"عيدا سعيدا يا شوارع الدم"

أُحاول أن أبحث في طفولتي عمّا يُعينني على كهولتي. بعد أن تبلغ الخمسين، تكتشف أنك تتذكَّر أكْثر مما تحلم. تغالبك جبال الذكريات تلك، وتزحف على عقلك، فتترك في روحك حنينًا كالثعابين العاصرة. وليس عليك إلا أن ترضى بأنَّ قليلَ مستقبلك كثيرٌ، وكثير ماضيك قليلٌ. ولكن الرضا شعورٌ مراوغ، ما إنْ تظنّ أنك بلغته، حتى يتبيَّن لكَ أنه سراب، وأنَّ الطريق إليه طويل.

تحضرني الآن شوارع مدينة طما، المدينة التي ولدْتُ وعِشتُ فيها طفولتي، ولم أكن أعتقد أنني أُحبها تلك المحبة. أتذكَّر تلك الأيام التي تسبق عيد الأضحى، وأرى مشاهد الخرفان والأبقار والجواميس، التي تأكل في آخر زادها، وتعزف بأصواتها أغنية أخيرة قبل الذبح. كنا أطفالًا نداعبها من بعيد بخليط من الدهشة والخوف، فتنشأ علاقة ما، لا أستطيع أن أحددها بيننا وتلك الحيوانات التي لا يتبقى منها، بعد تلك العلاقة القصيرة، سوى دمها الذي يسيل، ويتخثر، لأيام على الأسفلت.

كم كرهت الدم! 

بعد أن رأيت دجاجة تجري مقطوعة الرأس فوق سطح بيتنا، بعد أن ذبحتها أمي، قررت ألا أرى هذا المشهد أبدًا. يمكنك أن تقول إنني أُصبت بعقدة الدم، وأنا أؤكد لك أنني لم أُشف منها إلى الآن. وفي تلك الأيام التي تسبق عيد الأضحى من كل عام، تتجدد عندي أعراض عقدة الدم، فلا أغادر البيت حتى تعود الشوارع الحمراء إلى طبيعتها، و”الوجود إلى دورته الدائرة”، كما يقول أمل دنقل. ليس وحده مشهد الدجاجة التي ترقص مذبوحة من الألم، وتدفعها حلاوة الروح إلى محاولة الطيران ثم السقوط، إلى أن تتكوم قتيلةً على الأرض، ليس هذا المشهد وحده، لكن الذبائح كلَّها تثير فيّ نوعًا من الخوف والغثيان. رأيتهم يطاردون عجلًا، ربَّما أدرك مصيره، ويسقطونه أرضًا، ثم يقيدونه، وتغوص السكين في رقبته، فينفجر شلالٌ من الدم، وسط تهليل أطفال كثيرين لم أكن بينهم، فجريت إلى البيت، وقررت ألّا آكل اللحم لسنوات.

لسنوات، تخيلت أن عفاريت العجول ستظهر لنا، ونحن نلعب في شوارع البلدة في الليل، واندهشت من عدم وجود حكايات عن عفاريت الحيوانات التي نذبحها، كتلك الحكايات عن الذين قُتلوا في عمليات ثأر في بلدتنا. كنا نعرف أسماء القتلى وأماكن قتلهم ومواعيد ظهور عفاريتهم والهيئة التي يظهرون عليها، ونمر منها فيقف شعر رؤوسنا، وتقشعر أبداننا، لكن أحدا منّا لم ير عفريتا واحدا في حياته. وبقيت في ذاكرتي دائما حكايات الثأر، وأصوات طلقات الرصاص، التي علمتنا أن نختبئ في أقرب بيت بمجرد سماعها. وما زلت، إلى الآن، أعاني من “الخضة” كلما سمعت صوت رصاصة أو صوت انفجار، حتى أن الألعاب النارية لا تثير فيّ أيَّ نوع من البهجة. وأتذكَّر من حين لآخر أستاذي في المرحلة الابتدائية، الذي نظر من النافذة، فاخترقت رصاصة رقبته، ولم نذهب إليه في الأسبوع التالي، في موعد الدرس الخصوصي. 

أريد دائما أن أتمنى للجميع عيدًا سعيدًا، وأن أقول لهم: “كل عام أنتم بخير”، ولكنني لا أستطيع أن أتغلب على عقدة الدم التي تصيبني في مثل هذا الوقت من كل عام. تمنيت لو كنت مثل هؤلاء الذين يغمسون أكفهم في الدم، ويطبعونها على الجدران كذكرى، تمنيت أن أكون مثلهم لأكون منهم، ولكنني لا أستطيع أن أغالب خوفي من عفاريت الذبائح، وحزني على أمهات الذبائح أو أبنائها. وكثيرا ما فكَّرتُ لو أن هناك أماكن بعيدة يتجمع فيها الذين يهوون الذبح، ليبتعدوا عن أرواح الأطفال على الأقل، فلا تعتاد عيونهم مشهد الدم المتفجر من الرقاب. أليس هو المشهد نفسه الذي يؤدِّيه “داعش”، ولكن مع رقاب البشر؟