وطنٌ أتلفه المحتل الإسرائيلي.. حين أُصيب "أبو ريالة" بشلل نصفي وخسر ماله لأجل المسكن
كتبت-دعاء الفولي:
كان حاتم أبو ريالة يخرج قبل شروق الشمس يوميا. يطوف عدة مرات حول مداخل قرية العيسوية حيث يعيش، يُصلي ألا يرى جرّافات الاحتلال الإسرائيلي في الأفق، ينتظر لساعتين ثم يعود، موقنا أن منزله نجا -لأجل مسمى- من الهدم.
لا وعود للمحتل؛ يعرف أبو ريالة ذلك. باتت حياة الأب المقدسي سلسلة من الهدم حين رفض إخلاء أرضه عام 1999 بناء على رغبة السلطة الإسرائيلية، فكان العقاب متواليا؛ هدم من البلدية، يعقبه بناء من قبل "أبو ريالة" يستمر لأشهر، ثم هدم ثم بناء ثم هدم.. رحلة تمسك بالأرض دفع أبو ريالة ثمنها غاليا؛ تارة من أمواله وأخرى من جسده، لكنه لم يخضع؛ يلتقط أنفاسه قليلا ثم يدخل ساحة الحرب.
مطلع مارس الماضي استيقظت أسرة أبو ريالة على صوت الجرّافات "بنعرفه كتير.. هو الصوت ياللي نعيش معه أكتر ما بنعيش في سلام" أخرج الأب عائلته أولا ثم لحق بهم ليشاهد منزله يتهدم للمرة الخامسة خلال عشرين عاما، يستعيد الآن تفاصيل تلك الأعوام فيما يعيش بمخزن مساحته 20 مترا "بعد ما صار بيتي تراب".
بدأت القصة مطلع الألفية حين عزم أبو ريالة على الزواج بالمنزل "وقتا كان عُمري 19 عاما فقط.. كنت بحاول تأمين مستقبلي متل أي شاب"، لكن جاء قرار الاحتلال بالهدم "وكانت الحجة بأنه فيش تراخيص رغم إنه معنا أوراق ملكية الأرض وهي مصرح بالبناء عليها"، في تلك الفترة طلبت منه بلدية الاحتلال الرحيل "والسكن بمحل آخر.. لكن أنا رفضت أمشي"، لم يستطع أبو ريالة وقتها الزواج بسبب عدم الاستقرار، فتأخر سبع سنوات قبل إتمام الخطوة.
تقع قرية العيسوية شمال شرق البلدة القديمة للقدس، لها 3 مداخل تحاوطها مستوطنات صهيونية من جانبين، فيما تقبع الجامعة العبرية ومستشفى هداسا ومعسكر لجيش الاحتلال يُسمى "عوفريت" في الجهة الثالثة.
لم تتوقف عمليات الهدم والتنكيل داخل القرية أبدا، ذلك لأن سكانها البالغ عددهم حوالي 12 ألف نسمة يحركون المياه الراكدة دائما؛ تارة بإلقاء حجارة تجاه معسكر الاحتلال، أخرى بإضراب أحد أسراها للفت نظر العالم للقضية، كما حدث مع سامر العيساوي الذي امتنع عن الطعام لحوالي 9 أشهر للحصول على حريته. في العيسوية يخوض الفلسطينيون معارك يومية للمرور من الحاجز المُشيد على مدخل القرية، فيما يحاول بعضهم التمسك ببيته حتى لو كاد أن يكلفه حياته.
يتذكر أبو ريالة مرات الهدم بالتفاصيل "كل مرة كان بينقص مني شيء"، كان 2001 البداية، أعقبه آخر في 2003، ثم 2009، ثم 2013 ثم المرة الأخيرة، لكن عام 2009 كان فاصلا في حياة الأب المقدسي؛ كان وقتها قد خرج من اعتقال تعسفي دام عاما كاملا، حاول لملمة خسائره النفسية والمادية، إلا أن طرقات المحتل الإسرائيلي أفسدت خططه كالعادة.
الرابع من فبراير، منتصف الليل، استيقظت الأسرة على أزيز القوات القادمة لهدم المنزل دون سابق إنذار، رفض أبو ريالة الخروج. كان يائسا. علم أنه سيغادر حتما وإلا سيعرض حياة ابنه وابنته للأذى، لكنه قرر المخاطرة، وقف أمام الجرافات فأطلق الجنود قنابل الغاز المسيل للدموع، أخرج زوجته وطفليه فيما غادر أقاربه بالدور الثاني؛ أما هو فاستمسك بموقفه، هددوه فرفض الخضوع، صعد على سطح المنزل فيما بدأت الجرافات عملها، وفي لحظة سقط من ارتفاع سبعة أمتار وفقد الوعي.
حين استيقظ أدرك أنه بات قعيدا "أُصبت بشلل نصفي بعد انكسار فقرتين في الظهر"، لم يعد المسكن همه الأوحد "بل إعالة أسرتي بصورة جيدة"، فالأب الذي اعتاد العمل سائقا وتاجرا تخلى عن الوظيفة الأولى وحاول الاعتماد على الثانية "لكن كيف بدي اعمل هيك وانا منزلي بينهدم فوق راسي ومضطر أبنيه من جديد".
يعرف ولدا أبو ريالة ما يجري جيدا، حرمهما الاحتلال من مكان تسكن إليه العائلة دون خوف، باتت حياتهما مؤقتة كوالديهما "استغنوا عن إشيا كثيرة من حقهما.. حرمهم الاحتلال من الطمأنينة.. حرمني من اللعب معهما كأي أب.. حرمنا من الخروج والسفر.. ضلينا عايشين هيك سنين في بيت نص تشطيب مشان خايفين ينهدم بأي وقت"، ضاقت الحياة على الأسرة الصغيرة، عجز الأب عن تلبية احتياجات ذويه "هم متفهمين لكن شعور العجز أسوأ إشي بالكون"، ظل يحارب على جبهات عدة؛ بين البحث عن محامين للوقوف في صفه، ومحاولة إصدار التراخيص ثم تعويض الخسارة المادية، التي بلغت خلال آخر عامين حوالي 160 ألف دولار.
وعود كثيرة تلقاها الأب المقدسي بعدم الاقتراب من منزله "آخر مرة قبل الهدم قال لي أحد موظفي البلدية أنه لن يحدث وأن الأوراق سليمة". لم يصمد أي محامي وكّله أبو ريالة أمام السلطات الإسرائيلية التي تُجيز الهدم بأشكال عدة؛ بينها الإداري القائم على موافقة رئيس البلدية على دكّ المنزل لكونه بلا ترخيص، ويكون ذلك القرار مُحصنا ضد المراجعة أو الطعن.
لم ييأس أبو ريالة أبدا من إعادة بناء منزله؛ يقتصد قدر استطاعته، يحرم نفسه من أشياء يريدها "في سبيل إنه لما أبني المنزل نستقر فيه ونشتري اللي نتمناه"، حين ينظر الأب لحياته، يدرك أنه قضى 23 عاما من عُمره الذي لم يتجاوز الثانية وأربعين يقاتل للحصول على حقه، إلا أنه لا يندم؛ لو اُعيدت الكرة لتصدى للاحتلال دائما.
"ما فيه مفر.. إحنا واقعين تحت احتلال.. يا الواحد بيصمد يا إما بدو يستسلم ويهاجر ويترك القرية والبلد"..لا يلوم الأب المقدسي من اضطروا لهدم منازلهم تحت تهديد الاحتلال، تضيق الأرض عليه أو تتسع لكنه لن يلجأ للخيار الثاني مادام حيا. يعرف أن وطنه الحقيقي بين حوائط المنزل؛ هُناك تزوج، أنجب ولديه، هناك اُلتقطت صور عائلته وهناك تعلم أن الدفاع عن الوطن الأصغر واجب مهما بلغت الكُلفة.
فيديو قد يعجبك: