"نوتة الألحان".. سيرة تخليد 450 طالبًا لكاهن العريش (فيديو)
كتب- محمود الطباخ وإشراق أحمد:
تصوير فيديو- ندى عمرو:
في يوليو عام 2013، بينما يخطط الإرهابيون في سيناء لنشر التطرف وإشعال أرض الطور عقب 30 يونيو، كان القس مينا عبود، راعي كنيسة مارمينا بحي المساعيد في العريش، يتواصل مع طلابه في مدرسة "الشهيد استفانوس" بحي الأميرية في قلب القاهرة، يوجه لهم النصائح، يوصيهم بالألحان، "لغة السماء" التي رباهم عليها، صوت الجمال الذي ينبذ كل تطرف و"خطية"، كانت تلك أداته شابًا يافعًا، ورسالته فيما يخطو خطواته الأولى قادمًا من أسوان ليسكن العاصمة، ثم مطافه الأخير؛ كاهنًا في شمال سيناء.
اليوم، تمر خمس سنوات على رحيل الكاهن مينا عبود، لم ينس فيها طلابه وأسرته، تلك الرصاصات الغادرة، التي أطلقها مسلحون عليه بينما يتوجه بسيارته إلى الكنيسة في العريش، ولا ذلك اليوم السادس من يوليو لعام 2013، الذي فقدوا فيه معلمهم، لكنهم اتفقوا على أنه في مكانٍ أفضل، برتبة أعلى تتخطى الكاهن أو الأب، فلقد علمهم "ألا يخافوا فليس هناك أعلى من الشهيد".
داخل أحد فصول مدرسة الألحان، بكنيسة العذراء مريم، تقف مادونا سيفين، تخبر طلابها الصغار بلحنٍ جديد، يسألها أحدهم "يا ميس هنحفظ إزاي الألحان دي صعبة؟"، فتجيبه "كنا في سنك وأبونا مينا حفظنا وعلمنا"، ثم تسير يداها بالقلم الحبري على "السبورة" البيضاء، ترسم أشكال أشبه "بنوتة" موسيقية، تحفظها عن معلمها منذ كانت طفلة في الصف الرابع الابتدائي، بعدها تردد ما تعبر عنه الأشكال بصوت عذب، ومن ورائها تعلو حناجر الأطفال.
لم تعرف المعلمة الشابة طريقة غير "نوتة" الكاهن الراحل لتُدرس بها، وكذلك يفعل كل مَن تربى على يد عبود في ذلك المكان، الذي تبدلت أحواله قبل 12 عامًا؛ فلم يكن هناك طفلاً يحفظ لحنًا أو يعي كلمات اللغة القبطية، وما كان ثمة وجود للمدرسة.
"أستاذ صليب" كما اعتاد طلابه أن ينادونه أو القس مينا عبود، كان شابًا في العشرينيات من العمر حين قدم من أسوان ليخدم في الكاتدرائية وكنائس القاهرة عام 1993، كانت مدرسة الألحان حلمًا طور التشكيل في حياة القس الشاب، قبل أن يكتمل عام 2006.
إلى السلالم المؤدية لفصول المدرسة، تشير مها مجدي، إحدى طالبات المدرسة الحاليين، تتذكر السيدة الثلاثينية كم كان يجمع عبود رفاقه الشباب في تلك البقعة من الكنيسة، وهو شماس، قبل تأسيس المدرسة، لا يكتفي بإسماعهم ما يحفظ من الألحان، بل يحاول تعليمها لهم.
تقف مها في الممر الضيق المؤدي للمدرسة، وقد عُلقت فيه صورة مينا عبود بحجم كبير، ترتسم الابتسامة على وجه السيدة، حينما تأتي سيرة الكاهن الراحل، فتردد "كل الناس في المدرسة عارفين أبونا مينا"، تتحدث بشغف عنه وعن مواقفه معهم، ولما لا؟ فقد قررت العودة إلى منطقة الأميرية بعد انتقالها عنها، والالتحاق بالمدرسة هي وولديها الصغار حتى تسير على دربه كما تقول.
لم تمر بضع دقائق وتوقفت مها عن الحديث، وأقبلت في لهفة على سيدة قادمة ترتدي زياً أبيضًا، إذ حضرت مريم ميلاد، زوجة الأب الروحي للمدرسة وتلاميذها، فزيارتها للمكان -على قلتها- يكون لها طابعًا خاصًا.
تقول مريم، إن حب زوجها للألحان دفعه لتأسيس المدرسة "كان صوته حلو جدا، طول الوقت في البيت يشغل الألحان، والسماعة ما كنتش تفارق ودنه، دايما كان يسمعها"، تحكي السيدة كيف زرع بذور المدرسة "زي ما هو بيحب الألحان قال يحبب الأطفال فيها فبدأ بـ7 لـ 10 أطفال و10 شباب من خدام الكنيسة بيساعدوه" وهكذا أصبح في كنيسة الأميرية "مدرسة الشهيد استفانوس للألحان".
منذ تأسيس المكان وحتى الساعة، تستمر الترانيم "والكورال" الخاص الذي وضعه "شهيد العريش" -كما يلقبونه. العدد القليل الذي بدأ به أصبح مئات الطلاب، أعمارهم مختلفة، يتعلمون بالنهج ذاته الذي وضعه في طلابه، والذين يقفون اليوم معلمين لغيرهم صغارًا وكبارًا، "عندنا 450 دارس وحوالي 30 معلم" يقولها مينا عزت، مدير المدرسة الحالي، وأحد الخدام العشرة الذين عملوا مع عبود منذ نشأة المكان.
12 فصلاً تضمها مدرسة الألحان، طلابها من عمر 6 سنوات وحتى كبار السن. حال النظام الدراسي التقليدي تفتح المدرسة أبوابها حتى شهر يونيو ثم تبدأ الإجازة الصيفية، ليعود العمل مع شهر سبتمبر، لها مواد دراسية وامتحانات بل وأوائل يحتفي بهم المكان آخر العام.
لم تكن الألحان في نظر عبود مجرد أنغام موسيقية وكلمات روحانية، بل معانٍ جميلة، نابذة للتطرف، داعيةً للجمال وحب الآخر، نفخ في عقول أطفاله الأمل، علمهم أن يكونوا "مختلفين"، يسيرون بهدف واضح.. كلمات كثيرة تقولها "مادونا" أعادتها لسنوات إلى الوراء، جسدتها أمامها وهو يوصيها ورفاقها "أنتوا في يوم من الأيام هتقفوا مكاني.. تعلموا غيركم".
4
غرس مينا عبود، في جيل مدرسته الأول، قيمه وأهدافه، رغبة منه في أن يكملوا رسالته من بعده. "كان نفسه الناس تتعلق بالكنيسة وتبقى عارفة وحافظة الألحان، تقولها وهي فاهماها ميبقاش الموضوع مقتصر على الشماسين بس" يقول عزت، مدير المدرسة، فيما تستعيد مادونا تعامله معهم "كان بيهتم بينا كلنا خاصة الدفعة القديمة، أول دفعة دي حاول يعدها كويس، والدفعات اللي بعدنا سابها لنا أحنا" تبتسم الشابة بينما تتذكر كيف وقفت تدرس وهي ابنة الصف الثانوي وحدها لطلاب صغار.
من تلميذة إلى معلمة، عمر مر على مادونا، طالبة الهندسة، هنا في مدرسة الألحان، التي أضيف لاسمها "الشهيد مينا عبود" قبل خمسة أعوام. كلما رأت طلابها خاصة الصغار منهم، تمتن للحظات عايشتها في حضور معلمها الراحل، تلتقط أنفاسها بينما تترحم عليه، تحدثه في نفسها مثلما تفعل كثيرًا "أبونا مينا أنت اللي ليك الفضل في كل كلمة بقولها.. لولاك مكنتش عرفت أقول ولا لحن ولا أدرس للأولاد".
حين فتحت المدرسة أبوابها، وضع عبود كل طاقته فيها، اعتبرها مشروعه الباقي إن ما رحل "كان ممكن يسهر لغاية الساعة 2 بليل بعد شغله عشان يجهز المواضيع بتاعة المدرسة والمناهج" حسبما تقول زوجته، كما أنه لم يركن لنجاح الانطلاقة.
عرف أهل المدرسة عن صاحبها التجديد، فلم يكن سببًا فقط في التحاق الفتيات بـ"كوراس" الكنيسة قبل تأسيس فصول الألحان، بل له الفضل أيضًا في تعليم الكبار، تحكي إيزيس عازر، معلمة في المدرسة، أن القس الراحل لاحظ يومًا أن "الأمهات بيجيبوا ولادهم ويقعدوا يحكوا في حوش الكنيسة"، فقرر أن يحفظ لهم وقتهم، ففتح فصلين دراسيين لأولياء الأمور، كان ذلك بعد عام من تأسيس المدرسة، وقتما التحقت إيزيس بالمكان ثم تقدمت حتى صارت أحد القائمين عليه.
في البداية لم يكن متقبلاً من أولياء الأمور فكرة الالتحاق بالمدرسة "كانوا رافضين الاشتراك بدافع الحرج فبدأنا بكام حد، وواحدة واحدة الناس بدأت تيجي وتشترك"، تذكر إيزيس أن رؤية مَن هم في عمر الأجداد صار مشهدًا عادياً اليوم.
فقد محبو "الألحان" الكاهن مينا عبود مرتين؛ الأولى حينما انتقل للإقامة في العريش، بعدما تم تنصيبه كاهنًا في ديسمبر2012، لكن عزائهم كان في التواصل الدائم، إذ كانوا ينظمون زيارات خاصة إلى بيته في المحافظة الحدودية، يجلسون عنده ثلاثة أو أربعة أيام، وهو أيضًا دائمًا ما ساقته أقدامه إلى القاهرة لرؤية صغاره، "روحنا له مرتين وجالنا زيارة قبل استشهاده وسلم علينا كلنا كأنه كان بيودعنا" تقول مادونا، فمع وفاته تحقق الفقد الثاني.
وقع خبر رحيل "كاهن العريش" عصيبًا على طلابه، صدمة اجتاحت النفوس "مكنتش عارفة أرجع المدرسة تاني لكن قلت لازم الأجيال الصغيرة تعرفه" تستعيد مادونا الموقف، بينما اهتزت حينها نفس الزوجة التي انتابها القلق قبل تلك الليلة، بينما هو لم يهب الرصاص.
في الخامس من يوليو، الليلة الأخيرة في العريش، أصر الكاهن الثلاثيني العمر على الصلاة في كنيسة مارجرجس، التي رُسّم فيها كاهنًا بوسط المدينة، وما إن عاد مع أسرته إلى المنزل، حتى علم بانسحاب الأمن من كنيسته "مارمينا" بسبب هجمات الإرهابيين، فأسرع بالذهاب لحراستها، وفي صباح اليوم التالي استوقف سيارته، مسلحون يستقلون دراجة بخارية، أمطروه بوابل من الرصاص، حتى غيبه الموت.
كأنما علم الكاهن مينا عبود بالأمر "قالي قبلها بأيام إن كان في تهديدات للكهنة بتوع العريش" تحكي زوجته مريم، عن تلك اللحظات وهي تتذكره بلهفة شديدة، بينما تجد عزائها في طلابه، ودبلة زواجهما التي التصقت بدبلته بعدما وضعتها في إصبعها عقب وفاته، مما اعتبرته قدرًا يربت على قلبها كلما تحسستها.
سنوات انقضت، ولم ينس أهل المدرسة معلمهم، هو صاحب الفضل عليهم، دأبوا على إحياء ذكراه، حتى أنهم في اجتماع المدرسة الشهري، يبدأ المدرسون بـ"تمجيد" له، عبر كلمات ألفوها، بل وداموا على صلة الود مع زوجته، فيشهد منزله في قلب القاهرة، كل عام في ذكراه تجمعهم عند صورته، وترديد ما تيسر من الألحان، فيما تُقام الصلوات له في منطقة الأميرية والزيتون، ومصر القديمة، حيث مكان دفنه.
فيديو قد يعجبك: