"سلملنا بقى ع التروماي".. ذكريات المصريين على القضبان
كتب- محمد زكريا:
تصوير- كريم أحمد:
على مقعد خشبي، يُقابل قضبانًا حديدية، صُنعت قديمًا لتمر عليها عجلات "مترو مصر الجديدة"، كان مجدي نصر يجلس في هدوء، لا قطارات تمر أمامه، أُلغي العمل بها قبل سنوات، لكنه ينتظر أتوبيسًا، يقله إلى منزله في شبرا الخيمة، تأخر الأتوبيس كعادته، وكان هذا كفيلًا بأن تتدفق عليه ذكرياته مع "التروماي".
قبل أكثر من 4 سنوات، توقف العمل بترام القاهرة، الموجود بحي مصر الجديدة ومدينة نصر، ليتم إزالة خطوطه واحدًا تلو الآخر، بغرض توسيع الطرق والقضاء على الزحام، هذا ما قاله المسؤولون في حينها، لكن قابل قرارهم غضب بعض المواطنين، الذين اعتبروه تراثًا وآثرًا، وهو عمره يعود لأكثر من مئة عام، كما وجد فيه آخرون وسيلة المواصلات الأرخص والأسهل، لذا تمنوه أن يتم تطويره بدلًا من إلغاءه.
لكن رغم توقف القطارات عن السير على القضبان، تمتلئ المقاعد أمامها بالمواطنين، منهم من ينتظر مواصلته، كأنه اعتاد أن تكون التروماي، ومنهم من يستريح من عناء الطريق في نهار صيف حار، لكن منهم من أحب الجلوس بحكم العادة والنشأة.
رؤوف وهيب، في عمر الـ35، يسكن شارع صلاح الدين بحي مصر الجديدة، ومنزله يُقابل شريط "الترام". اعتاد الشاب الجلوس على مقاعد الانتظار، فعل هذا طيلة 15 عامًا، يُقابل فيها أصدقائه، كأنه مقهاهم المُحبب.
للترام ذكريات في عقل الشاب، جزء من نشأته وطفولته، اعتاد أن يراه يمر من أمام شارعه، يسمع صوته، يُلقي السلام على مُستقليه، حتى بعد أن كبر وهيب، ظلت هيئة القطار تُثير في روحه شيء من السعادة، لذلك ترك إلغاءه آثرًا على نفسه، كأن حيه افتقد إلى شيء من تكوينه.
أمام قضبان ترام. كان يمر لسنوات من ميدان سفير. لا يزال هاني محمد، ينتظر أتوبيس ينقله إلى بيته، بعد يوم عمل شاق. لكن المواصلات مزدحمة، والتذكرة وصلت سعرها لخمسة جنيهات. هذا يُحسره على أيام "التروماي أبو ربع جنيه".
قبل 20 عامًا، كان هاني محمد طالبًا في كلية الآداب بجامعة عين شمس. ما أن ينتهي يومه الدراسي، حتى يستقل الترام ليعود إلى منزله. التذكرة بعشرة قروش، وهذا يُناسب راتب الطالب، كما أنه وجد فيه الهدوء والراحة "كنت بعتبره خروجة.. أيام حلوة".
الفسحة، كانت تذكرة إلى "لونا بارك"، وهي أول ملاهي مائية في القاهرة، يمنحها المُهندس البلجيكي البارون إمبان، لكل من يستقل ترام مصر الجديدة، والذي أنشأه في العام 1910، وهدفه من ذلك كان تشجيع المواطنين في كافة أنحاء القاهرة على الذهاب إلى حي مصر الجديدة، الذي أسسه هو بنفسه.
يسرح محمد لثواني، قبل أن يفترض سؤالًا، ماذا لو ظل التروماي يعمل حتى الآن؟، يجاوبه آخر يقف إلى جانبه: "كانت تذكرته هتغلى زي الأتوبيس"، يرد مُدرس الفلسفة في ثقة: "لما الأتوبيس كان بجنيه وجنيه ونص، كان الترام بربع ونص جنيه.. فحتى لو هتغلى تذكرته، مكنتش هتوصل لسعر الأتوبيس". في الشارع، يطغى حديث الأسعار على أي حديث آخر.
لكن في ميدان الحلمية، كان يدور حوارًا آخر. كوبري الحلمية، الذي كان يحمل القطار قبل خلع قضبانه، تملأه القمامة، هذا سببه تعذر المفاوضات بين محافظة القاهرة ووزارة النقل، حول نقل ملكية الترام إلى الوزارة، والذي أدى إلى توقف مشروع استبدال الترام بخط منفصل تسير عليه الأتوبيسات.
لكن منطق استبدال المترو بأرض تسير عليها الأتوبيسات، لا يٌقنع مجدي نصر، "الترام كان بيشيل أعداد كبيرة جدًا.. الزحمة هتفضل زي ما هيا، ده لو افتراضنا أن مشروع الأتوبيسات كمل، لكن زي ما أنت شايف بقى مشروع زبالة"، لكن الترام كان له مذاقًا آخر عند صاحب الـ50 عامًا.
يعود نصر 20 عامًا إلى الوراء، كان لا يزال مُتزوج حديثًا، يخرج من منزله بمدينة شبرا الخيمة في طريقه إلى حي المطرية، يستقل الترام في طريقه إلى مكان عمله بمصر الجديدة، "كان بيرحمني من زحمة المدارس"، لكن أهميته كانت تزيد عند أطفاله، تبدأ فسحتهم باستقلال الترام "4 كراسي قصاد بعض بتلم العيلة.. كان عيالي يقعدوا جنب الشباك، ويتنططوا مع هزته في المشي"، وتنتهي فسحتهم بارتياده إلى المنزل، كان التروماي فقرة أساسية في نُزهتهم.
فيما لم يكن كذلك عند رنا محمود. لم تستقل الترام إلا مرتين في حياتها، الفتاة ليست من أبناء القاهرة أساسًا، في المرة الأولى كان وسيلتها إلى أحد المشاوير، أَعجبها كثيرًا، يُخيل لها وهي على كرسيه أنها بطلة سينمائية، الأحداث داخله تدور ببطء، صوته وركابه، سعره الزهيد، كل شيء يُدخلها في عالم الدراما، لذا اختارت أن تركبه في المرة الثانية، رغم توفر البديل الأنسب منه، لكن كُتبت النهاية، اختفى التروماي من شوارع القاهرة، كأن قدر الخيال أن يهزمه الواقع.
فيديو قد يعجبك: