''رجب''.. من صحفي لــ''بياع جرايد''
كتبت- دعاء الفولي:
عائدا من المدرسة كان يُحضر الجريدة، يشتريها بمصروف يجمع قروشه القليلة، يلعب الصغار في الشارع، بينما يجلس هو على كرسيه المُتحرك يقرأ، بعد زمن أدرك أنه لن يلعب يوما معهم، كَبُر الصغير، وكذا أحلامه، لازمته القراءة، جذبته ليتوحد مع ما يقرأ، أراد حينها شيئا واحدا، أن يُصبح صحفيا، بين الأمنية وتحقيقها مرت الظروف لُتجبره أن يعمل في النهاية ''بياع جرايد''.
كان المبنى المستدير يُلقي ظلاله على المكان، يُكسبْه بهجة رغم تغير المعالم، بجانبه افترش ''رجب'' الجرائد والمجلات التي يبيعها منذ عشرات السنين، سبيل وكُتّاب السلطان ''أغاخان'' خلفه، ومسجد السيدة زينب أمامه في الجهة المقابلة من الشارع، علاقته بمنطقة السيدة كسمك وماء، هنا مولده، كان فيها منذ تسع وثلاثين عاما، وعنها رحل في أواخر عشرينياته، ثم عاد لها ''لو مصر أم الدنيا على مستوى الدول.. السيدة زينب أم المناطق''.
''انا كان نفسي أبقى صحفي بس بقيت بتاع جرايد'' قالها ''رجب'' بسخرية مريرة، لا يعتقد أن بيع الجرائد سيء، لكن دراسته بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم الفلسفة، أعطته أملا بالعمل في الصحافة، أما الشارع فالعمل فيه لم يكن مشكلة ''انا الحمد لله رغم أي حاجة بشتغل وأنا في 3 إعدادي في البيع والشراء''، من بائع للحلوى، ثم الأقلام، والجرائد ''بحب المهنة ومقدرش أسيبها حتى لو سوقها مبقاش زي الأول''، تركه للجرائد يُفقْده التواصل مع ما يحب ومع الناس الذين عرفوه.
مرّ رجل، تفحص الجرائد سريعا، اختار المفضلة لديه، ألقى السلام على ''رجب''، ناداه باسمه، سأله عن الأحوال، ورحل ''أنا بحب اتكلم مع الناس''، تلك شيمة الرجل الثلاثيني، لا يستطيع السكوت عنها حتى وإن جلبت له متاعب متعلقة باختلاف وجهات النظر ''اللي قاعد في الشارع لازم يتكلم مع الناس كده كده.. وده عهد أخدته على نفسي''، كوسيط بين ما يقرأ وما يسمع من الناس كان ''رجب''، يحاول نقل الصورة الكاملة قدر المستطاع ''انا بقرأ كل الجرايد تقريبا.. بس فيه جريدة مُفضلة بحبها عن غيرها''.
من القراءة يكون العقل، هكذا يرى، وكنتيجة أحوال البلد بشكل عام لا تُرضيه، يسمع كثيرا من الناس، بين ما يُعجبه ومالا يفعل ''الناس بتقول وقت مبارك كان فيه افترا بس كنا عايشين..طب دة اسمه كلام؟''، لم يستفد -على حد تعبيره- من نظام مبارك بشيء ''رجالة الحزب الوطني مكانوش بييجوا هنا إلا وقت الانتخابات.. وكانوا بيدوا اللي هينتخبهم بس''.
دستور عام 2012 وتعديلاته في 2014، لم يكونا على مستوى توقعاته بالنسبة لحقوق المعاقين ''الدستور بيجيب كلام عام.. مفيش حاجات جازمة تلزم الدولة''، فترة صمْت قليلة أستنزفها ''رجب''، قبل أن يحكي عما يُلاقيه كمعوق ''مرة قدمت في وزارة التموين الموظف قالي احنا مش قادرين نشغّل الناس السليمة.. هنشغلك إزاي؟''، ومواقف أخرى لا تبرح خياله ''عملنا قبل الثورة مظاهرة عشان ناخد شُقق، ادونا شُقق في النهضة من غير تشطيب ولا أي حاجة.. وفي الآخر عشت في صفط اللبن شوية قبل ما أرجع السيدة''، ملخصا تعامل الدولة معه ''حقوق المعاقين مش هتيجي في البلد دي خلاص''.
بينما كان ''رجب'' صغيرا تعود الوالدان أن يتركاه وإخوته الستة في الشارع لجانب ترزي صديق في المنطقة، كانت الشوارع براحا و''السيدة زينب'' صاخبة بعقلانية، شعبيتها دافئة، السبيل الذي يجلس بجانبه الآن، كان يحفظ فيه القرآن الكريم على يد الشيخ ''محمد عبد العليم''، يحفظ تاريخه منذ أنشئ، يعرف جيدا أن المنطقة كان اسمها ''قنطرة السباع''، ''بس مع الوقت السيدة بقت مشوهة شوية.. علاقات الناس مبقتش حلوة زي الأول''، لا يستطيع أن يترك أولاده الثلاثة، ''آدم''، ''رقية'' و''بلال'' وحدهم في الشارع، كما فعل أبيه من قبل.
يمر بجانب ''رجب'' شخصيات سياسية وإعلامية مشهورة، ''اصل هنا في محلات أكل معروفة كتير.. وصحفيين كتير بيعدوا بتكلم معاهم وساعات ممثلين''، كثيرون سقطوا في نظره، لاحظ تغيرا في أفعالهم حد التناقض، أكثرهم من الإعلاميين ''أنا أخدت أقلام في ناس كتير الفترة اللي فاتت''، مقابل من خرجوا من دائرة اهتمامه، هناك من لم يبرحوها، تركوا أثرهم فيه ''فيه ناس لسة كويسة.. منهم بلال فضل''، متابعته للكاتب ''بلال فضل''، كانت أحد أسباب تسمية ابنه الصغير ذات الأربع أعوام على نفس الاسم ''من الممثلين بحب أحمد عز، عدى هنا قبل كدة وسلم عليا وكان كويس معايا جدا.. البني آدم المحترم بيبان''.
إن كانت الثورة تبدأ من إصلاح الأشياء الصغيرة المُحيطة، فقد فعل ''رجب'' ذلك حرفيا، تزامنا مع وقت ثورة يناير 2011، كان بمنزل أقاربه عندما شاهد الخطاب الأخير للرئيس المخلوع ''محمد حسني مبارك''، وحين قال آل البيت إن إعطاء الفرصة له أمر واجب ''زعقت فيهم وقلت حرام عليكوا متصدقوهوش''، روحه كانت في ميدان التحرير، يتواصل مع أصدقائه المتواجدين هناك ''فاكر لما واحد صاحبي قالي في التليفون إن حد مات قدامه''، أما منطقته السيدة زينب، كانت تحت حمايته وأهل المنطقة، استغل الفرْصة وقتها ليثور، ''كنت بكلمهم عن أخبار ميدان التحرير وأحكيلهم إن الإعلام بيقول حاجات غلط، وعن صحابي اللي هناك''، وبعد سنين من الجلوس سويا انقسم الناس لِفرق، كل حزب برأيهم فرحون ''بس انا رأيي إن لسة الثورة محققتش حاجة من اللي قامت عشانها.. حق الشهداء مجاش''، لذلك قرر النزول في ذكراها الثالثة، دون علم بمكان مُحدد لإحياء الذكرى بعد.
كان ذلك منذ خمسة عشر عاما، عندما رقّ القلب، قبل الزواج عرِفها ''رجب'' لعدة أعوام، ثم اختارها رفيقة للدرب، ''دعاء مراتي مُعاقة هي كمان''، كان اختياره عن قصد، خاف أن يُعايره أحد بإعاقته، ''قلت نبقى زي بعض.. نحس ببعض أكتر وفي نفس الوقت هي إعاقتها أقل مني''.
استيقظ الصغير من النوم يوما؛ سأل والدته، لماذا لا يهرول كالبقية؟، لم يكن هناك رد، عرفه بعد ما بلغ أشده ''وانا صغير جالي شلل أطفال، دة كان مرض السبعينات.. ومع الجهل الطبي وقتها حصل شلل في الجزء الأسفل من الجسم''، تأقلم ''رجب'' مع الوضع ''الإعاقة عمرها ما منعتني أشتغل أو أنتج''، لعل ذلك ما آلمه في عدم حصوله على عمل حكومي حتى الآن ''أيه الفرق بيني وبين أي واحد سليم؟''. حال الزوجة لا تختلف كثيرا عنه ''عندها بتر في رجليها اليمين، كان الموضوع حادثة، لكن الدكتور عالج الرجل غلط، وحصلت غرغرينا''.
كما تربّى، يريد أن يُربي أولاده، الاطلاع أمرا يحاول زرعه فيهم ''بخليهم يقرأو واحكيلهم عن التاريخ.. نفسي في تعليم كويس وعلاج كويس ليهم''، لديه يقين تام أن العلم سيجعلهم مواطنين صالحين ''مش عايز حاجة لنفسي أزيد من حقي.. المعاقين برة مش بيتعمل فيهم اللي بيتعمل فينا.. مش بيتشغلوا في الشارع''، ينتظر ''رجب'' عمل أكرم ''انا مش عايز الدولة تصرف عليا.. هشتغل بنفسي بس عايز مقابل مُحترم''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: