بين قرى العلوم ومصانع الحلوى.. إيمان تعلم أولادها بالاكتشاف والرحلات
كتبت- شروق غنيم وإشراق أحمد:
تصوير-شروق غنيم:
رحلة امتدت خمس سنوات في دروب العمل بالمدارس والمؤسسات التعليمية، كانت كفيلة بأن تُعد إيمان أباظة خارطة طريق مختلفة لأبنائها قبل أن تُرزق بهم. لم ترد أن تمر بمعاناة الأهالي مع أطفالهم، ومنذ عزمت على ذلك استعدت الأم الشابة للأمر جيدًا، احتفظت بالبرامج التعليمية، صار لديها خطة مُحكمة "لأني مقتنعة بقدرات الأطفال وإن التدريس مش بس حشو معلومات"، وقد كان.
خلال عملها لمست إيمان الطرق التعليمية الأخرى التي تساعد في تنمية مهارات الأطفال، وطيلة سنوات لم تترك سبيلًا للوصول إلى المواد التعليمية إلا وطرقته، صارت ترسمها بأياديها "المرتب بتاعي كنت بصرفه على الكتب أو إني أصور النسخ الأصلية"، بات المنزل وكأنه حضانة قائمة بذاتها "كنت شايفة إن ده الاستثمار الحقيقي اللي لازم أعمله لولادي".
حين جاءت صغيرتها "توتة" للدنيا قبل عشرة أعوام، كان كل شيء جاهزًا، كذلك ابنها باسل، تركت الأم الشابة العمل نهائيًا منذ 2008، وباتت مهنتها تعليم أطفالها "من أول لحظة كنت شايلة ريسيفر البيت"، فيما حّل مكانه "هارد" ممتلئ بالبرامج التعليمية "كل المواد والتجارب اللي ممكن يبقى محتاجها طفل في سنهم".
انغلق "الهارد" على حكايات شتى، صار زاد الأطفال في العلوم والفضاء، ولمّا أصبحوا في عمر الثالثة حان دوره، تفتح إيمان الهارد وتنتقي من ملفاته دروسًا مختلفة، رغم ذلك انشغلت الأم الشابة بضرورة اكتشاف أبناءها ما يقدم في البرامج والكتب المدرسية، فصحبتهم للمزارع، وتدريجيًا اختلف نمط رحلاتهم "بقينا نروح المتاحف، القرية الفرعونية، المدينة الاستكشافية، والقرية الكونية".
ظلت إيمان على منهاجها مع طفليها حتى اكتشفت أنه لا يكفي طالما بقي محيطهما دون تغيير؛ في أول يوم دراسي لـتوتة في الصف الرابع الابتدائي، وقفت معلمة الدراسات الاجتماعية تُعدد صعوبات المادة الجديدة وكم أنها تحتاج للحفظ، عادت الصغيرة لوالدتها وبدا تأثرها بالحديث. انزعجت إيمان وقررت في الأسبوع ذاته القيام برحلة للقرية الفرعونية لكن هذه المرة ليس بصحبة الأبناء وحدهم.
مع نحو عشرة أطفال آخرين من زملاء توتة وباسل في المدرسة، نظمت إيمان الرحلة الجماعية الأولى في الإجازة الأسبوعية، صحبتهم بنفسها دون أولياء أمورهم، لعبت الدور ذاته في الإرشاد ومعايشة الحياة الاقتصادية عند الفراعنة كما تشرحه مادة الدراسات الاجتماعية. منحتها تلك الخطوة وما رأته من حماس الصغار إشارة الانطلاق نحو الدعوة لمزيد من الرحلات.
في جولتها البحثية أثناء الدوام الدراسي لطفليها، تتواصل إيمان مع كل جهة بإمكانها استضافة جمع الطلاب الصغار، لا تترك محاولة إلا وتسعى إليها، ذهبت بهم لمصانع الألبان والخبز وحتى قوالب الحلوى. تؤمن إيمان أن مثل تلك الرحلات تمنح الأطفال إلى جانب المعرفة العلمية الشعور بقيمة الأشياء.
ربت إيمان نفسها ومن بعد أولادها على شغف الاكتشاف والمعرفة، تضحك بينما تتذكر كيف تحولت إجازة زواجها في الأقصر وأسوان إلى رحلة بحثية "فضلت ماسكة الورقة والقلم اسجل كل حاجة شوفتها وعرفتها"، حتى أنها اطلعت أبنائها عليها حينما صادف ذكر المحافظتين في دراستهم.
وكذلك أصبحت العطلات الصيفية لا تخلو من مزج بين الترفيه وتعلم شيء جديد "نروح الغردقة يعني نوصل لمنطقة رأس محمد. نروح إسكندرية يبقى نشوف المكتبة والقلعة ونعرف تاريخيها".
ألفت توتة وشقيقها باسل التساؤل في كل مكان. "لو لقينا دبانة معدية لازم نمسكها ونقف نتفرج عليها" تقول الأم مبتسمة. إن تواجدا مع والدتهما في محطة وقود السيارات باتت فرصة لمعرفة أنواع البنزين وكيف تعمل العربات، وتناول الطعام في مطعم يعني الدخول إلى مطبخه والتعرف على كيفية إعداده والعاملين عليه.
لا تتوقف إيمان عن القراءة والاطلاع والمذاكرة، ثم تضع خطة للأماكن التي يحتاج أبناؤها زيارتها، ولا يثنيها ذلك عن الانبهار "بروح أماكن لأول مرة زيهم"، وما إن تعرف الأم بتضمن المنهج الدراسي لمعلومة عن أثر أو وجهة يمكن الذهاب إليها حتى تصحبهم، مثلما فعلت في سفرهم إلى سيوة أكتوبر المنصرف "بدأوا يخدوا عن العيون والواحات والجبال فقلنا نروح نشوفها على الطبيعية في عيد الحصاد".
كان لرفاق "توتة" نصيبًا من أجواء سيوة، في الأسبوع التالي للرحلة نظمت الأم "حصة" حكي داخل الفصل الدراسي، حملت كافة التفاصيل من ملابس ومشغولات وحتى قطع من الملح جلبوها معهم من الواحة فضلًا عن الصور التي تصحبهم في جولة كأنما يعايشونها. "كنا المفترض نقعد نص ساعة بوقت حصة لكن قعدنا 3 ساعات" تبتسم الأم بينما تستعيد ردود الفعل.
اتسعت دائرة إيمان وأبنائها بالذهاب إلى الأماكن المختلفة، أسست الأم صفحة على فيسبوك باسم "Edu fun trips" ومدونة تشارك فيها خبرتها وبحثها الدائم عما تغرسه في طفليها، لعلها تجد أهالي باحثين مثلها فتختصر عليهم الطريق، وبسبب ذلك باتت إيمان معروفة لأصحاب الاهتمامات المشتركة، حتى صارت تأتي لها فرصة للحكي عن تجربتها كما حدث في بيت السناري السبت الماضي، خلال فاعلية "تعالوا نعرف مصر".
أمام جمع من الصغار مختلفي الأعمار، أعادت إيمان حكايتها عن رحلة سيوة، لكن هذه المرة بصحبة ابنتها توتة. تتحدث الأم عن لغة أهل الواحة الرسمية، فتضيف الصبية "أنا اسمي بالأمازيغي التو يعني الضوء". حرصت إيمان أن تشاركها ابنتها عرضهما الأول في مكان عام "عشان هي عندها معلومات كويسة ومش عايزة تقول لزملائها لأنها شايفة أن دي مش اهتمامتهم"ـ أرادت الأم أن تذوق صغيرتها شجاعة المشاركة بما تعرف، لربما يكون عزوف الآخرين عن المعرفة للجهل بها وليس لعدم رغبتهم فيها.
رغم مشقة ما تخوضه إيمان مع أبنائها، لكن لحظة مجيء أحدهما إليها باقتراح لفكرة أو فتح باب نقاش، يعطيها ماء الحياة لاستكمال ما بدأت وطمحت إليه "عايزاهم يعيشوا سنهم ويعرفوا قيمة الحاجة واتعملت ازاي عشان محدش يضحك عليهم". كلما تحدثوا إليها بما يدور في خلدهم، يطمئن قلبها أنها لازالت جدارهم الأمن، وحين تعبر توتة أو باسل بطريقة مختلفة في دراستهم تزيد دعواتها بأن تحصد ثمار غرسها، فيما تنشد بكل صورة جديدة تضيفها إلى دفترهم "أن يبقى لهم ذكريات يرجعوا ليها ويحكوا عنها".
فيديو قد يعجبك: