من قلب لبنان.. فاتن تعلم طفلها المصاب بالتوحد معاني الثورة
كتبت-إشراق أحمد:
مساء الجمعة الماضي، كان المتظاهرون في لبنان يواصلون الخروج إلى الشوارع لليوم الثاني على التوالي، فيما مال محمود على والدته فاتن مرعشلي يسألها عما يجري في الغد. ظنت الأم أن ابنها المصاب بالتوحد يريد فعل نشاط بعينه، لكنها تفاجأت بسؤاله "في مظاهرات بكرا؟". لم تعلم فاتن أن حديثها العابر عما تشهده البلاد سيلفت نظر صاحب السادسة عشر عامًا، بل ويصر على المشاركة "بدي أنزل احضر المظاهرة"؛ ترددت فاتن قبل أن تدير دفة الخوف لتجعله فرصة تنتفض فيها مع طفلها في ساحة ميدان، وبلافتة تحمل صوت من لا تملك لبنان إحصاء رسمي بأعدادهم. قررت فاتن النزول لأجل محمود وكل أطفال التوحد.
في ساحة الشهداء، وسط العاصمة اللبنانية بيروت، تواصل فاتن وابنها محمود المشاركة في التظاهرات لليوم الرابع، مازالت تندهش الأم لفضول ابنها حتى أنه لم يكتف بتشجيعها على النزول إلى الشارع بل دفع شقيقتيه أيضًا. تبتسم فاتن بينما تقول "فكرها حفلة"، سعد محمود بالناس من حوله لكن الأم وضعت هدفها منذ عزم الصغير خوض تلك التجربة .
"حسيت أنه وعاني. وأنا بشرح له المظاهرة، ما هو حقه أنه يتعالج هو ورفقاته" وعلى الفور أحضرت قطعة كارتون وكتبت عليها "نطالب بجلسات علاجية مجانية لأطفال التوحد + مدارس دامجة محترمة مجانية لجميع الحالات الخاصة".
"اضطرابات طيف التوحد" وفقا لمنظمة الصحة العالمية هي "طائفة من الاعتلالات التي تتصف بضعف السلوك الاجتماعي والتواصل والمهارات اللغوية إلى حد ما وضيق نطاق أوجه الاهتمام والأنشطة التي ينفرد بها الشخص المعني وتتسم بتكرارها"، ويعاني منها طفل واحد من كل 160 طفلاً في العالم، أما في لبنان، فلا توجد إحصاءات حول الأمر، وكل ما يتوفر أن طفلا بين 68 يعاني من المرض، حسب الجمعية اللبنانية للتوحد.
بقميص أبيض طبع عليه كلمات "أنا رائع.. I’m awesome". ذلك الشعار الذي أعطته فاتن لصفحة فيسبوك أنشأتها لمحمود قبل عامين، في وسط ساحة الشهداء يعرف البعض محمود من متابعة الصفحة، فيطالب بالتقاط صورة معه، وآخرين يتهامسون من بعيد عن الفتى، فتقترب الأم لتشرح لهم ماذا يعني التوحد، ولماذا يشاركون بهذه الطريقة.
يبتسم محمود بينما يحمل اللافتة، يتفاعل مع الحدث بالتصفيق حينا ويتحدث لأمه التي تحرص على سؤاله إن كان يشعر بالانزعاج فيعودا للمنزل، فيما ينتاب الأم شعورا غريبا "أول مرة في حياتي أنزل أطالب بشي حقي. هذا الشعور مميز أعيشه الصراحة. أني أنزل بثورة".
سبق أن خاضت فاتن ثورة، لكن بمفردها، قبل 8 سنوات حينما قررت قبول ابنها الذي يعاني من التوحد، وعليها الدراسة والبحث "لقيت أني ادرس أفضل من أني أكب المصاري عند المعالجين النفسيين. ما هي الجلسة اللي بدي أدفع فيها مصاري لأعالج حالي ابني أحق فيها وأكيد كل الأهالي بيفكروا مثلي"، لهذا جاء المطلب الأول، بتوفير معالج نفسي مجاني للأطفال لتخفيف الضغط عن كاهلهم.
رحلة عسيرة تخوضها فاتن، وآباء مثلها ممن لديهم أطفال يعانون من التوحد، اضطرت الأم لدراسة البرنامج العلاجي المخصص للتوحد "الولد بحاجة لكتير جلسات واللي معترف به عنا أسعاره خرافية وهو حصري على ناس معينية"، تعذبت فاتن حتى استطاعت دراسته إلكترونيا لأنها تفعل بعرض ذاتي وليس فتح مركز "كنت أسأل المراكز المرخصة ما كانوا يعطوني حتى لينك الجامعة حتى أني جبتها من الأردن".
بعدما انهت فاتن تعلم ما يعرف بـ"Apa therapy"، اكتشفت ما يحدث "عرفت أن القائمين على هاي التخصص مبالغين"، علمت أن ثمة استغلال لحاجة الأهالي "العلاج ما بياخد ساعة ولا اتنين الطفل لازم ياخد من 20-25 ساعة في الأسبوع. أي أهل يقدروا يدفعوا لما بياخدوا على الساعة 60 و80 ألف ليرة" –ما يعادل نحو 600 جنيها مصرياً.
أسباب عدة دفعت فاتن للتظاهر مع ابنها، فلم تكن جلسات العلاج وحدها المشكلة لأطفال التوحد في لبنان، عانت الأم لتعليم محمود "طلبات المدارس شي خرافي. اضطريت أحطه بمركز لأني ما أقدر أحطه بمدرسة"، ولأنه بلغ 16 عامًا وأرادت الأم دمجه في المجتمع، ألحقته بمدرسة مصنفة ضمن المستوى المنخفض في التكاليف لكن عليها دفع 10 آلاف دولار في العام "اضطريت اعصر واخنق حالي حتى أني غيرت مدرس بناتي حتى أقدر أكفي الموضوع والله يعلم كيف بدبرهم"، ورغم ذلك لم تنحل المشكلة.
مع بلوغ محمود عمر الثامنة عشر عامًا لن يجد مكان يحتويه "ما في إلا برنامج واحد في لبنان يقدر يستوعب حالته وسعره خرافي.. يعني أنا ابني السنة الجاية بالبيت لأني ما بقدر أدفع". تشعر فاتن بغصة بينما توضح أن هذا حال الكثير من الأهالي، معتبرة أن الثورة بالنسبة لها "فرصة. بدي أعلمه كيف يطالب بحقه".
تعلم فاتن أن محمود لا يدرك ما يحدث "بالنسبة له هو حفلة وجمعت ناس"، لكنها توقن أن فعلها هذا ليس حق لابنها وحده، إنما لكل طفل في لبنان والعالم العربي "أقل شيء يأمنوا لنا جلسات علاجية لأطفال التوحد"، وهو ما تفاعل معه العديد ممن أثنوا على فعل فاتن.
لا تدري والدة محمود تبعات نزولها "يمكن ما يستفيد ابني معمال ما يطبقوا هاي الشيء أو يتسمع صوتي. لو مش منشان ابني يبقى للأجيال الجايه". هي أبعد ما يكون عن السياسة كما تقول "أخري بعرف رئيس الجمهورية"، فقط كل ما يعنيها ابنها "مين ما كان بيعطينا هاي الحقوق بقوله يا سيدي على راسنا متلي متل كل الأهل في لبنان".
مع كل صباح تبتسم فاتن حين يسألها محمود إن كانوا سيتوجون لساحة التظاهر، وإن كانت المظاهرات تحدث كل يوم، فتخبره الأم "هاي الثورة بتصير بالعمر مرّة حبيبي".
فيديو قد يعجبك: