المقاتل "عادل".. مصاب حرب73 لم يحصل على ميدالية "بلاستيك"
كتب- دعاء الفولي ورنا الجميعي وإشراق أحمد:
يرتدي ملابسه، يعتدل في هيئته، بالدقيقة ينطلق خارج المنزل، "لسه الجيش مأثر فيا" يوقن بذلك طيلة 29 عاما أرغمه المرض بها على استبدال البدلة العسكرية، ليتحول من النقيب عادل عبد المنعم مرسي بسلاح المدفعية إلى مدير العلاقات العامة بإحدى شركات الطباعة والنشر، من الإسكندرية خرج المقاتل صغير العمر، ينضم للجيش المصري في أعتى معاركه ضد إسرائيل، يرى الموت والنصر، يحمل تفاصيل عن جنود صدقوا الفعل، ويعود بإصابة ليست برصاص العدو، لكن لحصاره، ولتحمله هو من أجل استرداد الأرض، لكن النهاية كتبت في صمت، بخروج من الخدمة وراتب بلغ 40 جنيه.
في التاسع من أكتوبر عام 1973 شعر عادل بـ"حموضة" في المعدة وبدأ في إفراغ ما بها ليجد دماء لونها أسود، لم يعلم أذلك بسبب نقص المياه أم الوجبات التي يحصل عليها "كنا بناخد وجبة قتال تقعد معانا طول اليوم" وهي عبارة عن أرز وبطاطس ومُربى وفول وبسكوت مُملح وزمزمية ميه لليوم كله"، وبعدما وصلوا لسيناء كان هناك شبه انقطاع في الإمدادات "لدرجة إن بعض المهندسين بخروا المياه وكثفوها عشان نعرف نشربها بس كانت قليلة وفي الآخر ميه مالحة"، لم يعلم المقاتل أن ما يعانيه بداية إصابة لن تفارقه العمر كله.
يجلس الرجل الخمسيني بمنزله في منطقة العصافرة، أمام التلفاز في السادس من أكتوبر طيلة 42 عاما، يتحسس بطنه، المعدة المستأصل أغلبها، آلامها لازالت حاضرة، تتجلى في عدم قدرته على مواصلة الحديث لفترة طويلة، يجوب القنوات مشاهدا المتحدثين عن الانتصار العظيم، بينما لم يذق أيا منهم لهفة النصر، ووأد الشعور بالموت، يحزن "عادل" لكن يجد عزاءه في الإبقاء على تفاصيل، يعلي بها شأن رفاقه، وتذوب كلمة "أنا" فلا تجد لها مكان في حديث المقاتل، الذي ألحقه أبيه بالعسكرية دون أشقاءه الأكبر عمرا منه، فحينما أبصر الموت وهو ابن التاسعة عشر عاما، لم يهابه حال رفاقه "اللي يقول أنه خاف من الموت يبقى كداب"، قد هانت الدنيا ومَن بها في عين المقاتل، حمل جثمان رفاق استشهدوا بأرض المعركة، ولم يستطيعون دفنهم، فيما وضع سلاح أخرين مكان وفاتهم كما يُفعل للإشارة بوجود جثمان بتلك المنطقة.
بعمر الستة عشر عامًا التحق عادل بالجيش، ليستكمل دراسته عقب المرحلة الإعدادية "حصلت على دبلوم فني عسكري"، كان التدريس بمنطقة الجفرة بالسويس "مكان لا يصلح لعيش أي كائن حي"، لكن الفتى كان عليه أن يتحمل المسئولية.
غرب القناة حيث استقر عادل تم استقباله جيدًا، وإعطائه كامل المعلومات عن الفرقة الرابعة التي التحق بها "كان رئيس الفرقة وقتها العميد محمد قابيل"، ومن الفرقة الرابعة صار جزءً من اللواء السادس، ونتيجة لتعليمه أصبح مُعلم عسكري يُدرس فنون القتال.
عامان ونصف قضاها عادل بكنف كتيبته التي ضمت نحو 400 محارب والسرية 257 سلاح "م .د" –مدفعية مضادة للدبابات- التدريبات كانت على أشدها، لم يكن أحد يعلم شيء، وقبيل الحرب بعدة أيام تغير الوضع "كنا كل يوم في المعسكر يتم إعلان الحالة الكاملة للاستعداد"، ويُطلب من الجنود ارتداء كمامات واقية لحمايتهم من الأسلحة الكيماوية "كانت ثقيلة وصعبة جدًا"، واستمر الوضع يشوبه الحذر الشديد حتى صبيحة يوم 6 أكتوبر.
"لما بدأنا اليوم ستة الصبح قالولنا الحالة عادية"، حتى أن القادة طلبوا من الجنود التحرك بحرية، ولعب الكرة داخل المعسكر "عرفنا بعدين إن موشي ديان جه على شط القنال اليوم ده ومعاه قيادات تانية وكانوا بيراقبونا"، وفي الواحدة ظُهرًا دوت الأوامر في المعسكر تُعلن الحالة الكاملة.
سريعًا عاد كل جندي لمكانه، من يقطنون الخنادق أو الحُفر البرميلية، من هم داخل الدبابات، ومن يقف خلف المدافع؛ الجميع تمسك بقاعدته انتظارًا لما سيحدث، حتى مرت الموجة الأولى من الطائرات "الصوت كان قوي جدًا وبقينا نقول الله أكبر".
"أنا كان ضربي غير مُباشر".. يقول "عادل" عن مهمته كظهير حامي لأفراد المشاة، التي تمحورت حول إطلاق ذخيرة لبيان ما إذا كانت هناك أسلحة الأعداء أم لا "كنا نضرب لو لقينا دخان أسود، نعرف إن هنا فيه أسلحة وأفراد، فبنضرب تاني"، أمّا إذا كان الدخان أبيض فتستكمل الكتيبة طريقها.
ظلت الفرقة التي يتبع لها "عادل" على شط القناة حتى يوم 10 أكتوبر، تتابع ما يحدث في الجهة الأخرى، في انتظار أوامر العبور "كنا بنشوف مهازل.. إسرائيل حاولت تضرب الكوبري اللي بتعدي عليه العربيات المصرية لمدة 12ساعة"، يذكر أيضًا تذليل العقبات أمام جنود الجيش خاصة خط بارليف "واحد معانا من المهندسين قال إن ربنا اللي سمح بالسد ده وحط الحل تحتيه" قاصدًا مياه القناة التي حوت فيما بعد كميات التراب الهائلة والألغام والأسلاك الشائكة التي سقطت مع السد الذي يعادل طوله عمارة مكونه من سبعة أدوار كما يصف الرجل الخمسيني.
حتى اليوم الثالث عشر من أكتوبر كفة القتال ترجح للجانب المصري، طلقات الرصاص والمعارك الجوية تنهال على العدو، تكبده مزيد من مرارة الهزيمة، فيما تشتعل مشاعر المقاتلين المصريين بوهج تحقيق حلم العبور والانتصار برؤية الانكسار في أعين الأسرى الإسرائيليين "كل اللي كانوا موجودين على خط بارليف أخدناهم أسرى وتشوفهم وهم بيقولوا تحيا مصر" يمر مشهد جنود العدو أمام "عادل"، العربات المصفحة الممتلئة بهم، إجبارهم على تحية البلاد رغم جهل أغلبهم للغة العربية، تمرق الذكرى سريعا، وتتمهل كثيرا بالمقابل أمام ذلك الطيار المصري، مَن أبصر تضحيته بينما هو يقف خلف مدفعه.
كانت أجواء الحرب مشتعلة، تنتظر الفرقة الرابعة إشارة التقدم لتحلق برفاقها ممن عبروا إلى سيناء، في اليوم الرابع للحرب، يشير التاريخ إلى التاسع من أكتوبر، بينما لا يملك جنود السرية 257 خاصة ضباط المدفعية سوى حماية ظهر الجيش المصري من ناحية، واتخاذ مقاعد المتفرجين لشاشة العرض المفتوح في سماء سيناء، المسجلة لبطولات لا يعرفون أشخاصها، لكن سجلوا وقائعها، فعلو صوت المعركة لم يشغل "عادل" عن الالتفات للطائرة المصرية المارقة مشتعلة بعد أدائها واجبها في معركة مع طائرة أخرى للعدو وإسقاطها، لكنها لم تنج فصار قائدها ينازع "الديل كان بيتحرق وهو بيعافر عشان ميقعش على طريق السويس اللي كان عليه المصريين"، ظل مقاتل مدفع "م.د" يتابع الطيار، ليتوقف الزمن مع ارتطامه بجبل عتاقة، مضحيا بنفسه حتى لا يصيب أحد من الجنود الرابضين أسفله.
عبرت جنود الفرقة الرابعة، آخر مَن لمست قدماه أرض سيناء، انضموا لمن سبقوهم "فضلنا نتوغل لحد ما وصلنا لـ13 كيلو جوة سيناء وبعدين جت أوامر بالتوقف". كان الطيران الإسرائيلي قويًا مقارنة بالمصري "الموضوع عامل زي أما يبقى عندك عربية 128 وبتسابق واحد معاه شبح"، لذا فبعدما توقفوا صاروا مُحاصرين في نقطة بعينها، الإمدادات أصبحت شحيحة وتعين عليهم حفظ كل نقطة مياه أو طعام تحسبًا، كما أن ضربات طيران العدو ازدادت ضراوة "بقوا يضربوا صاروخ ييجي على واحد جوة الحفرة.. زي ما حصل مع واحد زميلنا اسمه جمال"، جاءت الأوامر للفرقة الرابعة بعد نحو 4 أيام بترك مكانهم في سيناء والتراجع للخلف، فكانوا أول مَن خرجوا من سيناء ليستقروا بنقطة تسمى "وادي أبو طلح".
يوم الثالث والعشرين من أكتوبر، تلقى الطيران المصري أوامره بضرب الجيش الإسرائيلي بالنابالم، غير أن القرار أُلغي في اليوم التالي، وجاء وقف إطلاق النار، كانت الفرقة الرابعة محاصرة بوادي أبو طلح، والكتائب الإسرائيلية فوق تبة الوادي، "طول الوقت احنا كنا في خدمة".. يقول عادل.
بحلول الليل عليهم في الوادي، كان الضابط حمدي المحمدي عبد الرحمن، يشغل سلاح الاستطلاع والإشارة، يصعد التبة "كان العسكري اللي معاه يطلع وينزل جري" خوفًا من القوات الإسرائيلية، لكن المحمدي له سيرة شجاعة، يذهب إلى مستقر أفراد الجيش الإسرائيلي مستطلعًا أماكنهم، ثم يعود ليضع خطة للخروج من ذلك المأزق "نَجَد الكتيبة، مكناش بنحس إنه ظابط، كان يشيل الكتافات ويقعد معانا يشرح الخطة شرح وافي، لو قال أي أمر للعساكر كانوا هينفذوه"، انقطعت السبل بين "عادل" وضابط الاستطلاع غير أن رؤية لاعب كرة القدم ياسر المحمدي صدفة على شاشة التليفزيون كفيله بإشعال ذكرى عمه البطل في نفس المقاتل المتقاعد.
انتهت المعركة الكبرى، لكن معركة "عادل" مع المرض استمرت نحو 9 أعوام حتى عام 86 ما بين فحوصات وعمليات جراحية "روحت تقريبا كل المستشفيات العسكرية"، ومع ذلك واصل الرجل الخمسيني عمله كنقيب، يذهب لوحدته بسيناء، يدرب الجنود على المدفعيات، يعاند المرض والألم الذي لم يبرحه حال شغفه العسكري، فكان أول مَن استخدم الصاروخ "ميلان" أحدث صاروخ ضد الدبابات مستورد من أمريكا، ومتصدرا لأمهر الرماة العسكريين، واضعا ساريته كذلك بالمركز الأول على مستوى الرماية.
بمقر المجلس العسكري في القاهرة، اصطف 8 أطباء برتبة "لواء" بالجلوس على مائدة طويلة، أمامها النقيب "عادل"، الجميع في صمت إلا رئيس اللجنة الذي أصدر بصوت جهوري القرار "يعاد للخدمة"، نزلت الكلمات صادمة على نفس الشاب العشريني "حزنت أوي"، لم يعد بإمكان الضابط احتمال الألم أكثر، خاصة والعملية الأخيرة لم تشف إعياء معدته، لكن الأكثر حزنا أن الصادر للقرار هو الطبيب المعالج له، والذي سأله "عملت العملية فين يا عادل؟"، فأجابه "في مستشفى المعادي"، فيما تريد نفسه البوح بإجابة أخرى "ما أنت اللي عملها لي"، لكن الطبيب أراد إبعاد أي شبهة عنه لأنه المتابع للحالة وفي الوقت ذاته رئيس اللجنة الطبيبة فضلا عن "أن صعب جدا حد يخرج من الخدمة"، غير أن النهاية كتُبت أخيرا "النقيب عادل عبد المنعم مرسي غير قادر على الكسب"، ليعود الشاب إلى الإسكندرية بإصابة لم تفارق سنين عمره البالغة الخمسين، بادئا حياة مدنية لازال متأثرا فيها بأسلوب العسكرية، بعمله الجديد في العلاقات العامة في إحدى شركات الطباعة والنشر.
لا يملك "عادل" من ذكرى الحرب سوى بعض صور التقطت له فترة التدريبات، وحكايات يحفظ أسماء أشخاصها كحفظه لأسمه، وطقم "تيفال زهران أول لما نزل السوق" يحتفظ به "لجهاز" بناته، ذكرى لأول وأخر تكريم له من الجيش، قبل خروجه من الخدمة، والذي لم يكن لإنهاء عمله بقدر احتفال بمسابقة رماية فاز بها. يتذكر النقيب المتقاعد هذا الحفل، إذ أعطاه إياه الفريق "أحمد العربي"، الشخص الوحيد الذي التقاه من القادة واحتضنه، فذلك ما تمناه حين وقعت عيناه على القائد الأعلى للقوات المسلحة "أنور السادات"، حينها لم تسع الأرض "عبد السلام" من الفرحة، وهو يتقدم ساريته بعد انتظار ثلاث ساعات، حين مر "السادات" أمامه بينما يقف هو أمام الدبابة "شايفه بضحكته الجميلة وهو معدي كنت عايز أروح احضنه" يقولها الرجل الخمسيني وحفاوة استعاد الذكرى تتجلى بكلماته.
لم تتأثر ذاكرة "عادل" بالأعوام التي تمر عليه، مازال يتذكر حتى الآن أسماء رفاقه بالكتيبة بدءًا من اسمهم الأول والثاني ثم الثالث، يحكي عنهم أكثر مما يسرد عن ذاته، يذكرهم بأنهم خير رجال الجيش المصري، قصصه عنهم أكثر مما يُمكن أن تراه في فيلم سنيمائي يحكي بطولاتهم، هُنا الأبطال الحقيقيون لا يظهرون على شاشات التليفزيون.
محمد السيد جمعة، لم ينس عادل اسمه الثلاثي، يتذكر جيدًا كيف كان مقدامًا، يؤذن للفجر رغم ما في ذلك من خطورة، ثُم يصعد فوق التبة، مفقدًا للصهاينة بضعة أسلحة، طعام ومجلات "ويقتل ضابط إسرائيلي وينزل"، من حُب عادل لرفاقه بالجيش، سمّى ابنه البكري عماد، على اسم زميله الذي حمله على كتفيه عليلًا "احنا كنا عايشين أسرة واحدة بناكل مع بعض، ونعمل كل حاجة سوا".
كل ما يتمناه "عادل" الآن هو تكريم لهؤلاء الأفراد الذين دفعوا كل ما ملكوا لأرضهم "نزلت لي مكافأة الشهر دا 90 جنيه"، في حين يغدق على مَن لم يشهدوا الحرب بالكثير، ليست مسألة النقود هي ما يهم عادل لكنه التقدير "والله لو ميدالية صغيرة بعشرين جنيه، ولا حتى بلاستيك.. وهعلقها على صدري".
تابع باقي موضوعات الملف:
بالصور- حكاية من مهدّوا خط بارليف تحت أقدام الجيش
حكاية "العبادي".. صاحب خدعة الحرب البديلة بـ"الغناء"
"جمال شوشة": حرب أكتوبر مش مبارك وفخور بعملي في بوفيه
120 يوم حصار.. تفاصيل الأيام العجاف للمجند "راشد"
فيديو قد يعجبك: