معرض الكتاب بعد الخمسين.. تهديد لأهم معارض الشرق الأوسط
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
-
عرض 11 صورة
- مارينا ميلاد:
- الصور: محمود بكار – نادر نبيل
مرة أخرى، يصطف صغار وشباب وعائلات على أبوابه. البعض يحمل نقودًا في انتظار قطع التذكرة المقدرة بخمسة جنيهات، وآخرون يرفعون هواتفهم وقد حجزوها إلكترونيًا ليفلتوا من الزحام.. وفي أجوائه الشتوية المعتادة، استجاب معرض الكتاب لشغف المهووسين منهم والمتنزهين أيضًا، وأطل مجددًا هذه الأيام من مستقرّه الجديد بالتجمع الخامس، الذي انتقل إليه قبل خمس سنوات.
استقبل هؤلاء بعروضه الفنية؛ أنشطة للأطفال، كافتيريات ومطاعم، ونظارات واقع افتراضي تجعل مرتديها يرون واقعًا مختلفًا حولهم. وما إن يخلعوها؛ يعودون إلى الواقع الحقيقي، الذي زادت فيه أسعار الكتب بنسبة 45%، ليتجاوز متوسط سعر الجديد منها المائة جنيه.
وفي مثل هذه الأيام عام 1969، لكن في يوم مُمطر وأشد برودة، اصطفت الطوابير أيضًا لكن أمام أرض المعارض بمنطقة الجزيرة التي تزينت ولمعت أضواؤها. كان مشهدًا غريبًا على المارين الذين تساءلوا: "ما الذي يحدث هنا اليوم؟"، كذلك على العارفين والمدعوين لتلك الاحتفالية نفسها، ومنهم الأكاديمي فؤاد زكريا، الذي ذكر في مقاله: "ظننت أنني قد أعود بعد دقائق من حيث أتيت وأن الافتتاح قد يؤجل إلى وقت آخر أنسب.. وما إن اقتربت من الأبواب حتى شاهدت ما لم أكن أتوقع".
كان الحدث هو ليلة افتتاح أول معرض كتاب في مصر، الذي بدأ بنحو مائة ناشر على مساحة ألفي متر، وقفوا بجوار طاولات عليها مئات الكتب المختلفة بأسعار تراوحت بين 15 لـ50 قرشًا.
لقد نجحت الاحتفالية وولد معرض الكتاب، الذي كبر وصار خمسينيًا يحاول دومًا أن يقاوم ويستعيد قوته "كواحد من أكبر معارض الكتاب في الشرق الأوسط".. تجاوز تقلبات وأحداثًا أرغمته مرتين فقط على تأجيل موعده السنوي. لكنه يقف في نسخته الحالية مواجهًا ضغوطًا اقتصادية هي الأقوى، تتكاتف معها تكنولوجيا تغري الجمهور كل يوم بما هو أسهل وأوفر. ما يُصعب دورته الـ54 بل وربما يجعلها حاسمة.
صفحة جديدة تُكتب في سيرة المعرض، الذي بلغ عمره الـ54، تحت شعار "على اسم مصر.. معًا: نقرأ، نفكر، نبدع". قرأت هدى بكير (24 عامًا) خبر انطلاقها، لكنها لم تضعه على جدول مواعيدها المستهلك في عملها بأحد البنوك. ويبدو أن ذلك لم يزعجها، فهدى – رغم حبها للقراءة والكتب – لم ترتبط بالمعرض ولم تزره إلا مرات قليلة، إحداهما وهي طفلة.
في المقابل، أعطى المعرض لـشهدي عطية، صاحب الـ43 عامًا، موعدًا ينتظره من العام للأخر طوال 25 عامًا، لم يغب فيها عن المجيء.. ذهب إليه بمفرده، كعادته منذ عام 1998، المرة الأولى للقائهما، والتي لا يزال يتذكرها كلما قصده ووقف في ذلك الطابور المفضل له.
وقتها، كان المعرض شابًا، يخرج علينا من مكانه المألوف بأرض المعارض بمدينة نصر وسط زخم مشروع القراءة للجميع ونشاط المكتبات. سَافر إليه "شهدي"، الطالب بكلية العلوم، من محافظته "الشرقية"، وفي جيبه عشرون جنيهًا. كان هذا المبلغ كافيًا لشراء مجموعة من الكتب لا يتعدى متوسط سعرها خمسين قرش، خاصة الموجودة بجزء سور الأزبكية.
زَحام شديد في ندوة لمفكر فرنسي، لم يستطع معه "شهدي" الدخول إلى القاعة، وشاهدها بشاشات خارجها، ذلك أكثر ما يتذكره. لكن الأكثر جذبًا كان في جناح آخر بالقرب منه، حيث الكتب الإلكترونية التي تظهر لتمثل اختراعًا مذهلًا للزوار.
حَدق الواقفون بأجهزة الكمبيوتر في حالة انبهار، إذ يقرأون عليه لأول مرة قصص أطفال، موسوعات، دوائر معارف، وقواميس. كلها وُضعت على ديسكات وأسطوانات CD، بلغ سعر الواحدة من خمسين حتى مائة جنيه.
تلك النسخة من المعرض كانت مؤشرًا لمعركة أكيدة بين الكتب الإلكترونية والورقية، إلا أن ليلى حميدة (مدير دار الكتب المصرية سابقا) قالت لإحدى الصحف آنذاك: "هذا شيء إيجابي مع انتشار أجهزة الكمبيوتر في البيوت والمدارس، لكن لا أعتقد بأي حال أن يقضي الكتاب الإلكتروني على الورقي، بل سيسيران معًا".
بعد أعوام من ذلك الحديث، لا يزال المعرض صامدًا، لكن يزاحمه ذلك المحتوى الجديد الذي سوق له يومًا. تحولت الأبصار إلى الكتب المنشورة إلكترونيًا، ثم توسع مجالها أكثر فأكثر ودخلت عشرات المنصات الإلكترونية المتخصصة السوق، والتي تعلن إحداها وهي منصة "أبجد" عن اشتراك مليون ونصف المليون قارئ عربي بها.
وزاد المسألة إغراءً، ظهور جهاز قارئ الكتب الإلكترونية "كيندل" المقدم من شركة أمازون، والذي يوفر لمشتريه إمكانية تحميل مئات الكتب بعضها مجانًا وبعضها مدفوعة، بل ويعطيهم إحساساً شبيهاً للكتب الورقية؛ لذا كان وسيلة إنقاذ لهدى بكير، التي أصبحت تعتمد عليه في قراءة الكتب والروايات المفضلة لها بعيدًا عن المواقع وصيغة "”pdf المرهقة لعينيها، فكما تقول، "كان حلًا أسهل وأوفر كثيرًا".
ورغم أن شهدي عطية يعمل مبرمجًا للكمبيوتر، لكنه لا يفضل القراءة "أونلاين" بأي حال من الأحوال. يميل إلى الوقوف هكذا في طابور المعرض مثل كل عام، فيقول: "تربيت على الورق وأن اشتري كتابًا لاحتفظ به في مكتبتي، لا أن أقرأه مره وانتهى الأمر".
وأمام جمهور يتفرق بين "هدى" و"شهدي"، لا خيار لدور النشر سوى العمل على جبهتين، بالنشر التقليدي والإلكتروني. وقد اتبعت دار الشروق ذلك الاتجاه مبكرًا. فيقول أحمد بدير (مدير الدار): "نحن لسنا تجار ورق.. فنريد أن نصل بأي طريقة وأي منفذ".
لازمت "الشروق" المعرض في جميع مراحل حياته. حين بدأ صغيرًا يشارك فيه بضع دول أجنبية فقط بجانب المصريين، إلى أن نضج في منتصف الثمانينات، وقت عرفته الصحف باسم "أوكازيون الكتب"، ووصل عدد كتبه إلى 15 مليونًا، وتخطى عدد زواره الـ50 ألفًا في اليوم الواحد.
كانت أصداؤه عالية، والحركة داخله أشبه بـ"خلية النحل"، حيث زادت أنشطته وندواته التي أتت بكبار الكتاب مرة بعد مرة. قفزت إلى صدارة مبيعاته الكتب الفنية والأدبية وسلاسل روائع الأدب العالمي التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب، تلاها الكتب الدينية.
ثم تبدلت اهتمامات زائروه في التسعينات قليلا؛ فباع الكتب الدينية في المقدمة كما أنها ملأت أرفف أجنحته أيضًا، ومن بعدها كتب الأطفال والمغامرات والطبيخ، وفي الأخير كانت الكتب السياسية والأدبية والفكرية- بحسب ما نشرته الصحف آنذاك - مع الأخذ في الاعتبار، شرائط الكاسيت التي جذبت الكثيرون ناحيتها واختفت الآن تمامًا.
في نهاية تلك السنوات، بات شهدي عطية صديقًا دائمًا للمعرض وسار معه تغيراته حتى الألفينات، حين زاد المعرض صخبًا وازدحامًا وكثرت مشاكله التنظيمية. فظهرت محاولات تحسين مظهره بمنع انتشار الباعة الجائلين وتوفير كافتيريات نظيفة.
رغم كل هذا، ظل "شهدي" يرى مميزاته وسط تفاصيل يغلبها العشوائية، فكان يكفيه أن يتابع مشاهد تهافت الناس على الشراء من الجناحات المخفضة وسور الأزبكية، كما يحكي، وأنهم يخرجوا مُحملين بكتب السنة.
أخذ المعرض زواره إلى أرض أخرى، أكثر بُعدًا، لكنها أكثر اتساعًا وخدمات ونظافة. دخل مرحلة جديدة في حياته، تضاربت فيها الأرقام عن نسب القراءة في مصر، وتاه المزاج العام بين تفضيلات كثيرة، غلب عليها الروايات الحديثة والكتب المخاطبة الأصغر سنًا، والتي انتزعت ذلك المصطلح الحديث "البيست سيلر"، الذي يراه متخصصون في مجال النشر: "ليس دقيقًا ولا يعد مؤشرًا على شيء".
لا يهم "شهدي" في كل ذلك، سوى الصورة التي فقدها المعرض في سنواته الأخيرة أو ربما "روحه" أيضًا، فيقول: "أصبحت أشعر أنه صار نزهة للتصوير وتناول الطعام أكثر منه لشراء الكتب، وربما الظروف الاقتصادية وعدم الاهتمام بالقراءة عاملا أساسيًا".
في حين تُعجب هدى بكير بالمكان الأنيق اللامع ومنافذه الحديثة، المكان الذي جعلها تستمتع إن لم تشترِ. فستمر، كما تحكي، بين الأجنحة لتقلب في الأغلفة الجديدة وترى أفضل الترشيحات والأكثر مبيعًا.
ارتفاع أسعار الكتب بنسبة 45%، وفقًا لأحدث أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يرسم ملامح مرحلة أخرى صعبة يمر بها المعرض. تضغط على أمثال "شهدي" من محبي الكتب. فبعدما كانت يداه الاثنتان تمتلئان بحقائب الكتب في نسخ المعرض السابقة، يتمنى الآن لو استطاع شراء كتابين أو ثلاثة.
الكتب الحاضرة في المعرض تواكب زيادة أسعار كل شئ خلال الفترات الماضية بعدما انخفضت قيمة الجنيه مرات متتالية أمام الدولار، وتجاوز التضخم الـ20%، وفقًا للأرقام الرسمية. ما جعل "شهدي" يتخلى عن شرائه الكتب شهريًا أو يكتفي أحيانًا بشراء كتاب واحد.
خلقت تلك الزيادة أجواء مُغايرة بين أرجاء المعرض. يجوبه "شهدي" بملامح حائرة هذه المره، وأناس بجواره لم يلتفوا لمحتوى الكتب بقدر أسعارها، التي تمثل انعكاسًا طبيعيًا لزيادة أسعار الورق، الأحبار، الطباعة بكل مستلزماتها المستوردة من الخارج.
فمثلا، تستهلك دار مثل "مُعجم" 4 – 5 أطنان من الورق سنويًا، وتفاجأ أحمد فتحي (مؤسسها) بزيادة سعر الطن من 14 ألف جنيه إلى 60 ألف جنيه، ما اضطره إلى تقليل عدد إصداراته من 20 إلى 3 فقط هذا العام.
اختلت ميزانية "معجم" وغيره، فلم يتمكنوا من المشاركة وأخذ مكانهم في نسخة المعرض الحالية لعدم قدرتهم على سداد إيجار مساحاته التي توفرها الهيئة العام للكتاب بسعر 1260 جنيهًا للمتر، مع الأخذ في الاعتبار أن مساحة أي جناح لا تقل عن 9 أمتار.
بالنسبة لهؤلاء، لا يقتصر أمر المعرض معهم على الإيجار فقط، فيكلفهم مصاريف العمالة والتشغيل والشحن لنحو أسبوعين، وهو ما صار عبئًا على ناشر لا يضمن مبيعاته؛ لذا اتجه مؤسس دار "معجم" إلى أن يتفق مع دار أخرى لتعرض كتبه في جناحها، وهو ما جرى بينه ودار "المصري".
يقول "فتحي": "شيء سخيف ألا أكون موجوداً بجوار عملي، لكنه وضع إستثنائي وقد قبلنا به".
كان حلًا معقولًا نسبيًا لـه حتى لا يخسر كل شيء. لكنه تمنى لو لم يلجأ له، ودعمت الدولة الناشرين كغيرهم من أصحاب المهن والصناعات الأخرى، وأن تكون المبادرات فعالة، فكما يحكي، قرر اتحاد الناشرين تخفيض أسعار الطباعة قبل أيام من بدء المعرض، بعدما انتهت كل الدور من طباعة إصدراتها.
سيفقد المعرض أيضًا وجود دار "ميريت" لأول مرة منذ 25 عامًا بسبب تعثرها ماديًا وتراكم مديونياتها من الإيجارات المتأخرة عن المشاركات السابقة فيه.
لا يُظهر محمد هاشم (مؤسس ميريت) انزعاجه، يقول "إنه عام ويمر". يبدو في ذلك مثل المعرض تمامًا، يمر عليه أيام سوداء وقاسية ويحاول أن يقاوم ويستمر. لكنه في الوقت نفسه يرى أن "الخناق يضيق على كل الناشرين وليست ميريت فقط". ذلك رغم أن مصر كانت الأكثر نشاطًا بمجال نشر الكتب عربيًا قبل جائحة كورونا، بحسب دراسة أصدرها اتحاد الناشرين العرب؛ إذ نشرت في 23000 عنوان في عام 2019.
أما من سلك من الناشرين طريقه إلى المعرض، فأطلق عروضًا وخصومات في محاولات لإغراء المارين. منهم دار العربى للنشر، التي قدمت مبادرة "القديم لم يرفع سعره"، وتضم 100 عنوان بأسعار مناسبة. على الناحية الأخرى، أعلن اتحاد الناشرين المصريين، لأول مرة اتفاقه على توفير ماكينات فيزا للناشرين مع إمكانية التقسيط للعميل حتى 9 أشهر بنسبة خصم لصالح البنك تبلغ 1.5% من المبيعات.
فصل ليس كغيره يعيشه المعرض الذي قارب على الستين. يمضي فيه متحايلا على الأسعار وسائرًا في حضرة التكنولوجيا. فاستخدم تقنية الهولوجرام للكاتب يحيى حقي في عرض تفاعلي مع الجمهور العام الماضي، ثم وضع جولة إفتراضية لأجنحته على موقعه الإلكتروني، كما أطلق مركز معلومات مجلس الوزراء جولة افتراضية داخل جناحه تُمكن المشاركين الاطلاع على إصداراته.
سبقه معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، الذي بدأ 1949، عندما فعل نسخة غير معتادة قبل ثلاثة أعوام؛ وأقيم رقميًا على شبكة الإنترنت بصورة كاملة، وفي نسخته التي تلتها، زاره 70 ألف شخص، في مقابل 130 ألفا دخلوا على فعالياته عبر العالم الافتراضي.
في هذا الفصل، يحاول شهدي عطية أن يقرب ابناه (10 – 12 سنوات) إلى المعرض مثلما كان مرافقا له دائمًا. يسحبهما قليلا نحو قراءة القصص الورقية، وفي أحيان أخرى يلجأ إلى "الإلكترونية" لقربها منهما.
يحضر "شهدي" هذه المرة المعرض ليس كزائر فقط، إنما ككاتب. سيرى اسمه بين زوايا المعرض على كتاب "حدث في شارع الصحافة"، وهو نتاج جمعه المقالات والصحف القديمة، المحتوى الذي يراه "تاريخًا موازيًا". لكنه "كان يتمنى أن يُنشر في ظروف أفضل بالمعرض"، حسبما يقول.
لكن أحمد بدير (مدير عام دار الشروق) يراهن على ما يسميه "شهية القارئ حتى في هذه الظروف الصعبة".
يقف "بدير" بجانب كتبه، وبجواره لافتة "أقل من 50 جنيه" في إشارة للكتب القديمة منخفضة السعر. لا يبدِ قلقًا من منافسة الكتب الإلكترونية لها، لأن نسبة نشرها لا زالت ضئيلة، غير أن تجارب أوروبا وأمريكا تُظهر أن "الورقي" بإمكانه أن يظل قويًا.
اقرأ أيضا:
3 سنوات على متن "لوجوس هوب": رحلة متطوع من الإكوادور إلى بورسعيد
فيديو قد يعجبك: