مستوطن يتقاسمهم المنزل.. حكاية عائلة الكرد المقدسية مع التهجير: "باقون ولن نرحل"
كتب-محمود على:
توقف القصف على غزة، ولا يزال حصار حي الشيخ جراح مفروضًا، يواصل أهله نضالهم ضد سلطات الاحتلال، يتجمعون كل ليلة فى حديقة منزل عائلة الكرد، يدرسون التصعيد، بعد القصف الأخير الذي يعتبرونه الأخطر منذ عام 2009، يتمسكون بأرضهم ومنازلهم التي قضوا فيها عمرًا من الصمود والمقاومة ضد عمليات التهجير القسري ومضايقات واعتداءات الاحتلال والمستوطنين "يأخذون بيوتنا التي بنيناها بأيدينا، نحن كنا الشرارة التي أشعلت التصعيد الأخير ولن نتنازل.. هذه الأرض لنا"، يقول الحاج "نبيل الكرد"، من أهالي حي الشيخ جراح المهددين بالتهجير.
منذ العاشر من مايو الجاري، فرضت قوات الاحتلال إغلاقًا على أهالي حي الشيخ جراح، على إثر احتجاجات أهله الفلسطينيين ضد محاولات تهجيرهم. تمنع قوات الاحتلال المؤازرين من التواجد داخل الحي، تفتّش هويات السكان "يعامِلون سكان الحي مثل لعبة البازل، يُخرجوهم منه فردًا فردًا"، يقول نبيل الذي يرى أن "أى مبادرة لا تشمل وقف الاستيطان في الشيخ جراح فاشلة".
في عام 2020، هجرت سلطات الاحتلال، الفلسطينيين من منازلهم بمعدلات قياسية، وأصدرت 12 ألف قرار بوحدات جديدة، حيث يعيش 675 ألف مستوطن بين ما يقرب من 3,1 ملايين فلسطيني، وهو ما يهدد بمواجهات متجددة وفق بيان للأمم المتحدة. الحاج نبيل الكرد من بين الأسر التي تعمل سلطات الاحتلال على طردها من حي الشيخ جراح واستبدالها بمستوطنين يهود، أخذوا منه نصف منزله، وأصبح مجبرًا على الحياة مع مستوطن في منزل واحد "شخص من أسوأ أنواع المستوطنين، أحضرته سلطة الاحتلال لمضايقتي وإجباري على ترك المنزل".
"بنيت البيت وما سكنت فيه" اضطر نبيل لبناء ملحق على جزء من حديقة المنزل مع زيادة عدد الأسرة، لكنه فوجئ مثل جيرانه بظهور مستوطنين يدعون ملكيتهم للأرض، وأنهم بنوا منزل نبيل أيضًا. في كل مرة يدخل الرجل منزله يضطر للمرور علي الجزء الأول من المنزل الذي استولى عليه مستوطن يهودي بحكم محكمة الاحتلال، ليتعرض لسلسلة من المضايقات التي لا تنتهي "احضروا هذا المستوطن حتى نرحل من المنزل وهو آخر شخص من 60 مجموعة سكنت منزلي"، يوضح الرجل الذي يخشى التهجير من منزله للمرة الثالثة.
يخيم الظلام فيرابط شباب الحي في خيمة بحديقة منزل الكرد، خوفًا من هجوم مستوطنين مسلحين أو عمليات اعتقال، يجلس بينهم الحاج نبيل متذكرًا عملية التهجير الأولى من حيفا، عام 1948، ورغم طفولته وقتها، إلا أن مشاهدها لا تزال محفورة في ذاكرته. ففي ظل رياح النكبة التي خيمت على الأوضاع، خيمت أم نبيل على أرض فضاء، وظلت بين خيام "كرم الجاعوني"، ومنها إلى حجرة لا تتعدى مساحتها أربعة أمتار عند أحد الأقارب، حتى اختارتها الحكومة الأردنية لمنحها قطعة أرض ومنزل صغير من الطوب الصخري، بالتعاون مع منظمة "الأونروا"، في حي الشيخ جراح.
عُمر من الصمود
كبر نبيل داخل الحي، قضى فيه نحو 6 عقود من الزمان، أصبح الحي بوصلة الحراك الفلسطيني، فيما أضحى نبيل رمزًا لمقاومة دوران عجلة الاستيطان، مع ابنه محمد وابنته منى، في الحي الذي يؤكد الرجل على أهميته بالنسبة لسلطة الاحتلال كموقع استراتيجي، يبعد فقط عن باب العامود اثنين كيلو مترا، وهو بوابة القدس الشمالية، بينما على اليمين أقرب منطقة للقدس الغربية والمستوطنات الإسرائيلية، كما أنه على مقربة من الجامعة العبرية. علمًا بأن الحي يأتي ضمن 155 تجمعا فلسطينيا يخضع لسيطرة سلطة الاحتلال، تصنفها جميعًا كأحياء "غير معترف بها"، ومهددة بإخلاء السكان بحجة عدم ترخيص المباني ضمن مخطط "التهويد".
خاض نبيل معارك على أصعدة عدة، بدءًا من مقاومة المستوطنين واعتداءات جنود الاحتلال، إلى السفر لتركيا لإثبات ملكية منزله، حيث كانت تخضع المنطقة للقانون العثماني وقت دخول اليهود إليها. وفي عام 1976 استطاع الرجل عن طريق محام يهودي كسب أول جولة في إثبات ملكية أرضه، بعد معركة استمرت نحو 10 سنوات في أروقة المحاكم الإسرائيلية، بدأت حين حيث ظهر مستوطنون يدعون امتلاكهم للأرض بعد رفع الحكومة الأردنية سلطتها عن الحي بعد حرب عام 1967. وفي عام 2008 ظهرت في الحي مستوطنة "شمعون" التي تجمع التبرعات من الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأت الاستيلاء على الحي، لتتجدد محاولات الاستيطان، ويتجدد عزم وصمود نبيل الكرد وأهالي الحي في مواجهة محاولات طردهم من أرضهم.
"بتفاجئ إن قاضي المحكمة الإسرائيلية بيسكر بيتي بالمفتاح وبيقولي هذا البيت مسكر وبتدفع غرامات" ظل نصف المنزل مغلق لمدة تسع سنوات، رغم أن نبيل دفع غرامة 97 ألف شيكل إسرائيلي، حتى تم فتحه في نوفمبر 2009 وإعطائه لمستوطنين إسرائيليين "لكن الحمد لله ظلينا صامدين".
فيما توضح منى، التي تعيش في المنزل رفقة والدها نبيل الكرد وأخيها محمد، أن نصف منزلهم ذهب لمستوطنين شباب، منذ 11 عامًا، وهم من أسوأ أنواع المستوطنين، وليسوا أسرًا، جاء المستوطنون فقط لمضايقة العائلة وإجبارها على ترك الحي "ما بدهم وجود أي مقدسي في الشيخ جراح"، تذكر الشابة.
"أتقاسم منزلي مع محتل مجبرةً"
في شارع كرم الجاعوني، يقع منزل نبيل الكرد، لا تُخطئه العين؛ يحمل الرقم 13 فيما كُتب على مدخله بخط عريض واضح عبارة "لن نرحل"، يمسحها المستوطن الذي يتقاسمهم المدخل ونصف المنزل، فيعود الرجل وأولاده لكتابتها من جديد "اضطرينا لكتابتها 60 مرة" بحسب منى.
استخدمت منى وسائل التواصل الاجتماعي في توصيل رسالة سكان حي الشيخ جراح، وتوثيق ما يتعرضون له "أتقاسم منزلي مع محتل مجبرة. ندافع عن أرضنا بكل ما نملك في وجه سلطات الاحتلال والمستوطنين المسلحين"، تقول الشابة التي تواجه غطرسة ومضايقات المستوطن "يعقوب" الذي قال لها في أحد المرات "أعلم أنه ليس منزلي لكن حتى لو خرجت لن تعودي سيحل محلي مستوطن آخر"، هكذا كان رده على حديث منى معه.
View this post on Instagram
"قوات الاحتلال إيدهم على الزناد"، تتحدث منى عن الحي الذي تحول إلى ثكنة عسكرية، وضعت فيه قوات دولة الاحتلال حواجز أسمنتية، يسمح جنودها فقط للمستوطنين المسلحين بالدخول للحي ليتجمعوا في منزل عائلة الغاوي الذي استولوا عليه عام 2009، مضايقات وإهانات مستمرة يتعرض لها المقدسيون عند الدخول والخروج، الزيارات ممنوعة "احنا خايفين المستوطنين خطيرين وبيريدوا الهجوم على منازلنا وحرقها"، تقول منى، فيما يقول شقيقها محمد ""لا نستطيع أن ننام بأمان".
تضيف منى أن الإسعاف أيضًا تُمنع من الدخول، تخشى الشابة الخروج لشراء الاحتياجات من السوق خشية أن يمنعها جنود الاحتلال من دخول الحي مرة أخرى، مثلما حدث من قبل بحجة أن اسم الشارع ليس مثبت في هويتها، رغم ذكر اسم الحي.
لا تكل عائلة نبيل الكرد عن كشف جرائم الاحتلال والاستيطان، صامدون في وجه عمليات التهجير. قبل أيام شهدت مواقع التواصل الاجتماعي تفاعلاً مع مداخلة لمحمد نبيل الكرد مع شبكة "سي إن إن" الأمريكية، تحدث الشاب بدقة وبلغة إنجليزية يجيدها بطلاقة، عما يتعرض له أبناء حي الشيخ جراح من "تهجير وتطهير عرقي" من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدًا أن المستوطنين "قطعا لم يبنوا أي بيوت في الحي"، ولا يمتلكون أرضًا في حي الشيخ جراح، وما يحدث جرائم حرب، قبل أن يعرج على ما فرضه جنود جيش الاحتلال من وضع أشبه بحظر تجول على سكان الحي، بينما يسمحون للمستوطنين اليهود بالتجول بحرية.
في حديثه، دعا الشاب القرى المجاورة لحي الشيخ جراح بدعمهم، لمواصلة صمودهم في وجه عمليات الاستيطان المستمرة، "هذا الشهر هو موعد إخلاء منزلنا"، مؤكدًا أن قرار وقف إطلاق النار لن يمنع سلطات الاحتلال من مواصلة تهجير أهالي الحي لذلك "نحن مستمرون في تصعيدنا".
أشار محمد الكرد إلى أن أهالي الحي نظموا فعالية السبت الماضي في الحي للتنديد باستمرار الإغلاق، لافتًا إلى أن الاستئناف الحالي أمام المحكمة - التي تعتبر خصمًا- هو المحطة الأخيرة لتسليم نصف منزلهم الذي يعيشون فيه حاليًا، لذلك لا يسعهم سوى مواصلة التصعيد وإيصال رسالتهم لوقف عملية الاستيطان في الحي، رغم أنها لن تضمن لهم سوى نصف منزل، لكنها على الأقل ستمنع أن يفترشون الرصيف ليلا هو وشقيقته ووالده المسن، بعد نحو 50 عامًا من التقاضي في أروقة محاكم الاحتلال والتي كبدتهم في البدء نصف منزلهم.
تهويد ممنهج
678 منزلًا فلسطينيًا هدمت سلطات الاحتلال خلال عام 2019، 40% منهم في القدس، فضلًا عن 48 عملية هدم ذاتي، حيث يُجبر الفلسطينيين على هدم منازلهم بأيديهم، إضافة إلى تعرّض ما يزيد على 110 آلاف فلسطيني للتهجير الداخلي في مختلف أنحاء فلسطين المحتلة خلال العقد المنصرم، في الوقت الذي يعيش نحو 900 ألف فلسطيني في مبان مهددة بالهدم بحجة بنائها دون ترخيص، وفق تقديرات مركز الإحصاءات الفلسطيني.
بيانات منظمة السلام الآن الإسرائيلية توضح أن البؤر الاستيطانية ظهرت بشكل رئيسي في عهد رئاسة وزراء نتنياهو في عام 1996، وتوقفت في عام 2005، وعادت معه مرة أخرى في عام 2012. وحي الشيخ جراح مثال على ذلك؛ 500 فرد مهددون بالطرد يقول محمد إن "اتفاقية مصر أوقفت إطلاق النار لكنها لم توقف الاستيطان".
ورغم ما يتعرض له سكان حي الشيخ جراح من مضايقات وإهانات وتحكيم نفسي، إلا أن محمد يؤكد أنهم شطبوا مصطلح الاستسلام من قاموسهم "نحن باقون ولن نرحل".
فيديو قد يعجبك: