حارس "صحة دهب".. 30 عامًا من تتبع الأمراض والأوبئة حتى "كورونا"
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
-
عرض 6 صورة
كتبت-إشراق أحمد:
لم يكن انقضى سوى ستة أشهر على إقامته في دهب. استلم الطبيب محمد حسين خطاب بتكليفه "نيابة جراحة أنف وأذن" في بني سويف، فرصة ما كان شاب حديث التخرج أن يرفضها، عزم حسين العودة لموطن نشأته والاكتفاء بما قضى في جنوب سيناء، لكن ذات يوم تغير المصير؛ جُرحت والدة سائق من أهل المدينة، لبى الطبيب النداء وذهب إلى مكانها في أحد أودية سانت كاترين، فإذا به يلتقي أسقف الدير، أسعفها الراهب اليوناني بما استطاع، لكن القرح ازداد سوءًا، وما إن داوى الطبيب المرأة، حتى أخبره الأسقف "مش أنت أولى بالناس دي". زلزلت الكلمات حسين، تذكر أنه المعالج الوحيد بالمكان، وإن غادر تُرك مَن مثل هذه السيدة بلا دواء، فعدل عن قراره وقال "هقعد ورزقي ورزقهم على الله".
أكثر من 30 عامًا انقضت على ذلك اليوم من عام 1989، لكن مفتش صحة دهب بقى على العهد؛ يُداوي المرضى، يتتبع أثر الداء، يمنعه من الانتشار بين الأهالي، لهذا حين نما إلى سمعه أنباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، هب مسرعًا لوقاية المدينة الواقعة جنوب سيناء، نزل بنفسه إلى الأماكن والشوارع يعقمها، زاد من أحاديث التوعية وملاحظة الحالات، لم يعبأ بأن أيام تفصله عن "المعاش"، وترك عمله بعد بلوغه سن الستين. كل ما شغله أن يؤدي المسؤولية التي لازمته لآخر لحظة.
كان الثامن والعشرين من مارس المنصرف الموعد الرسمي لإنهاء خدمة مفتش صحة دهب، لكنه واصل العمل ليومين إضافيين كي يتم ما عقد العزم على إنهائه "لازم أسيب دهب بدون تفشي الوباء".
منذ نحو شهر تحرك كبير أطباء دهب لمجابهة كورونا؛ تزامن هذا مع وصول فوج سياحي قادمًا من إيطاليا إلى دهب في 15 فبراير المنصرف. كان الطبيب يعلم ما يجري من ظهور إصابات بالفيروس المستجد في البلد الأوروبي، ولم يكن ثمة حديث عن المرض في مصر، لكن حسين اختار الحيطة كما يفعل بحكم عمله كمسؤول عن الطب الوقائي. بهدوء دون "تهوين أو تهويل" كما يصف لمصراوي، أخذ حسين يتابع السائحين "لغاية ما مشيوا وطهرت مكان ما تواجدوا في البلد"، وكذلك مضى يقتفي أثر أي إيطالي يخط بقدمه دهب.
مكافحة "كورونا" المهمة الأصعب في مسيرة طبيب دهب، لكنه يدري جيدًا كيف يتصرف، فذلك عمله منذ قدم إلى دهب "عرفت الطب الوقائي لأنه كان من جزء من مسؤوليتي كمفتش صحة". أدرك أن منع المرض خير من علاجه في مكان نائي، شاهده حين كانت حدوده صحراء على امتداد الرؤية، فحمل على عاتقه توعية الأهالي بالنظافة والثقافة الصحية بما استطاع من وسائل، وفرها بنفسه مثل "البروجيكتور" الذي اشتراه قبل سنوات، وأخذ يدور المدارس والمساجد يحدثهم عن إجراءات الوقاية، فيما قرر تعقيم أماكن التجمعات.
أعلن مفتش الصحة الطواريء في دهب، طرق باب رئيس مجلس المدينة والفنادق لإمداده بما لديهم من كلور يلزم للتعقيم، ثم خرج بسيارة الخدمات التابعة للصحة، جاب المدينة مطهرًا للأسطح التي يمكن أن تحمل الفيروس، ولم يتمكن من رش الشوارع "لأنها كانت عايزة إماكنيات كبيرة"، واستمر في هذا حتى 21 مارس، حين سُمح لسيارات المطافيء أن تعاون في عملية التعقيم.
لم يترك الطبيب مهمة التعقيم للعمال بل يتقدم "لأني عارف إزاي بسرعة أرش مكان تحت الرجلين مطرح المشي والأماكن اللي بتتحط عليها الأيد زي البيبان". اعتاد أهل دهب أن يروا حسين يفعل بنفسه ما يخدم الصحة أو يقدم المساعدة، فما كان وقوفه فوق عربة المطافيء لتصليح خرطوم المياه غريبًا عليهم مثلما رأى البعض بعدما تداولت الصورة على وسائل التواصل الاجتماعي.
من قبل قاد مفتش الصحة سيارة رش الحشرات للقضاء على الذباب والناموس باعتبارها ناقلة للأمراض، وحينما عاتبه والده في إحدى الزيارات قال له "مهمتي الناس تكون مستريحة ما هو الدبان لو حامل مرض هيعيوا ويقولوا منكم لله قاعدين في المكاتب وسايبينا".
نعت البعض حسين بالجنون والمخاطرة، لكنه لم يلتفت مثلما فعل وقت أن استقر في دهب بعدما جاءه تكليف العمل بها "كانوا بيقولوا لي أنت بتضيع مستقبلك. في حد يسكن في مكان زي ده". كانت المدينة صحراء، لم يمض على استلامها من الاحتلال الإسرائيلي سوى 7 سبع سنوات، تضم 39 استراحة بناها الإسرائيليون وقت احتلال سيناء، وخصصت للمصريين العاملين من أطباء ومعلمين، لغير أبناء المكان هي بمثابة "منفى"، لكن ابن مدينة بني سويف وجد فيها نفسه وهدف التحاقه بالطب.
تلاحم طبع الطبيب المائل للهدوء مع صفاء طبيعة دهب. تزوج فيها وأنجب أبنائه الثلاث ورفض مغادرة المكان أو حتى تغيير شكل منزله "الشاليه الإسرائيلي" كما يطلق عليه، يعتبره تاريخ لا يحق له أن يمس أساسه، فيما كان وجوده وزوجته نواة لتعمير المنطقة، فما إن يقدم أحدهم على الحياة في جنوب سيناء وترفض شريكته يُقال لها "ده في دكتور ومراته قاعدين في دهب".
في مبنى صغير لا يتجاوز حجرتين، عمل حسين رفقة 4 موظفي، كان بينهم الطبيب الوحيد. داخل الوحدة الصحية استمع لشكوى أهالى دهب، استقبل المواليد وشيع المتوفين "مفيش طفل ولا ميت إلا عدى عليا"، كبر المبنى ومعه عمر الطبيب، تغيرت الحياة بأجيال ووفود جدد، لكن مفتش الصحة على حاله؛ رفض إنشاء عيادة خاصة به، وجد في ذلك متاجرة بآلام المرضى البسطاء، اكتفى بفتح واحدة تتبع الشؤون الاجتماعية، الكشف فيها بجنهين، إحداهما يعطيه للممرضة والآخر للمكان، ومجانًا لغير المقتدرين، فيما ظل منزله مفتوحًا للجميع، "عيادة مجانية" لكل صاحب داء، تتذكر هاجر، الابنة الكبرى لحسين، كم من عابر تردد عليهم لملاقاة أبيها، ولا يرده.
كثيرًا ما استوقف هاجر فعل أبيها، تتساءل "ليه بتعمل كده مدام الناس بتحبك ما تفتح عيادة؟"، لكن يومًا أجابها، أكد أنه لن يفعل أبدًا وأخبرها أن "صنائع المعروف تقي مصارع السوء". أسرت الفتاة الكلمات في نفسها وهي طالبة في المرحلة الإعدادية، حفظتها في كل مكان تقع عينيها عليه، ولم تنتابها الحيرة ثانية إلى الآن. تراه يومياً يخرج إلى الشوارع لتعقيمها، يربكها القلق عليه لكن لا تخبره، أضحت على يقين من كلماته، بأن ما فعله طوال السنوات سيقيه أية أذى خفي يمكن أن يصيبه.
لم يكن الطب عند الدكتور حسين مجرد انتظار للمريض، لكن تطبيق الوقاية هي صمام مهمته على بعد 700 كيلو متر مربع من العاصمة، يجاهد لتغيير العادات الخاطئة، يستقبل مرضى بصديد في الحلق نتيجة فعل ما يسميه البدو بـ "الحبطة"، إذ يقومون بكي الحلق للتداوي، فيما لا يسمع بإعياء أحدهم إلا ويسارع لمعرفة "المرض أصله فين ودخل دهب إزاي" مثلما حدث قبل نحو 6 سنوات.
ذات يوم، ظهرت حالة "حمى تيفود" وهي عدوى تحدث لتلوث غذاء أو ماء، فلم يكذب الطبيب خبرًا؛ بمعاونة مراقبي الصحة العاملين معه بحثوا حتى توصلوا بدقة إلى مصدر المرض كما يقول حسين "التيفود دخل في جركن مياه جاي في أتوبيس من الشرقية من موز مياه ملوث عند محطة شرق الدلتا جنب جامع أبو خليل بالزقازيق"، وكذلك صار شهريًا يحلل منابع المياه ومصادرها في المدينة، للتأكد من سلامتها.
كدورية حراسة يعمل مفتش الصحة. زمام ألف متر مساحة دهب، وامتدادها الجغرافي ما بين سانت كاترين ونويبع وشرم الشيخ هي مسؤوليته "أي مرض يدخل المنطقة دي لازم امنعه وأحوشه عشان ميتنشرش". لا يخلع حسين معطفه الطبي إلا قليلاً، أي مكان يذهب إليه، يتوقع أن يكون أحدهم في انتظاره، حتى لو كان الغرض هو توصيل ابنته هاجر إلى مكان عملها.
على مدار 3 سنوات، يقطع مفتش الصحة 60 كيلو مترًا من دهب إلى وادي أبو النواميس، يرافق ابنته لتتولى التدريس في مدرسة الوادي، بينما يكون له دور هو الآخر؛ يعالج أذان الأطفال المصابة نتيجة ثقب الأمهات لها بالأبر غير الطبية، فيما أوجد الحل "اشترى جهاز مخصوص لخرم الودان وكل ما كان ينزل القاهرة يجيب حلقات طبية ويوديها" مبتسمة تتذكر هاجر.
لا أحد في دهب يجهل الطبيب محمد حسين، عمله وسنوات إقامته جعلته صاحب كلمة مسموعة في أي شأن طبي، قبل أيام وبينما عدد الإصابات في مصر يقترب من كسر حاجز الألف، استشاره الأهالي "نطلع الجبل نتحامى فيه لأحسن المرض يخلص علينا". طمأنهم الطبيب بأن التزامهم بطرق الوقاية التي علمهم إياها تقيهم.
يفعل طبيب دهب أي شيء لحماية مدينته، وسكانها البالغ عددهم نحو 11622 نسمة –وفق آخر تعداد لمركز معلومات المدينة 2012- حتى أنه كاد يمنع ابنه من العودة إلى المنزل بعد توقف الدراسة الجامعية في القاهرة، أخبره أن يمكث مكانه، خشي حسين أن يكون حاملاً للفيروس دون معرفة أو يصاب به في الطريق ثم ينزل دهب وتتسع دائرة المرض، وحينما أصر الابن على الرجوع، استقبله الأب بإجراءات وقائية حتى تأكد من سلامته.
30 مارس المنصرف أنهى حسين عمله كمفتش صحة دهب، أخبره العاملون أنه سيقام له حفل تكريم -بعد انقضاء الأزمة، فقال لهم: "مقدرش أقعد في حفل تكريم لأن ده معناه أني أموت تاني يوم. أنا عايز أفضل معاكم أخدمكم وأساعدكم". انتهى العمل الرسمي للطبيب، لكن مهمته لم تنته، قرر حسين عزل نفسه 14 يومًا داخل منزله، كإجراء احترازي اتقاءًا للعدوى وتفشيها، فإن مرت الأيام بسلام عاد متطوعًا لخدمة الأهالي. يوقن الطبيب أنه لن يخلع عنه رداءه أو يرد مريض في مدينته حتى الرمق الأخير.
فيديو قد يعجبك: