بالصور- سيدة المصنع الأولى.. فاطمة فاتها قطار التعليم فصنعت "إمبراطورية" للملابس بـ2000 عامل
كتبت-هبة خميس ودعاء الفولي:
تصوير-حازم جودة:
منذ 40 عاما تحتفظ فاطمة خاطر بابتسامتها، صوتها الهادئ، وجدولها اليومي الثابت؛ لم يجعلها مصنع النجار الذي تديره رفقة زوجها، شخصا مختلفا، ماتزال تطهو الطعام صباحا لبيتها، ثم تمر على عمالها الذين درّبتهم، تُعطيهم توجيهات في "الصنعة" والحياة، مع كل خطوة داخل المكان تستعيد سنوات الشقاء الأولى، حين فاتها قطار المدرسة، فاستعاضت عنه بالأقمشة والحياكة، تعاهدت وزوجها على خوض الحرب في سوق الملابس، علّمت أكثر من 2000 عامل وعاملة. والآن، يشاركها أولادها الستة في الصناعة، تحصد العائلة ما زرعه الوالدان، فيما تبقى الحاجة فاطمة "الخير والبركة واللي مفيش حاجة بتمشي من غيرها".
بعد بوابات الإسكندرية بدقائق قليلة يستقر المصنع بمنطقة العامرية بالقرب من شريط السكك الحديدية، داخله يعرف الجميع دوره؛ الأب والأم والأبناء والعُمال، وحتى الأحفاد الذين يقدمون المساعدة أحيانا.
تتذكر السيدة فاطمة التفاصيل باللفتة، كيف كانت طفلة تُحب قص الورق و"الشخبطة" فوقه، تمنت لو ذهبت للمدرسة "بس والدي خاف عليا فمرضيش"، لكن مددا جاءها حين عملت لدى صاحب محل ملابس في الثانية عشر "كنت عارفة إن دا اللي انا بحبه وبعرف اعمله"، مِعطف ثقيل هو أول ما حاكته صاحبة الـ63 عاما "كنت مبسوطة بيه ومبسوطة إني اتعلمت بسرعة رغم إني مبعرفش أقرأ واكتب"، حين وصلت سن العشرين صارت "أسطى" تحصل على 8 جنيهات شهريا "ده مبلغ كبير ساعتها"، قبل أن تتغير حياتها بعد لقاء الزوج أحمد النجار.
في أحد الأيام، ذهب شقيق فاطمة للمحل الذي تعمل فيه مصطحبا النجار "وقاللي الأفندي دا عايز يفصل بنطلون"، لتجيبهما بصوت واثق "عندنا شغل كتير.. خليه يروح للترزي اللي بعدنا"، بعد فترة علمت الشابة وقتها أن ذلك كان ستارا ليتلاقيا "عرفت إنه كمان شغال في التريكو وفاهم في الصنعة وبعدها اتجوزنا".
في المصنع، تتقاسم فاطمة وأحمد الإدارة؛ يقضيان يومهما بين الإشراف على العُمال البالغ عددهم 600، فيما يهتم الزوج بصيانة الماكينات، يتابعان كل صغيرة وكبيرة سويا، فالمكان الممتد على مساحة شاسعة يحوي صناعة الملابس من "النسيج" وحتى خروجه للسوق.
يتكون الطابق الأسفل من عدة قاعات أولهم قاعة "القص"، فيها عدد بسيط من العمال لرص الأقمشة وترك الماكينات تدور، في ركن صغير بنفس القاعة ثمة قسم استحدثته الحاجة فاطمة لإعادة تدوير باقي الأقمشة وتوظيفها في موديلات مناسبة، تتحرك السيدة بين العمال لتتفقد الأقمشة، بينما في قاعة أخرى يعمل قسم الطباعة بالألوان الصديقة للبيئة "الحج مانع استخدام الخامات المضرة سواء للعمال أو الناس" حسب تعبير الابنة شيماء، أما باقي قاعات المصنع فتحوي قسم التطريز بالخيوط وصنع إكسسوارات الملابس من الأربطة وحتى "الأستك".
لا ينسى الزوجان خطوات ما قبل تأسيس المصنع عام 1980؛ كانت شقة صغيرة في منطقة أبو سليمان بالإسكندرية تحوي ثلاث ماكينات خياطة وثلاث عاملات "كنا نصحى الفجر نروح انا وهو.. انا أمسك مكنة وهو مكنة"، ظلا على تلك الحال حتى بعدما انضمت لهما عاملات أخريات "كنت بدربهم على الشغلانة بس مبقدرش أبطل أشتغل بإيدي"، تدين فاطمة بالولاء لماكينة الخياطة الأولى التي عملت عليها "نوعها كان اسمه سنجر.. كنت بحس إن فيها فن وشطارة أكتر من مكن الأوفر"، فيما يدين لها العمال بالفضل "بيقعدوا معانا بالعشرة والخمستاشر سنة حتى لما بيتجوزوا بيرجعوا بعدها".
العمل والعلاقات الإنسانية متوازيان لدى صاحبة المكان. ما إن تدخل للمصنع، حتى يأتيها صوت بعض العاملات "صباح الخير يا أبلة فاطنة"، تعهد صاحبة المكان لتعريفهم بطبيعة العمل والتعامل "انا كنت جاية من مصنع تاني متبسطش فيه بس الحاجة كانت قادرة تحتضنّي لما جيت".. تحكي آمال، إحدى المشرفات على العُمال، تضحك قائلة: "اتعلمت منها حاجات في الطبخ برضو لأنها ست بيت شاطرة"، تقاطعها السيدة فاطمة "انا بحب عمالي وبأجي عشانهم حتى لو تعبانة.. بس في الشغل شديدة ومعنديش دلع".
الطريق كان عسيرا، يظهر ذلك في ملامح أحمد، لا يتخلى الزوج السبعيني عن الحضور للمصنع يوميا "مش معقول بعد كل التعب نسيب المكان ونستريح"، حين يأخذه الإرهاق "بفتكر إن دا ولا حاجة بالنسبة للي شفناه"، عندما أسس وزوجته محلا صغيرا في منطقة أبو سليمان "استلفنا حق مولد كهربا صغير عشان مكانش معانا فلوس نشتري عداد"، يحكي بفخر أن الفقر جعلهما أفضل، أكثر إدراكا لأهمية ما يقومان به، اتفقا دائما أن "المكسب الخالي من الطمع طعمه أحلى"، لذا حينما تُسأل فاطمة عن كيفية نمو المصنع "بقول إن دا بركة ربنا"، قاما بتربية أبنائهما على ذلك، قربوهم من "الصنعة".
"إحنا 6 طلعنا واحنا شايفين ماما بتفصل القماش وبابا بيقص بإيده عشان كدة اتعلمناها"، تتذكر شيماء، خريجة الهندسة قسم عمارة، رؤية والدتها ربة منزل داخل البيت وسيدة أعمال بالمصنع توازن دائما بين الاثنين.
بعد التخرج عملت شيماء في عدة مكاتب هندسية، ثم فتح لها والداها باب المصنع واجتذبها التصميم فأسست قسما للتصميم داخل المصنع وسافرت لإيطاليا لتعلم التصميم والتطريز والباترون وحينما عادت وظفت ما تعلمته.
لم تكن شيماء الوحيدة التي انضمت للأبوين؛ كذلك فعلت الأخت الكبرى أميرة، التي تساعد الوالدين في إدارة المكان وترأس قسم المبيعات، كما يشارك الأخ الأكبر خريج كلية الهندسة قسم الإلكترونيات، أما الشقيقة زينب فصارت مديرة مصنع العائلة الثاني في منطقة السادات، فيما تدرس إحدى الشقيقتين الصغيرتين الدكتوراه في إدارة الجودة والأخرى في مرحلة الماجستير، وتعملان بإدارة الجودة في المصنع والتنمية البشرية.
تشرّب الأبناء بإخلاص الزوجين للمصنع "وأنا صغيرة كنت بشوف بابا راجع من الشغل على هدومه خيوط فكنت بجيب الخيوط وأحطها على لبسي عشان أبقى زيه هو وماما"، تحكي شيماء، قبل أن تسرد كيف فتحا لها أبواب تطوير المصنع، فترد الأم "وجودهم فرق في الشغل جدا"، لا تخاف من طرحهم أفكار جديد "بالعكس المخاطرة هي اللي بتخلينا نتطور غير إني بثق في ولادي"، تقولها فيما تشير لحفيدها تامر الذي يساعد العُمال بقسم التطرير "عندي 15 حفيد كلهم بييجوا هنا.. وفي الأجازة فيه منهم ممكن يساعد في القص أو حاجات تانية..الباب دايما مفتوح ليهم ولغيرهم".
يخدم المصنع فئات عمرية مختلفة "آخرها قسم حديثي الولادة اللي فتحناه من أربع سنين"، فعندما أنجبت شيماء ابنها الأول "مكنتش لاقية لبس كويس وأسعاره معقولة فقولنا ليه ميكونش عندنا دا"، يُفضل آل النجار الحفاظ على أسعار متوسطة بخامات مرتفعة، لا يغيرون ذلك المبدأ وقت الأزمات؛ يروي الأب عما حدث عقب قرارات تعويم الجنيه، فبالرغم من أن كل الشركات سارعت بزيادة أسعارها إلا أنهم أعلنوا أن مخزونهم من المواد الخام يستمر لستة أشهر فلم ترتفع الأسعار "ولما جبنا الشغل الجديد سعرنا زاد 10% فقط"، لا يندم الأب على ذلك القرار، ينظر لزوجته مؤكدا "انا وهي كنا مشاركين في القرار دا".
حين تأتي سيرتها، يقاطع النجار الحديث "انا بنتمي لفاطمة.. بنتمي لشطارتها ودأبها وتعبها"، فتجيبه سريعا "لا انا اللي فخورة بيك وبتعلم منك"، يعتبرها الأبناء ضلعهم الأقوى، وتراهم هي ثمرة حياتها "انا صحيح متعلمتش بس قررت إن كلهم لازم يتعلموا أحسن علام وبقيت أشوف نفسي فيهم"، ذاقت فاطمة وزوجها الحرمان في شبابهما "عشان كدة بنحاول نعامل العمال زي ولادنا"، تغار شيماء وشقيقاتها أحيانا "لما بلاقي أمي عارفة مشاكل العمال الشخصية بقولهم يا بختكوا بيها".
لا ترتاح فاطمة للمكوث في المنزل "لما بغيب يوم مش ببقى على بعضي"، بينما يذكر النجار حينما عادا من أداء العمرة قبل أسبوعين "نزلنا الشغل تاني يوم"، لا يفعلان ذلك لأجل العمل فقط "احنا بنحس إن دا بيتنا" يقولها الزوج، فيما تسترجع الأم "لما أخدنا المصنع هنا كان مفيش سقف.. كنا ساعات بنبات جواه رغم إنه صحرا"، لا تتوقف آلة التطوير عن الدوران في صرح العائلة، ترى فاطمة نفسها كل يوم كعاملة في المكان، تتعلم منه، يُبهرها التقدم التكنولوجي السريع غير أن يديها تُديران كل شيء، تغزلان الحُب للمحيطين، وتشدان على يد رفيق كفاحها.
فيديو قد يعجبك: