إعلان

بالصور- حكاية من مهدّوا خط بارليف تحت أقدام الجيش

02:58 م الأحد 01 نوفمبر 2015

كتب- محمد مهدي:

تصوير- محمد عبدالوهاب السهيتي:

مضت 3 أعوام على النكسة المُرة، رئيس جديد للبلاد منذ أشهر قليلة بعد وفاة جمال عبدالناصر، مانشيتات الصحف تطالب بالحرب واستعادة الكرامة المهدرة، العدو على الضفة الشرقية من قناة السويس يحصن نفسه بساتر ترابي ارتفاعه نحو 22 مترا، الترقب والانتظار يتنقلان ببطء وصبر بين جنودنا على الضفة الغربية، فيما تستقبل القوات المسلحة في نوفمبر 1970 دفعة جديدة من المجندين، من بينهم "محمد حسن حمودة" الشاب البالغ من العمر –حينذاك- 19 عاما، القادم من الواحات الداخلة.

في اللحظة التي ترك فيها بلاده البعيدة الواقعة في الصحراء الغربية وعد نفسه بأن لا يعود إلا بالنصر أو الشهادة، وقد اقتنص الأولى "كنت واحد من اللي عبروا ودمروا خط بارليف اللي قالوا عليه منيع" قالها مبتسما بثقة.

الآن، بعد مرور نحو 42 عاما على النصر، يجلس الرجل الستيني في منزله البسيط بالواحة الداخلة، ومن حوله أبنائه الأربعة، يعيش حياة ما بعد المعاش "مفيش شغل في البلد.. من ساعة ما طلعت على المعاش وأنا ملازم البيت" كان "حمودة" قد عُين مشرفا زراعيا بقرية الموهوب بالوادي الجديد وهو ما يزال في عامه الأول بالقوات المسلحة "اعتبروها مكافأة للمجندين.. وهي دي الحسنة الوحيدة اللي عملتها الدولة" ثم سقط من حسابات البلاد.

صورة 1

أنهى "حمودة" دوره في الخدمة العسكرية في يناير1975، وجد مكانا شاغرا في مديرية الزراعة بالوادي الجديد، انغمس في عمله كمراقب للمزارعين وإلقاء الندوات الإرشادية لهم وتوفير الكيماوي والسماد الكافي وإسداء النصيحة في كيفية القضاء على الحشرات "سنين مرت، محدش سأل علينا يكرمنا.. وكل سنة بنشوف ناس بتقابل الرؤساء بيطلعوا في الإعلام، واحنا هنا منسيين" يذكرها الرجل بأسى.

من حين إلى آخر يتذكر العسكري رقم 5591223 الأيام المجيدة، قصته مع النصر التي بدأت منذ الأشهر الأولى له في القوات المسلحة بمنطقة وادي حوف للتدريب، قبل أن يُنقل إلى التل الكبير بالإسماعيلية ضمن ملحق سلاح المهندسين، فرقة مضخات المياه رقم12، تحت قيادة اللواء علي رضوان "عرفنا في المحاضرات اللي كنا بناخدها بانتظام إن أصعب شيء بيواجه الجيش هو خط بارليف، وإن فيه أفكار مهندس في السد العالي بيعملها.. وبدانا التدريب عليها".

صورة 2

قبل أن يلتحق الرجل الستيني بالخدمة العسكرية بنحو عام، كان "باقي زكي يوسف" الضابط بالجيش المصري قد استوحى حل لخط بارليف من عمله في السد العالي واقترح في عام 1969 استخدام ماكينات ضخ مياه لإحداث ثغرات في الساتر الترابي حتى تتمكن القوات من العبور إلى الضفة الشرقية في أسرع وقت ممكن.

أُجريت دراسات عن الأمر قبل أن تقرر الدولة تدريب مجندين عليها لإمكانية الدفع بها في الحرب في 1971، وكان حمودة بالمرصاد "بدأنا ندرب على مَكن من أمريكا وروسيا لشفط المياه وضخها بضغط عالي تجاه أي ساتر ترابي".

صورة 3

يحكي "حمودة" لأبنائه عن المشقة التي تحملها وجيله من أجل البلاد، حيث كان لزاما عليه ورفاقه من الكتيبة، بجانب التدريبات اليومية على الأسلحة المختلفة، والمهارات القتالية والدفاعية، وتفسير الأوامر العسكرية أثناء العمليات، التدريب مرتان يوميا على الماكينة الأمريكية "كرفر" والروسية "m600" في أماكن تم اختيارها بمنطقة التل الكبير أشبه بالساتر الترابي لخط بارليف"كنا بندرب على الاتنين عشان لو واحدة عطلت في الحرب نقدر نشغل التانية".

السرية التامة كانت تعليمات القوات المسلحة بشأن كافة التدريبات التي تتم داخل الجيش خاصة على ماكينات ضخ المياه "لا أسمع لا أري لا أتكلم.. دي الأوامر اللي بتجيلنا واحنا طالعين في إجازات"، وفي أواخر 1972 علموا بخطة العبور، دورهم تحديدا هو اصطحاب معداتهم إلى الناحية الأخرى من الضفة وفتح ثغرات للجنود في الساتر الترابي في أقل من ساعة "شرحوا لنا الخطة بس مقالوش الحرب إمتى.. الميعاد كان سري، وكنا بننتظر اليوم دا بفارغ الصبر".

صورة 4

متى الحرب؟ الجميع يتساءل في مصر، حتى الجنود القابعون أمام خطوط العدو، الانتظار ينهش روحهم الحالمة بيوم النصر، الرئيس يؤكد كل عام أن الخطوة وشيكة وأنهم في عام الحسم، غير أن عامين مرا دون أن يحدث شيء "مكناش محبطين لكن كنا متشوقين لليوم الموعود وجاهزين نحارب في أي وقت"، في هذا التوقيت العصيب زارهم الرئيس محمد أنور السادات قبل السادس من أكتوبر بعدة أشهر "جالنا في منطقة اسمها المحسمة.. وشه معفر كأنه واحد مننا، قالنا اتمسكوا بالأرض وبتراب مصر.. انتوا اللي هتصنعوا مصير الوطن" كان لكلماته مفعول السحر على قلوب الرجال.

صورة 5

في الأسبوع الأخير قبل المعركة، بدا واضحا أن هناك خطبا ما، عاد المجندين من إجازتهم بغتة، اُلغيت قرارات المغادرة لأي ضابط أو جندي "كان فيه حركة مش طبيعية في المعسكر.. حسينا إن الحرب قربت بس محدش عنده معلومة"، وفي صباح السادس من أكتوبر1973، جاءت الأوامر بالتحرك إلى الضفة الشرقية، حملوا معداتهم وأسلحتهم، تحركوا بهمة ونشاط رغم الصيام، الابتسامات موزعة على الوجوه، لا قلق، لا خوف، نسائم هواء بارد تلفح وجوههم رغم بزوغ الشمس في قلب السماء.. شعروا إنهم في يوم مجيد.

حينما تحل ذكرى النصر، تنساب في مخيلته تفاصيل المشهد الأهم في تاريخه، حينما وصلوا أخيرًا إلى الضفة، حشود من القوات المسلحة تصطف عند المعدية رقم 6، كباري تغطي المياه بين الضفتين نُفذت من قِبل سلاح المهندسين، الجهاز اللاسلكي ينقل لهم أوامر القيادة بتنفيذ دورهم في المعركة "ربنا معاكم يا رجالة".

تحركوا إلى الناحية الأخرى عبر عربات صغيرة، ضجيج هتاف "الله أكبر" يهز القلوب، الضفة تقترب، ينظرون إلى بعضهم البعض، لا أحد يصدق، ثمة مشاعر لا يمكن وصفها تجولت داخلهم، خليط بين السعادة والفخر، نشوة الوصول إلى المبتغى وفورة النصر "مكناش مصدقين.. كنا بنبص لبعض ونسأل احنا فين؟" يذكرها الرجل وعيناه تغرق في الدموع.

صورة  6

فور الوصول، صار بارليف وجها لوجه للمرة الأولى، خرجوا سريعا من العربات "كأننا طايرين"، ثبتوا الماكينات على الأرض، وضعوا خراطيم السحب في مياه القناة، أمسكوا بأنبوب ضخم، صوبوه ناحية نقاط مُحددة في الساتر الترابي، واندفعت المياه بقوة، الساتر ينهار، أسطورة خط بارليف المنيع تتحطم، صرخات النصر تتعالى، أحدهم يسجد، آخر يقفز منتشيا، ثالت يبكي من فرط السعادة "ومجندين مستنوش دورهم في التعدية على الكباري.. نزلوا عاموا لحد الضفة التانية"، قبل أن تُظلم السماء فجأة "بنبص لقينا الطيران المصري بعدي من فوقينا لدرجة إنه حجب ضوء الشمس.. عرفنا إننا انتصرنا".

صورة 7

بعد انتهاء دورهم في أقل من 60 دقيقة، جاءت أوامر القيادة بترك مواقعهم والعودة إلى ثكناتهم "مكناش نقدر نكمل، دورنا انتهى، يمكن دور صغير في الحرب بس مهم"، عادوا من حيث أتوا محملين بالفخر والعزة "كنا جاهزين في أي لحظة لو فيه احتياج لوجودنا مرة تانية كمجندين"، تابعوا الحرب حتى اللحظة الأخيرة، قبل أن تضع أوزارها "فضلنا لسنة 75.. بس بعدها اتنسينا".

صورة 8

 تابع باقي موضوعات الملف:

نياشين في "النيش" (ملف خاص)

unnamed

حكاية "العبادي".. صاحب خدعة الحرب البديلة بـ"الغناء"

2

المقاتل "عادل".. مصاب حرب73 لم يحصل على ميدالية "بلاستيك"

3

"جمال شوشة": حرب أكتوبر مش مبارك وفخور بعملي في بوفيه

4

120 يوم حصار.. تفاصيل الأيام العجاف للمجند "راشد"

5

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان