"فيها حاجة حلوة منا".. مصراوي مع كورال الأوبرا لذوي "الحقوق الخاصة"
كتبت-إشراق أحمد:
تصوير-محمود بكار:
في افتتاح مركز طنطا الثقافي، يقف عاصم محمد أمام الميكروفون، يغني "عاش اللي قال..يا مصرنا مفيش محال"، يردد الكورال من وراء ذي الاثني عشرة عاماً. في الصف الثالث بين الجمهور تجلس والدته هدى صلاح الدين، تنظر إليه بانبهار، تذوب في محبته كأنه لقاءهما الأول بعد الولادة، تسرح فيما قبل أكثر من عشرين عامًا؛ في الثمانينيات حين كانت ضمن كورال وزارة التربية والتعليم، ترن في أذنيها أغاني فيروز والست تلتحم مع صوت صغيرها. كان حلمها الغناء، لكن الأيام لم تمهلها تحقيق ذلك. تستعيد الذكريات بينما يعلو هتاف الحضور "برافو يا عاصم". تملأ السعادة نفس الأم؛ اليوم أحيت أمنية ظنت أنها لن تُبلغها، ليس فقط لأن ابنها حقق ما تمنته ذات يوم، إنما لإيجادها السبيل المفقود لسنوات، والإجابة المنتظرة لسؤالها "إزاي ابني اللي عنده توحد يعمل الحاجة اللي بيحبها.. إزاي عاصم يغني؟".
كان ذلك في 30 يونيو 2018 حينما استعادت هدى وأولياء أمور 26 صبياً وفتاة –وقفوا في مركز طنطا وقت افتتاحه- الأمل في إيجاد مكان يحتوي أبنائهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويعطي فرصة لقدراتهم أن تظهر للعلن، في كورال يضمهم داخل الأوبرا المصرية.
في الطريق إلى مبنى تنمية المواهب داخل ساحة دار الأوبرا، يبدو المشهد مميزًا؛ تمسك أم بيد ابنها أو ابنتها، تتضح التفاصيل إن كانوا من أصحاب متلازمة داون، يترافقون حتى الوصول إلى الطابق الأول، وفي آخر قاعة بالطرقة المحاذية جهة اليمين من سلم الصعود، هناك تستقبلهم ميرفت فريد، مدربة الغناء. تكون على الموعد في الثلاثاء من كل أسبوع، بتمام الخامسة مساءً، يدخل الأبناء وتنتظر الأمهات بالخارج، يتشاركون لنحو الساعة همومهم وأفراحهم، وما فعله الكورال بأبنائهم.
والدة بيتر تصحبه للمرة الأولى بعدما سمعت بتحسن صغار مثله من أطفال الـ"داون"، تتمنى لطفلها الذي لا يتوقف عن الغناء في المنزل أن يجد مكانا بين رفاقه الجدد، فيما يمر العام على رحلة هدى الأسبوعية مع ابنها إلى الأوبرا "عاصم بقى إنسان تاني. في التزامه، قدرته على الحفظ. وبقى عنده صبر أني أقعد معاه طول النهار في البيت" تقول السيدة الأربعينية لمصراوي.
داخل قاعة يتوسطها بيانو أسود اللون، تقف ميرفت أمام أعضاء الكورال الجالسين على المقاعد. "يلا عايزين نطلع أحسن ما عندنا النهاردة". تحمسهم المايسترو قبل أن تطالب منة فوزي وعبد الرحمن أشرف بالتقدم لقيادة الغناء، ثم تشغل الموسيقى.
يضج المكان بأنغام أغنية "مصر يا أم الدنيا يا حبيبتي يا بلدي". بإشارة يردد الكورال، وبأخرى يتوقف لتشدو صاحبة الواحد والعشرين ربيعًا مقطعًا ويلحقها ذو الرابعة عشر عامًا بآخر، فيما تواصل ميرفت التواجد على مقربة من الجميع، ترشد بحركات يدها منة المنتمية لذوي صعوبات التعلم، وتتحدث إلى عبد الرحمن، مَن كف بصره صغيرًا.
كل أصحاب القدرات الخاصة لهم مكان هنا، في القاعة المنعكس المشهد فيها بالمرآة الممتدة في الخلف. تتفاوت الأعمار، من خمسة أعوام حتى ما بعد العشرينيات، يُعرف بعضهم بسيماهم الظاهرة من متلازمة داون، كف البصر، والإعاقة الجسدية.
ما إن تعطى ميرفت إشارة البداية تذوب الفوارق، ولا يُسمع سوى "سيمفونية" متلاحمة، يمتد صداها خارج المبنى، فلا يميز المارة بالجوار إلا أن ثمة غناء قادم من فرقة، وهذا ما هدفت إليه مدربة الغناء حين اقترحت تكوين كورال في الأوبرا "مش محتمل ولو 5% أن الولد أو البنت يصعبوا على حد أو يتقال كويس أنهم عملوا كده لأنهم قدرات خاصة. لأ إحنا بنطلع أحسن الأصوات وندي فرصة للكل يغني".
ديسمبر 2017 ذهبت ميرفت إلى إيناس عبد الدايم، وكانت رئيس دار الأوبرا المصرية حينها، تقدمت المدربة في مركز تنمية المواهب بمقترح لتأسيس كورال لذوي الاحتياجات الخاصة، وافقت المسؤولة التي تقلدت منصب وزير الثقافة، وأصبح الحلم قيد التنفيذ.
في العاشر من إبريل 2018 اجتمع أعضاء الكورال لأول مرة في الأوبرا، بدأت السيدة الأربعينية مع مَن نما لعملهم الخبر وحضروا وبعض أبنائها في نادي الشمس ممن دربتهم على الغناء، فقبل نحو 12 عامًا قررت أن تنذر ميرفت عملها في الموسيقى لأجل "أصحاب الهمم".
شاركت ميرفت في كورال الأوبرا في التسعينيات، قبل أن تكمل المشوار في الإدارة الفنية ثم تنمية المواهب، لكن عام 2007 كان نقطة التحول؛ تلقت ميرفت دورة تدريبة تؤهلها للعمل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، رغبت في العمل التطوعي. لم يكن التفكير يتعلق بالموسيقى، حتى اكتملت تفاصيل الصورة، بحديث من صديقة لها في العمل، سألتها "ليه ما تدمجيش الموسيقى باللي اتعلمتيه مع القدرات الخاصة؟"، دارت الفكرة في رأس ابنة الأوبرا، لتخوض مشوارها مع التدريب في نادي الشمس وغيره من المراكز الخاصة.
15 حفلاً قدمه كورال ذوي الاحتياجات الخاصة حتى الآن منذ تأسيسه. خفت مشاعر الرهبة عند ميرفت عن أول مرة وقفت فيها أمام جمهور بـ"أولادها" كما تحب أن تصفهم. كان ذلك على مسرح سيد درويش؛ اصطف نحو 30 فتاة وصبيًا يؤدون 3 أغاني "لقيت الولاد عندهم قابلية فظيعة في الغنا وماشين في اللحن تمام" تستعيد المدربة بينما تستقبل أسبوعيا قرابة 70 فردًا يشكلون كورال الأوبرا ويواصلون استقبال رفاق جدد.
"السمعة اللي أخدتها عن الولاد دول في الرياضة قلت لازم أنفذها في الفن". تحدي لازالت تخوضه ميرفت وحدها، أمنت فيه بقدرات ذوي الاحتياجات دون استثناء، رفضت اقتصار تعلم الموسيقى على المكفوفين، وجدت أن المشكلة في التوجيه "مش هنقدر نطوعهم يقفوا ويتحملوا مسؤولية المسرح من غير ما نديلهم الثقة ونحسسهم أنهم بني آدمين طبيعيين. ده حقهم في الحياة". تتعامل ميرفت بمنطق الأم والمعلمة في آن واحد.
للتدريب قواعد صارمة ترسيها ميرفت. في منتصف وقت البروفة، تجلس إحدى الصغيرات متربعة على المقعد، تطالبها المدربة بحزم أن تعتدل في جلستها بينما تغني قائلة لها "أنت عارفة أن ده مينفعش" فتستجيب الفتاة.
تعمل السيدة على تعديل السلوك، إشعار المشاركين بالمسؤولية داخل القاعة حتى يعتادوها على المسرح، فكل فعل يحدث بالتنسيق "في اتفاق بإشارات بقينا فاهمين حتى الصقفة ليها أساس. بنظم الزمن العقلي عندهم عشان يمشي مع رتم الأغنية".
المهمة ليست سهلة. يختلف "الأولاد" في قدراتهم "المسألة مش أني أقعد كل الداون مع بعضه، القدرة الواحدة تحتها ممكن 50 قدرة تانية"، هناك من يعاني ثقل اللسان، اللعثمة، الخجل أو فرط الحركة، وعلى ميرفت إيجاد المدخل المناسب لكسب محبة كل منهم، لاسيما وأنها تعرف مشقة الغناء على موسيقى بلا عازفين.
الجميع مرحب به في كورال "تنمية المواهب"، لا شروط للانضمام سوى الاستجابة لـ"الكلام العادي"، وإن تواجدت الموهبة الصوتية سعدت ميرفت، إذ يزيد عدد المغنيين المنفردين، أما إن كان المنضم "عنده قدرة في الكلام نص نص والغنا نص نص ممكن نقدر نخدمه ونساعده يبقى أحسن".
يدخل بيتر إلى القاعة، ترشد المدربة العضو الجديد للجلوس في مقعد بعينه "الولد الجديد بنقعده جنب واحد قديم عشان ياخد بإيده"، فالجميع يتدرب معًا. تعيد ميرفت تشغيل الموسيقى، يغني الكورال في انسجام "فيها حاجة حلوة.. حاجة حلوة منا"، فيما لم يتوقف مؤمن ذو القميص البرتقالي عن التصفيق والتمايل في حضوره الأول للتدريب.
تتقدم للغناء هذه المرة سها الزيات، تضع يداها على البيانو، يصحبها ابتسامة بشوش بينما تغني لفيروز. تمارس ذات التاسعة والعشرون ربيعًا الغناء منذ سنوات، تربطها بيوم أدائها أغنية "لأجلك يا مدينة الصلاة" ضمن كورال نادي الشمس.
سها من بين الأكبر عمرًا في كورال المواهب، تأتي صاحبة متلازمة داون بمفردها من مصر الجديدة إلى الأوبرا، منذ عام تأكدت والدتها من إمكانية اعتمادها على ذاتها. الغناء يمنح سها السعادة "بحس أني مبسوطة وكل حاجة حلوة".
ساعة من الانطلاق داخل قاعة الغناء كفيلة لدفع عبد الرحمن أن يتحامل رغم مرضه كي لا يفوت تدريبًا. انضم طالب المرحلة الإعدادية لكورال الأوبرا منذ يوليو المنصرف، أعلمه صديق له في مدرسة طه حسين بشأن الاشتراك، وكان معلمه أخبره أن صوته عذب "كبيرها كنت بقف على مسرح المدرسة في حفلات عيد الأم" يقول الصبي الضرير بينما يستعيد وقوفه على مسرح معهد الموسيقى العربية "كنت خايف بس بعد ما خلصت الناس صقفوا وكل حد يسألني اسمك إيه"، وقتها انتاب الصبي شعور طيب رغم رهبته، زاد بتعلمه قواعد الغناء وصناعة الكثير من الأصدقاء "عشان كده بقيت أحب أجي" مبتسماً يذكر قبل أن يعاود الدندنة مع رفاق الكورال.
أصبح الثلاثاء أشبه بيوم مقدس لدى أعضاء الكورال. ما إن ترى فرح الملابس مجهزة على السرير تصيح من السعادة "ماما هنروح أوبرا". رغم مزاولة ذات الأربعة عشرة أعوام للغناء في المنزل ووقوفها على المسرح في مهرجان أولادنا، لكن كورال الأوبرا شكل لها فارقًا "هنا اتعلمت الثبات إزي تبقى في كورال وتغني مضبوط مس كفاية السوليست" تقول الأم مها ندا بينما تنتظر ابنتها.
اختلف وقع وقوف فرح أمام الجمهور حتى على والدتها، تفضل مها رؤيتها بين رفاقها أكتر من غنائها منفردة "أحنا كأمهات بنبقى مذهولين لأن ولادنا إعاقات مختلفة لكن كلهم مندمجين مع بعض. تحسي أننا كورال طبيعي"، ترجع ذلك للفنيات التي علمتهم إياها ميرفت، انعكس ذلك على مها وغيرها من أمهات أبناء الكورال، فرغم مشقة حضور التدريب، لكن لحظة رؤية فرح تهون على والدتها الكثير "ببقى واثقة أن بنتي هتبان بشكل كويس مش أنها حالة استثنائي وده على قد التعب بتهون علينا حاجات كتير".
تلاقى حلم ميرفت مع أمنيات أولياء الأمور "أن يكون في مكان تابع للدولة يحتويهم". قبل الانضمام للأوبرا، ظل الحزن يسكن نفس هدى بينما لا تجد مكانا ينمى قدرات ابنها عاصم، منذ اكتشفت موهبته في الغناء وهو في عمر الرابعة "لما كان يسمع الأذان يوطي التليفزيون ويردده بصوته وكان يقرأ القرآن بصوت المشايخ من غير ما حد يعمله". أقصى ما حظى به عاصم هو الغناء في المدرسة قبل أن يصبح ضمن 12 مغنيًا منفردًا في الكورال.
كان فصل الأوبرا "ماء الحياة" لوالدة عاصم، أعاد لها ثقتها في نفسها قبل فرحتها بصغيرها "كوني عارفة شوية في الموسيقى وكنت بغني ميس ميرفت بقت تشاركني في اختيار بعض الأغاني"، فيما تسلل لها اليقين "أن 60% من علاجه من التوحد تحقق بالتواصل مع نفسه واللي حواليه" حينما رأته على المسرح بعد شهرين فقط من التدريب، يغني في ثبات ويستجيب لمدربته.
أن تؤثر الموسيقى في أصحاب الكورال، ما تنشده ميرفت "مش أني اخليه يفرح في ساعة زمن ويمشي إنما أثر في حياته كلها"، تزداد لأجل ذلك إصرارًا على المواصلة والتوسع، تستعين بما تشاركوا فيه، من حفظ 35 أغنية وتقديم أول حفل بعد شهرين من التدريب، وفتح فصل في الإسكندرية وآخر في طنطا ودمنهور، تواصل متابعة الأولاد حتى في منازلهم، لاسيما أصحاب الإعاقات الحركية ممن يصعب عليهم الحضور كل تدريب، تطرب أذنيها حينما تخبرها إحدى الأمهات "ابنى اتحسن"، أي تغيير دون الموسيقى تلمع عينا المدربة فرحًا به، ينعكس هذا عليها "الولاد علموني العطاء والمحبة اكتر".
في غضون السادسة والنصف تنتهي بروفة كورال المواهب، تحيي ميرفت "أولادها"، تفتح الباب في إشارة للختام والرحيل، يدخل أولياء الأمور يتساءلون عن أبنائهم، لا تخشى المدربة مصارحة أحدهم بأن طفله لا يستجيب ووجوده ليس بصالحه، فيما يرحل الجميع بأمانيهم؛ تود هدى لو أصبح لقبهم"ذوي الحقوق الخاصة" وليس الاحتياجات، فيما تسر ميرفت في نفسها الحلم بأن يصير كورال الأوبرا في كل محافظات مصر، وفرقة فنية تجوب العالم.
فيديو قد يعجبك: