبع الكنيسة المصرية، فلم يكن هناك سبيل للرواية إلا على لسان مطران الكنيسة بالقدس الأنبا أنطونيوس، الذي تحدث لمصراوي عبر اتصال هاتفي عن تجربة اعتقال مكاريوس، وتبعات ذلك داخل الدير.
كان الراهب الشاب ضمن رُهبان الدير الذين شاركوا بوقفة احتجاجية لرفض ترميم الدير المتنازع على ملكيته، واقفًا في صمت مع رفاق الصلاة في ساحة الدير الأثري؛ يعترضون في هدوء على دخول معدات قوات الاحتلال إلى الدير عنوة. فجأة تصاعد الموقف، اقتحمت قوات الاحتلال الوقفة السلمية لفضها، ليجد الراهب الشاب نفسه يُجذب ويُسحب، يقاوم تارة ويُغلب على أمره تارة أخرى.
لحظة مقاومة الراهب الشاب لاعتقاله انتهت فور تجمُع 6 ضباط من شرطة الاحتلال فوقه، ليمسكوه ويطرحوه أرضًا، ويكبلونه بالأصفاد الحديدية، ويضربه أحد الضباط في قدميه ويجروه معهم في مشهد مؤلم تابعته الملايين حول العالم.
اقتادت قوات الاحتلال مكاريوس إلى مركز الشرطة الرئيسي عند منطقة تسمى باب الخليل. أُجبر الراهب الثلاثيني على السير مسافة 2 كيلومتر تقريبًا في طرقات البلدة القديمة الضيقة ذات الأرضية الحجرية. ظل الراهب يقاوم طيلة الطريق حتى فقد زوجي حذائه واستكمل الجند اقتياده عاري القدمين، فيما يُجذب من أصفاده الحديدية المُكبل بها كالأسير.
داخل مركز الشرطة، وأثناء احتجاز الراهب الشاب، أراد جنود الاحتلال فتح تحقيق بشأن اعتقاله، حصلوا على اسمه وبعض من بياناته الشخصية، حاولوا إرغامه على توقيع ورقة مجهولة لا يعلم محتواها، رفض مكاريوس ذلك، فهدده أحد الضباط بترحيله إلى مصر، ليتحداهم الراهب قائلاً "أنا قاعد مش طالع من هنا، أنا مستني ترحلوني على مصر".
مرّ مشهد الاعتقال، ولم يكن يعلم المطران أنطونيوس أن الدير فقد أحد رجاله، إلا بعدما أخذه جنود الاحتلال، إذ أخبره الرهبان بالأمر، هرول أنطونيوس إلى ساحة القيامة -التي تبعد أمتارًا عن دير السلطان- بحثًا عن الضابط المُكلف بتأمينها، استمسك المطران بالبقاء أكثر، وأخبر الإسرائيلي المتواجد في الكنيسة "مش هتحرك من المكان اللي واقف فيه إلا لما يجي مكاريوس يقف جنبنا". وهو ما حدث.
اتصل الأنبا أنطونيوس بالسفير المصري في تل أبيب مخبرًا إياه باعتقال الاحتلال لأحد الرهبان، ليجيبه الدبلوماسي بأنه سيعود إليه مرة أخرى، وبعد وقت قصير عاود السفير الاتصال مُعلمًا مطران الدير "هما قالولي 10 دقايق وهيكون طلع".
في تلك الأثناء تواصل أنطونيوس مع الراهب المعتقل عبر هاتف الضابط الإسرائيلي" اتصل بالضابط الموجود بمركز الشرطة، وكلمت أبونا مكاريوس، وقالي إنهم عايزين يمضّوه على ورق، فقلتله متمضيش على أي حاجة خالص، اطلع من غير ما تمضي على حاجة" يستعيد الأنبا أنطونيوس ما جري.
عاد "الأورشليمي" إلى مكانه جوار الرهبان وخُدام الدير، استجاب ابن الصعيد لكلمات رئيسه وعدل عن إصراره بالبقاء في مركز الأمن بعدما وصل الحال للتهديد. أُخلي سبيل الراهب، ليرجع في الطريق ذاته بلا أصفاد حديدية، لكن آلامها علقت بنفسه أكثر مما حمل جسده.
ضمّ تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية مئات السطور عن "شهداء" سقطوا منذ العهد الروماني، يحصيهم المطران أنطونيوس بنحو مليون ونصف. مرت عينا الراهب مرارًا على تلك الروايات، تألم لما قرأ، لكن لم يعرف يومًا كيف مرت عليهم تلك الأوقات، ما كان لديه سوى الخيال، حتى الرابع والعشرين من أكتوبر الماضي.
"أنا عشت مشاعر الشهداء لما كانوا بيتعذبوا ويتبهدلوا وقد ايه كانوا متعزيين وربنا كان بيديهم السند.. أنا كنت بتبهدل لكن متعزي جدًا" قال ماكريوس مجيبًا على الأنبا أنطونيوس حينما أراد الأخير أن يطمئن عليه بعد ما أصابه، أراد المطران أن يربط على قلبه، فوجد صاحب الثلاثين ربيعًا مكتفيًا بالفخر لمقاومة سلطات رغبت كَرهًا في انتزاع ما لا يحق لها.
طيلة فترة تولي الأنبا أنطونيوس مسؤولية الكرسي الأورشليمي -كنائس القدس- طيلة عامين ونصف العام لم يشهد بالمدينة المُقدسة مشهدًا لاعتقال رجل دين مسيحي من قبل كمشهد اعتقال مكاريوس من دير السلطان "ده أول انتهاك صريح من الاحتلال على رجل دين" يعبر أنطونيوس بأسى.
قدُم مكاريوس للخدمة في إيبارشية القدس قبل أربعة أعوام، إلى قرية بلوط بمحافظة أسيوط ينتمي، من مصر إلى دولة قبرص توجه للخدمة كشماس في الكنيسة القبطية هناك. بدأ يُفكر مكاريوس الشاب في وهب حياته للعبادة والصلاة، راهبًا، في إيبارشية تعد مُقدسةً ضمن مئات الإيبارشيات التي تتبع الكنيسة القبطية، وإلى القدس كانت وجهته.
الحياة في دير السلطان بمدينة القدس ليست سهلة، على عكس أي دير في مصر أو إيبارشية تقع خارجها. "الراهب في مصر بيكون قاعد في دير واسع، يقدر يتمشى في الجبل ويصلى فيه، وفي أماكن للخلوة كتير، لكن إحنا هنا قاعدين في مكان صغير وسط الأسر والسكان، الراهب مش بياخد راحته زي الأديرة في مصر" يقول الأنبا أنطونيوس.
اعتقال ماكريوس كان نتاج احتكاك يحدث حينا وأخر بين الرهبان والاحتلال الإسرائيلي. بدأ منذ 25 إبريل 1970 ولا مكان للأقباط المصريين داخل دير السلطان إلا في غرفة واحدة يسكنها "الأب ميصائيل" –أقدم راهب مصري بالدير-، فيما وضع الاحتلال يده على أرجاء المكان بعد اقتحامه أثناء عيد القيامة في هذا العام، وغير مفاتيحه وأعطاها إلى الأقباط الأثيوبيين الذين سكنوا الدير كما يقول الأنباء انطونيوس، وذكر بيان الكنيسة الأرثوذكسية في الأراضي المقدسة.
ورغم أن المحكمة الإسرائيلية أقرت بعودة المفاتيح إلى الأقباط المصريين غير أن حكومة الاحتلال لم تنفذ الحكم منذ 16 مارس 1971، وأصبحت مساحة 1800 مترًا -ما يشملها دير السلطان- لا تخلو للراهب مكاريوس ورفاقه الـ20 إلا للمرور إلى كنيسة القيامة أو التصدي لأفعال الإسرائيليين كما حدث العام الماضي.
في العام الماضي سقط حجرًا من كنيسة الملاك بالدير، وأصدر قسم "المباني الخطرة" ببلدية القدس المحتلة قرارًا بمنع المرور بطريق داخل الدير، الذي يعد المعبر الرئيسي إلى كنيسة القيامة، وتدخلت سلطات الاحتلال لترميم المكان رافضين أن يتولى رجال الكنيسة القبطية الإشراف على ذلك، فوقف الرهبان والخُدام والشمامسة للمعدات الإسرائيلية، لكن لم يتصاعد الموقف.
انسحب المهندس الفلسطيني الذي كلفه الإسرائيليون في المرة الأولى "قال مش هدخل في ظل هذه الأوضاع وساعتها الشغل وقف والخارجية المصرية تدخلت في الأمر" كما يقول الأنبا انطونيوس، ومن وقتها وطريق الرهبان المصريين إلى كنيسة القيامة يكون من خارج دير السلطان، الذي يشكل نصف الطابق الثاني من ملحقات كنيسة "القيامة".
لم يكن ثمة تعامل مباشر بين الرهبان المصريين وسلطات الاحتلال الإسرائيلي سوى في الأمور التنظيمية، ففي أيام سبت النور وعيد القيامة، يأتي جمعٌ من الشرطة الإسرائيلية يشرفون على مرور أهل دير السلطان وسط حشود الأقباط الأحباش حتى الوصول إلى كنيسة القيامة، خلاف ذلك، يكون الاحتكاك إدارياً كما يصف الأنبا أنطونيوس، يتعلق بالإقامة وتجديد الرخص، لكن يتبدل الحال حينما يتعلق بالدير؛ تصبح المواجهة "سلبية" حد تعبير المطران المصري.
30 دقيقة أربكت سكينة الرهبان وبينهم مكاريوس، أخذت تعود شيئا فشيئًا، بدأت بالسماح للراهب بالتواصل مع أسرته في مصر هاتفيًا ليطمئنها بخروجه -بالرغم من رهبنته التي تمنع ذلك-، استقبلت أمه صوت ولدها بالدموع والفرح، ممتزجان معًا، متأثرة بما رأته على شاشات التلفاز من اعتقال قوات الاحتلال لولدها، لكن فخورة في نفس الوقت بدفاع ابنها عن مكانه في الدير بشكلٍ لائق.
وفي دير السلطان عاد الرهبان والخُدام لإقامة صلواتهم، تضرعوا إلى الله شاكرين مرور الموقف بسلام واجتماع الشمل مرة أخرى، داعين أن يُرزقوا السند لمواصلة دورهم، فيما طلب الراهب المصري ابن أسيوط، من مطران القدس ورئيس الدير بفترة خلوة لتعود نفسه إلى سيرتها الأولى، فتوجه مكاريوس إلى أريحا -شمال القدس- ليقيم هناك مدة أسبوعين "الموقف ده بيخلي النفس مستثارة فمحتاج يبعد عن الناس عشان يهدى" يفسر الأنبا أنطونيوس قبوله لطلب الراهب.
ظاهريًا لم يتغير الحال داخل دير السلطان والبطريركية المجاورة، لكن الترقب أصبح رفيقًا لسكان المكان؛ إذ حكمت المحكمة المستعجلة الإسرائيلية قبل أيام بضرورة ترميم الدير وحددت نطاق الترميم في جزأين فقط، ويكون هناك مهندسًا يختاره الرهبان المصريون "المحكمة قالت مهندس إسرائيلي قلنا عايزين مهندس فلسطيني يحمل الرخصة الإسرائيلية" كما يقول الأنبا أنطونيوس، ويحق لهذا المهندس الإشراف اليومي صباحًا ومساءًا على العمل وتقديم شكوى حال تجاوزت أعمال الترميم النقاط المتفق عليها.
لم ينته المشهد بعد؛ قد يطعن مهندس البلدية الإسرائيلي على قرار المحكمة، حينها "هيكون في كلام تاني" حسب قول المطران المصري، فلازال التواصل قائمًا مع الخارجية المصرية والمستشارين القانونيين، فيما يبقى الرهبان والخُدام المصريين على عهدهم بالحفاظ على المكان ولو ألزمهم ذلك تقديم أرواحهم.
فيديو قد يعجبك: