بالصور- "عواض".. جزيرة نوبية يسكنها "الحزن" و10 عائلات
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
-
عرض 10 صورة
كتب-محمد مهدي:
تصوير-جلال المسري:
أمام منزله المُطل على نهر النيل، جلس سيد عبدالمتعال -55 عامًا- على أريكة خشبية. فَرد قدميه، انصت لوقع خطوات تقترب، وهو أمر نادر على جزيرة "عواض" النوبية. ليجد إحدى بنات شقيقه، علت الابتسامة وجهه بينما يستقبلها ويُكمل لها حكاية الجزيرة "زمان كان في البلد تعالب كتيرة، بتأكل الحمام والفروج، أهالينا عملوا خيال المآتة عشان يخوفوهم. دلوقتي بعد ما الناس مشيت، بقى خيال المآتة أكتر من البني آدمين" تقاطعه الطفلة "راحوا فين الناس؟" يصمت ولا يرد.
كانت الجزيرة النوبية الواقعة غرب أسوان، في منطقة ما بين السد العالي وخزان أسوان، ذات شأن كبير في الماضي، بيوت على مساحة أكثر من 35 فدانًا، المنازل متجاورة، جيران في كُل مكان، صخب الصُحبة حاضرًا "كانوا مسمينها جزيرة السُكر، المراكب كانت بتيجي من السودان محملة السُكر والخير قبل بناء السد، تقف عندنا عشان الونسة والحبايب" قبل أن يختفي كل هذا على مراحل منذ الستينيات بعد أن هجرها السكان إلا من 10 عائلات، مصراوي قضى يومين داخل الجزيرة رفقتهم.
ممر أسمنتي يقود الوافدين من نهر النيل إلى أعلى الجزيرة، حيث يقطن الأهالي، الشوارع خالية، في الأنحاء بيوت واسعة نصفها مكشوف على السماء، فقد عدد منها معالم الحياة، بعضها تحول إلى أنقاض، لا يحرسها سوى "خيال المآتة".
يعيش "عبدالمتعال" في وحدة رغم وجود زوجته وأولادها وأمه وخالته معه في البيت، ومجاورته لمنزل شقيقه الأصغر، لكنه لا يصدق ما جرى للجزيرة، عايش مئات من الهجرات، مع كل منزل يخلو من أصحابه يحتل الحزن قطعة جديدة من روحه، لكنه يعلم أن قرارهم صائب "الجزيرة محرومة من كل حاجة، مفيش مدارس أو وحدة صحية أو بريد أو مواصلات.. حتى المياه بتجلنا يومين ولا تلاتة بس، مفيش أي شيء آدمي عندنا".
في مُقدمة الجزيرة، شيدت محافظة أسوان صهريجًا ضخمًا لضخ المياه النظيفة لأهالي عواض في 2010 ومنها وصلات إلى منازلهم، لكن الخطوة لم تُنقذهم من الأزمة التي غادر بسببها المئات "الصهريج بيتعبى مرة كل أسبوع بس مبيكفيش" بعد يومين أو ثلاثة يُصبح فارغاً فيضطر عبدالمتعال وغيره من الجيران إلى اللجوء لنهر النيل الممتلئ بالصرف الصحي "مايته بقيت كلها عيا".
ما يثير غضب عبدالمتعال أن مصيرهم متوقف بمجيء أحد العاملين أسبوعيًا لتشغيل الصهريج "يعني لو مجاش عشان مريض أو ظروف قهرية، ربنا يتولانا".
بخطوات متأنية تقطع "أماني"إحدى سيدات الجزيرة- طريقها إلى البيت، تحمل فوق رأسها "جردل" مياه، تلتقط أنفاسها بين الحين والآخر "بننزل البحر -النيل- كل شوية نجيب المايه عشان خلصت من الصهريج" لا أحد يساعدها، السيدات القلائل منشغلات ببيوتهن "بشوف ستات كبيرة بتنزل معانا تملى مايه" تذكرها بأسى.
"إحنا عايزين مايه، بقيت بحلم بيها طول الوقت" تقولها غادة -ابنة عبدالمتعال- تضطر الفتاة العشرينية إلى النزول يوميًا برفقة أماني وسيدات الجزيرة إلى النهر "بننزل الفجر والعصر عشان نعبي المايه ونغسل اللِبس والمواعين في البحر" تؤكد أنها تستمع لنصائح أمها بالحفاظ على مياه الصهريج والاقتصاد قدر إمكانها في التعامل بها كأنها تتعامل مع كنز.
تعود أماني، الأم الثلاثينية، إلى بيتها محملة بالمياه، تنشغل بتجهيز الغداء قبل وصول أولادها، تُفكر في معاناتهما اليومية "معندناش مدارس في عواض، لازم كل يوم يصحوا الفَجر ويتحركوا في فلوكة عشان يوصلوا في الميعاد، وبيرجعوا بنفس الطريقة" يخوض الطالبان في المرحلة الإعدادية وأصدقاؤهما من الجزيرة تجربة مُرهقة يوميًا من أجل تلقى العلم.
جنبًا إلى أولادها، يجلس عبدالرحمن عبداللطيف، أحد أطفال الجزيرة، داخل مركب صغير تنقلهم إلى مدرسة الرائد محمود يعقوب الإعدادية بغرب سهيل، يحاول الحفاظ على ملابسه من البلل "بقضي نُص وقتي في الفلوكة" نهارًا في مشاوير المدرسة "لما بيكون عندي دروس خصوصية دا معناه إني هاركب الفلوكة 4 مرات في اليوم".
"كان نفسي أروح مدرسة ويبقى معايا شهادة" تلك أمنية غادة التي لم تتحقق، ذهبت لمدة عام إلى المدرسة، وجدت التجربة شاقة لا يمكن لفتاة مثلها تحمل تلك المشقة "موضوع المركب دا صعب أروح وأجي كل يوم" تركت التعليم لعدم وجود مدرسة في "عواض" حُرمت من حقها لأن الجزيرة بعيدة عن نَظر المسؤولين.
منذ 3 سنوات، حضر اللواء مصطفى يسري، محافظ أسوان الأسبق، إلى الجزيرة، استمع لشكاوى الأهالي من بينهم "نمير"-أحد رجال الجزيرة- وأمر بتلبية طلباتهم في أسرع وقت "إدونا وعود كتيرة منها إنهم هيعملوا فصول بس نوفرلهم مكان، عملنا كدا بس محدش سأل فينا".
يتعذب الرجل حين يصل أطفاله من المدارس بعد يوم شاق "حاسس بيهم لأننا عشنا طفولتنا في نفس الموال" أو عند عودتهم صباحاً دون الذهاب إلى المدرسة "لأنهم أوقات بينزلوا مبيلاقوش فلوكة في المايه.. بيضطروا يرجعوا واليوم يضيع عليهم"
"المركب هو الروح بتاعتنا"وفق تعبير عبدالمتعال، لا يمكن العيش على تلك الجزيرة دونه، لذا سارع منذ سنوات لامتلاك "فلوكة" تُسهل عليه التحرك وقضاء احتياجاته ونقل أولاده وجيرانه، تستخدمه النساء دائمًا للنزول إلى أسوان أو منطقة غرب سهيل لشراء "خزين" البيت لنحو شهر كامل.
في الأيام الأولى من كُل شهر تمر "صباح " التي تقطن في نُقطة عالية بالجزيرة، على أماني وغادة وغيرهن من النساء للاتفاق على يوم مُحدد لمغادرة الجزيرة والذهاب إلى أحد الأسواق الكبيرة، تستأجرن مركبًا "كل واحدة تدفع 30 جنيهًا في المشوار" لعدم وجود سوق بالجزيرة.
ساعات طويلة تمر وهن يتجولن داخل السوق، لا مساحة هنا لنسيان شيء، العودة مستحيلة إلا في الظروف القصوى أو باتفاق مع كامل نساء الجزيرة "بنشتري كل الخضار والتموين والحاجة اللي هنحتاجها للبيت لمدة طويلة" ويتبادلن الاحتياجات فيما بينهن حينما تتعرض إحداهن لأزمة.
لم تكن التفاصيل قاتمة هكذا في الماضي، "صفية كانو" سيدة سبعينية تزوجت في شبابها من أحد أبناء عواض، تقول إنها عاشت في زمن كان "الخير كُله في الجزيرة" دكاكين صغيرة لبيع الخضراوات ومستلزمات المنزل، أراضٍ تمنحهم الفواكه الطازجة، النهر يفيض بخيراته من السمك "دلوقتي مش زي الأول، ناس مشيت وناس ماتت، المكان بقى خرابة".
في الليل، يزور القلق البيوت المتبقية في الجزيرة "لأن الكهربا بتقطع عندنا كتير، تخيل عتمة في مكان مفهوش ناس" يلف الظلام شوارع المكان الهادئة فيصنع لوحة فنية عن الوحشة، فيما يلَم "نمير" أسرته حوله "العيال بيقعدوا يعيطوا، ببقى خايف عليهم".
يكسر خوفهم بحكايات الماضي، كان هنا ذات يوم حياة كاملة، حركة دائمة، سلامات لا تنقطع، أحاديث ونقاشات، ضحكات عالية، مناوشات الأصدقاء يشاركه عبدالمتعال الروايات ذاتها "لما نقعد على مصطبة البيت تلاقي ميه سلام من اللي معدي واللي رايح" الأفراح كثيرة، رقص وغناء وليالي لا تُنسى، أين ذهب كل ذلك؟ "الناس انقرضت زي ما كل حاجة حلوة ما راحت".
حركة قوية تدبّ في الجزيرة من حين لآخر، حين يُصاب أحدهم بتعب، تتبع النساء للوهلة الأولى لنصائح الجدات "بنستخدم الأعشاب، عشان معندناش وحدة صحية أو صيدلية" لا يتم اللجوء إلى المستشفيات إلا في حالات الضرورة القصوى نظراً لصعوبة الخطوة، سريعاً يبحثوا عن مركب، ثم يُنقل المريض على الأكتاف إلى النهر الجاري، ومنه إلى أقرب مستشفى بأسوان.
نمير شعر بالعجز منذ أسبوعين، حين امتلأت السماء بالغبار، ولم تتحمل طفلته الصغيرة الأمر "عندها حساسية على الصدر" سقطت الابنة من شدة الإعياء "كانت هتروح مني" فَشل في توفير مركب في هذا المناخ المضطرب، ظل بجوارها يدعو الله النجاة، يعزلها عن العاصفة الترابية، مكتفيًا بالحفاظ على راحتها "لو كان فيه وحدة صحية كان لحقوها" لكن الله ستر.
حين يضيق الخناق حول نمير، يحاول الرجل الترويح عن نفسه لكنه يصطدم بحاجز الوحدة على الجزيرة، يُفكر في الفرار المؤقت، يهرول تجاه النهر "بفضل أشاور لحد ما يشوفني مركب ياخدني معاه" يترك نفسه للقدر، إن ابتسم له يغادر المكان لساعات حتى يصفو قلبه "لو ملقتش فلوكة بضطر أطلع على البيت تاني" يواجه الواقع بمرارته.
يلتقط عبدالمتعال خيط الحديث "الوحدة حاجة صعبة، بسأل روحي فين الأصحاب والجيران والحبايب" الآن كل عائلة منعزلة عن الأخرى "ولما النفسية بتتعب وعشان أروح أتونس لازم أعدي لجزيرة تاني" لا يمكنه التجول في شوارع "عواض" كما اعتاد في الزمن المنصرم "مفيش قهاوي ولا ناس نقعد معاها"، يضحك عم شوقي، أكبر الأهالي سناً، أزمته غريبة "لما بأجي أصلي في المسجد، بلاقي نفسي لوحدي، عشان الجزيرة بقت فاضية".
النساء معاناتهن أكبر، كون حياتهن لا تسير بسهولة في تلك الأجواء الخشنة، هن ملكات الجلسات والفضول والأحاديث، الحكايات سلاحهن لكَسر الملل، لكن الجزيرة تضعهن فيعُزلة دائمة مثل غادة التي تبقى في بيتها طوال الوقت "هروح فين يعني؟ الستات قليلة، وكمان أغلبهم كبار، مفيش حد في سني أقعد معاه".
القطط صديقات صباح، تنشغل بهم أمام منزلها رفقة إحدى جاراتها دون الخوض في كلام لخلو حياتهن من التفاصيل " لما اتجوزت وجيت عواض كنت بشوف الستات الكبار يأكلوا ويقعدوا مع بعض، زمان بقى" فيما تهرب أماني من وحدتها عند مغادرة زوجها وأولادها المكان، تمر على كبار السن من أهالي الجزيرة للسؤال عنهم والاطمئنان على صحتهم "بشقّر عليهم لو عايزين حاجة، وبنحكي شوية".
تَلمس أماني في حديث الكبار غضبهم من الرحلة الشهرية الشاقة التي يقومون بها من أجل الذهاب إلى مكتب البريد في أسوان للحصول على المعاش"ليه ميتعملش مكتب بريد ولا يجلنا ساعي يقبض الناس في الجزيرة" أغلبهم يعانون من أمراض عِدة، الحركة خَطر، المسافات البعيدة مُرهقة، أجسادهم لم تَعد تتحمل، يتألمون حين يحملهم الصغار إلى المركب.
الأطفال، مُستقبل الجزيرة، حظهم أقل من ذويهم، لم يلحقوا بأيام العِز، خياراتهم محدودة حتى في اللعب، خاصة الأولاد الخمسة الذين يعيشون في "عواض" يشعر بذلك عبدالرحمن حين يذهب إلى مدرسته ويتعرف على الامتيازات التي يملكها زملائه "بيتجمعوا بأعداد كبيرة، بيلعبوا كورة مع فرقة مختلفة، عندهم أكتر من لعبة" وهو أمر مستحيل في عواض.
على ضفاف النيل، قطعة أرض خضراء مستوية، على هيئة ملعب كُرة، وبها مرميين، يذهب إليها عبدالرحمن كثيرًا وحده، يلعب منفردًا لكنه لا يشعر بالمتعة، يُمسك الكرة ويلَف على باقي أطفال الجزيرة في محاولة لإقناعهم بضرورة اللعب معاً "لما بيكون فيه حد ناقص أو زعلان من صاحبه مبنعرفش نلعب حاجة جماعية.. ولو اتجمعنا مبنلاقيش حد يقفلنا جون" لذا يبقى العوم في النيل ملاذه الأخير والوحيد.
هل نترك الجزيرة؟ سؤال يدور في عقل عبدالمتعال كل يوم. لكن قَلبه لا يطاوعه على التفكير في تلك الخطوة "أنا أتولدت في الجزيرة دي، اتربيت فيها واتعلمت عاداتنا النوبية فيها، عشت أجمل أيام حياتي. معقول أسيب بلدي وبيتي؟ مقدرش" تدمع عيناه، السؤال يخنقه فيطرده سريعاً "كفاية شوية المايه والهوا والقعدة الحلوة، الواحد يلاقيهم فين؟ مفيش".
يعلم الرجل أن الجيل الجديد لا يفكر بالطريقة نفسها "ميعرفوش قيمة الجزيرة أبدًا" لكنه يتفهم رغبتهم في المغادرة "عايزين حياة فيها مدارس ومواصلات وعيشة مريحة مش قلق وتعب طول الوقت" لذا يتمنى أن تصل أحلامهم العادية بالغة الأهمية إلى المسؤولين، إن تحققت عادت الجزيرة لعافيتها وأيامها الحلوة، وحتى يحدث ذلك ستبقى حكايات عبدالمتعال لأبناء الجزيرة محاولته الأخيرة لزرع حُب المكان داخل قلوبهم.
فيديو قد يعجبك: