"الوحيد اللي ملامحه باينة".. كيف تعرّف أهالي ضحايا "محطة مصر" على الجثث؟
كتبت- إشراق أحمد ودعاء الفولي:
النار في قلوبهم لم تبرد بعد. أمام مشرحة زينهم بالقاهرة، ابتلع العجز الواقفين، الصمت رفيقهم، إلا من عويل يخترق الأجواء، تُطلقه قريبات ضحايا حادث محطة مصر، تُنادين على ذويهن القابعين داخل الثلاجات، تكاد الحناجر تتمزق لفرط الصراخ، تمر أوقات انتظار الجثامين ثقيلة، يسترجع الأهالي لحظاتهم مع الراحلين، لكن صورة أجسادهم الأخيرة ووجوههم التي اختفت ملامحها لا تغيب عن الأذهان، قضوا ساعات الأمس بحثا عنهم، ولم يعرفوهم إلا بعلامات مميزة فيهم، وبينما دفنت بقية الأسر أبنائها، مازالوا ينتظرون انتهاء الإجراءات، ليواروا ذويهم التراب.
صباح الأمس اصطدم جرار بأحد أرصفة محطة سكك حديد مصر بوسط القاهرة. محدثا انفجارا هائلا، أسفر الحادث عن مقتل 22 شخصًا وإصابة 43 آخرين، بحسب الإحصاءات الرسمية.
خارج مبنى المشرحة، وقف عساكر الشرطة خلف حواجز تم وضعها لمنع الدخول. تكدس أهالي المتوفين في الشارع المواجه، فيما اتخذت أماني علي مكانا قصيا رفقة عمّتها، يشرد نظرها تجاه المشرحة التي تحوي جسد أخيها الأكبر محمد علي "كان شغال في المحطة شيّال، قضى عمره هناك ومات هناك".
قبل عشرين عاما بدأ علي العمل داخل المحطة، كان عُمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين "كان بيلم جثث قد كدة". دائما ما حكى علي لزوجته عن الحوادث التي رآها خلال عمله، حتى أنه قال: "حاسس إني هموت جوّاها بنفس الطريقة".
قبل دخول الجرار المحطة بثواني، وعلى رصيف 6، فرد علي جسده قليلا بعد عناء استمر طوال الليل "كان بيكلم ابنه الكبير وفجأة الولد سمع صوت عالي". ترك الانفجار جسد الأب الراحل متفحما "عرفناه من رجله اليمين، كان عامل فيها عملية وفيها مسامير فميزناها"، تنقلت دمعة من عين أماني، تصمت قبل أن تُردد "الحمد لله إننا لمينا جسمه وهندفنه.. بس ده سايب وراه خمس عيال، هيعملوا إيه؟".
صدى العويل والأنين لا يزول؛ صحبا أسرة بيشوى فتحي بينما يحاولون التأكد أنه بين الضحايا. كان حظ طبيب الأسنان أفضل بين الجثامين "الوحيد اللي تقريبا كانت ملامحه باينة.. الجثث التانية متفحمة" بأسى ينتفض من الوجه، قال أسعد شاهين، خال الفقيد. تواجد الرجل بين الباحثين بالأمس، هاله مشهد الجثث الذائبة بفعل النيران، مما خفف عليه شيئا ما رؤية ابن شقيقته "متحرقش لكن اتقسم نصين كأن حد قطعه"، كذلك كانت ملابس بيشوى، ذلك الجاكيت البني والقميص الأسود دليلاُ مؤكدًا على وفاته.
لم تفلح المحاولات لتهدئة والدة بيشوى، تشرد عينا الأم بينما تتحدث أن أصغر أبنائها الأربعة "بيضحك علينا وجاي". قدمت السيدة وأسرة الشاب هلعين من أسوان. كانوا في انتظار عودة للمنزل بعد يومين، يحضر فيها مؤتمرا علميا عن طب الأسنان سافر خصيصا إلى القاهرة يومها لحضوره، لكنه لم يرجع، وظلت مكالمته بينه وخطيبته مريم آخر ما يُعرف عنه قبل أن يضبح اسمه بين ضحايا "محطة مصر".
الصمت لا يهونه شيء. قاتل بحجم النيران التي اقتلعت أرواح الضحايا، والموت أثره واحد، لا يفرق بين إهمال وجناية، فلن يستطيع أحد التمييز بين حزن أهالي سيدة قُتلت بطعنه سكين وأتى أهلها لاستلام جثمانها من المشرحة، وهؤلاء الباكون على من فقدوا في غمضة عين داخل محطة مصر.
كانت أعمار مروة ومحمد هشام الأبرز بين الجثامين، هما الأصغر سنًا. لكن أسرتهم ظلوا في لوعة حتى وجدوهم، فالأب والأم كانا بحالة خطيرة، وأصبح على العائلة مهمة البحث "عرفوهم من السن والولد كانت إيده ملوحة شوية والبنت شوية من اللبس" بعينين باكيتين تقول وفاء محمد، قريبة الوالدين.
عثرت أسرة الصغيرين عليهما في مستشفى السكة الحديد، لكن المَصاب لم ينته؛ بينما ينتظرون جثمان الصغار، جاءهم خبر وفاة الوالد متأثرًا بجراحه، فيما لا تزال زوجته ناهد عبد العال ترقد في العناية المركزة، يدعو ذويهم بأن تدركها عناية الله، وتبقيها لأجل ابنتها الكبرى، طالبة الثانوية العامة، الوحيدة التي نجت من الأسرة، بعدما امتنعت عن الذهاب لتحصيل الدروس والمذاكرة.
فيديو قد يعجبك: