لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

حوار الأديان لم يبدأ سياسيًا بل بدأ فكريًا مدنيًا! من القديم إلى الحديث

د. هاني نسيره

حوار الأديان لم يبدأ سياسيًا بل بدأ فكريًا مدنيًا! من القديم إلى الحديث

د. هاني نسيره
06:53 م الجمعة 10 مارس 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أحاول في هذا المقال الإجابة على سؤال مهم وجوهري طرحه علي. صديق عزيز ومفكر مرموق، وهو لماذا أتت الدعوة لحوار الأديان من السياسيين بينما أنكرها الفقهاء أو كان التحاقهم بها تاليا لدعوة السياسي؟ وهنا أسمح لنفسي بالاختلاف فأنا أرى أن دعوة حوار الأديان غير الرسمية والنخبوية أقدم من اهتمام الساسة بها في العصر القديم أو الحديث، أولا لكون فكرة الآخر الديني والمذهبي فكرة كامنة وثابتة ومثيرة للحوار والتساؤل، عن الصحة والخطأ وعن الإيمان والكفر، وعن المؤتلف والمختلف بين دين وآخر، خاصة من الأديان الإبراهيمية الثلاث، أو داخل كل منها بين طوائفها ومذاهبها، فالحوار مع الآخر هو في الأصل نتيجة سؤال هوية تخرج من القوة إلى الفعل، لتتمايز عن آخريها، وقد أخذ شكل المناظرات أحيانا، ومن هنا نشأ علم المناظرة كما يذكر ابن خلدون وحاجي خليفة، سواء بين أهل الدين الواحد أو بين أهل الأديان المختلفة، أو بين الدين من جهة والزنادقة والملحدين منكري النبوة من جهة أخرى.
نرى أن البداية كانت نخبوية في العصر الإسلامي، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم الذي مارس الحوار والمناظرة مع أهل نجران وغيرهم، ثم عبر حراس الدين وممثليه والمجتهدين فيه كذلك، أحيانا بدافع معرفي حواري، وأحيانا بدافع انتصاري، يقوم به ممثل دين ما ضد ممثل آخر، فيما يشبه مقارنة الأديان ونقدها بعضها بعضا، تصويبا وتخطئة وتشويشا أحيانا، ويمكننا أن نجد ذلك مثلا في الجدل الذي آثاره يوحنا الدمشقي، منصور بن سرجون ت 101 هجرية في كتابه المعروف "الهرطقة المئة" والذي كان وراء أفكار مثل خلق القرآن ومسألة كلام الله، قديما أم مخلوقا، ومسألة القدر، وقيل إن جهم بن صفون رأس الجهمية والجعد بن درهم كان يحضرون إليه ويسمعون منه في دير سابا على سبيل الحوار والجدل بين الأديان المختلفة، ولكن لا تنفي هذه الانتصارية الاحترام والاعتبار، فكل منها كان متحققا، فالإسلام قد تحقق انتشارا وانتصارا، والمسيحية واليهودية كانتا متحققتين وتاريخيتين، وقد تجسد هذا الجدل في كتابات يوسف بن عدي ومتى بن يونس وأبن العسال وغيرهم، وربما قبلهم ما سمعناه عن محاورات ومناظرات الإمام على الرضا- الثامن عند الاثنى عشرية- توفي سنة 203 هجرية، مع أهل الأديان الأخرى في حضرة المأمون كل ثلاثاء كما يروي المسعودي في تاريخه.
ربما لم يحضر الدفع السياسي القديم لمثل هذا الحوار الثري، ولا أقول تسييسا، إلا مع الخلفاء العباسيين والقياصرة البيزنطيين، استمتاعا بالحوار والمنافحة والمدافعة، وأحيانا رغبة في المعرفة والتعرف، شهدنا الانتصارية فيما كتبه كل من يحيى بن عديّ (ت. 974م) وعيسى بن زُرْعة (ت. 1008م) وشهدنا الحوارية المعرفية التي تنتهي بابتسامة احترام في حوار طيموثاوس الجاثليق بطريرك الموصل مع الخليفة المهدي (توفي سنة 167 هجرية)، الذي كان نديما له، وفي حوارات بولس البوشي وفرانسيس الإسبيزي مع الملك الكامل الأيوبي والباقلاني الأشعري مع الإمبراطور الروماني في زمنه.
بل لا نبالغ إذا قلنا إنه مع الوقت صار الجدل حوارا ينافح كل دين عن دينه خاصة في مجال الاعتقاد، بغريزة الاكتشاف والتعرف، وليس القهر أو الكسر أو الانتصار، تمكينا للتعايش الطبيعي القائم، وان لم يبلغ سقفه في أهدافه ما نسمعه الآن عن تحقيق السلام أو ما شابه من مفاهيم حديثة، وكانت تلك الحوارات العباسية تضم غير الأديان السماوية من الصابئة، وكان يمثلهم بنو قرة المشهورون، وغيرهم.
حديثا كان الأمر مختلفا، ولم تكن سياسية أيضا بل كانت حداثية، تحاول الإجابة على الحداثة وأزماتها وأسئلتها، وكذلك علمية نتيجة صحوة الاستشراق، بغض النظر عن ارتباطه بعض ممثليه المحتمل- وليس كلهم- بالإمبريالية أو التبشير، فكثير ما كان هذا التعرف والاكتشاف جسرا نحو العبور للجهة الأخرى أو التحول عن الموضع الأول.
كان صعود الاستشراق في القرن الثامن عشر، الذي عرف في آواخره عام 1893 أول مؤتمر لأديان العالم، ثم مؤتمر حوار الأديان سنة 1932 والذي كان مؤتمرا سنويا، استمرت دوراته حتى سنة 1964 ميلادية، ورغم بعض الدعوات الحالمة من بعض قليل بتوحيدها، إلا أن التوصية الثابتة لجميعها كانت التمكين للقواسم المشتركة والمشترك الديني بينهم، وأهمية التعايش والسلام بين أصحاب الأديان، وقد طرح في ثلاثينياته الشيخ أمين الخولي كتابه المشهور "صلة الإسلام بالمسيحية" وكان حوارا علميا بين المختصين في الدراسات الدينية، وسعيا للتبادل العلمي والفكري والمنهجي، والتمكين لحقل الدراسات الدينية التي نشطت في هذه العقود.
من هذه المؤتمرات كانت ولادة حوار الأديان وفكرة دورها في تعزيز السلام العالمي، وتحولت مع الفواصل والأحداث الصراعية للاهتمامات الوطنية والدولية، وتبنتها الأمم المتحدة، التي جعلت الأسبوع الأول من شهر فبراير أسبوعا للوئام بين الأديان في ي قرارها رقم 65/5 الذي اتخذ في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2010.
ثم توسع الاهتمام بالحوار لنسمع عن حوار الحضارات في مقابل صراعها الذي صعد بعد الحرب الباردة، وصدرت إعلانات دولية للتسامح وثقافة السلام وتحديد أيام عالمية لها، وهو التطور والاستجابة الطبيعية لفكرة الحوار الذي بدأ فرديا ونخبويا ومدنيا بعيدا عن السياسة في بدايته، ورد فعل على صحوة الأصوليات والشعبويات اليمينية التي تمارس التمييز ضد ألآخر الديني.
الخلاصة أن مسألة حوار الأديان لم تكن سياسية في أصلها، وإن دفعها الساسة أحيانا، وليست حديثة، بل قديمة قدم الأديان والمذاهب نفسها، منذ عصر بطليموس وكتابة التوراة السبعينية في القرن الثالث قبل الميلادي، حتى عهد قسطنطين ومجمع خلقدونية سنة 451 ميلادية، بل مدنية إنسانية ومعرفية، تطورت لعلمية ثم مسألة دولية في العصر الحديث.
فقد تبنتها الأمم المتحدة وأعضاؤها من الدول الحديثة، التي تركز على دور الدين في حفظ السلام ورعايته، والتمكين للقواسم المشتركة، وثقافة التعايش ورفض التمييز، هذا في طابعه الرسمي الغالب الآن وله طابع آخر يأخذ جوانبه الأخرى الانتصارية القديمة أ والمعرفية والتشابكية في القراءة الأفقية للأديان في مسائل معينة، وربما يتجاوزه مع أزمة ما بعد الحداثة والثورة المعلوماتية لما هو بعده، حيث يتشكل التدين الافتراضي ويزيد الطلب والسؤال على فلسفة الدين وروحيته، وهو ما صار جزءا من حوار الأديان وأفراده أيضا في هذا العصر.

إعلان

إعلان

إعلان