الإمام البخاري.. سلام على مَن اجتهد للهدى..(بروفايل)
كتبت-إشراق أحمد:
حينما عاد أبو عبد الله إلى "بخارى"، وافدا من نيسابور –إيران- بعد ما لاقاه بها من تربص واتهام باطل، استقبله أهلها بالترحاب، أُقيم الاحتفال بقدوم أمير المؤمنين في الحديث، نُصبت القباب مسافة ثلاثة أميال، رموه بالنقود والسكر، لكن أمير المدينة استاء؛ رفض حافظ أحاديث الرسول أن يحمل العلم إلى أولاد الأمير بالقصر، لما في ذلك من ذل يتنافى مع أرباب الفقه، فكتب الوالي في الناس ليصرفهم عنه "إن هذا الرجل أظهر خلاف السنة" كما يروي "أحمد بن منصور الشيرازي" -أحد تلاميذ البخاري-، لكن أهل المدينة تمسكوا بالإمام، فما كان من الحاكم إلا إخراجه، ورحل "الإمام البخاري" كما تقبل فرحة محبيه؛ في صمت، وعندما سُئل قال بإيجاز "لا أبالي إذا سلم ديني".
كلماته البسيطة تلك هي حال "الإمام البخاري"، حتى عمر 62 عاما، لا يهتم ولا يفعل إلا ما يحسبه نفع للدين، وربما كان هذا لسان كلماته إن امتد عمره ليوم، تساق فيه سيرته بتشكيك وبخس يقابله تقديس لم يطلبه أمام شهود من عامة الناس غير الفقهاء، كان بأمثالهم يوما ما أرفق حالا، فحينما دخلت الخادمة لتقديم الشراب إليه بينما هو في مجلس علم مع تلاميذه، فتبعثرت خطاها، لتسقط الصينية، وتنسكب المحبرة على ملابس "البخاري"، ما كان جزاءها -كما ورد في كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي- إلا قول لين "اذهبِ أنت حرة"، ليزول تعجب الحضور بعد رده عليهم "أغضبتني فرضيت الله فيها".
لم يتفاخر "محمد بن إسماعيل" بعمل، أو يجاهر أنه صاحب العلم، وكاتب الأحاديث الأفضل، ما أغلق باب الاجتهاد بوجه أحد، وما عاب مَن فعل، فقط يوثق، يسند، ويجمع بين دفات الكتب ما رُزق به، ويصحح إن كان لديه العلم، الإجلال والبخس بشأنه سواء، هو رجل استودع نفسه عند مَن لا تضيع عنده الودائع، كان مثل اسمه الخامس "بردزبه"، وهو لفظ بخاري بمعنى الزارع، يلقي اجتهاده بأرض العلم، ويعتني به بما منحه الله من قدرة مشهودة في الحفظ، ويدعو بارئه من بعد ليكون من الصالحين، فيقول "ما وضعت في الكتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين".
خطوات تتلمس نهج الحبيب، نفس تصبو من اسمه النصيب، فهو "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة"، لسيرة الرسول الكريم، وكلماته نذر الحياة، بحثا عن صحيح القول، قرابة مائة وأربعة وتسعين عاما فصلت بين رحيل النبي ومولد "البخاري" غير أنه مع ذلك كان إمام الحديث بحكم جموع العلماء في عهده، ومنَ تبعه حتى يومنا هذا، لشمول ودقة كتابه صحيح البخاري، الذي كان نتاج قرابة 16 عاما من التنقيب والتوثيق للوصول إلى آلاف الأحاديث المسندة بأسماء راويها.
الصبر معنى تعلمه "البخاري" منذ نعومة أظافره، عرفه مع الفقد، إذ ذاقه برحيل أبيه عنه وهو صغير، كان طالبا للعلم هو الآخر، فيقول البخاري "سمع أبي من مالك بن أنس"، وبعد وفاته ذهب عنه بصره، حزنت والدته، أخذت تناجي ربها، اشتد بكاءها إلى أن أبصرت رؤية؛ الخليل إبراهيم عليه السلام يأتيها يخبرها "يا هذه، قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك_ وفي قول آخر لكثرة دعائك-"، فأتى الصباح، وإذا بالصبي أعيد له بصره، ومعه بصيرة رافقته إلى الممات، قد نذرته والدته للعلم، وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره.
حياة البخاري كانت للعلم، قدمها بأريحية طفل، وقلب محب لا يعبأ إلا بوصال المحبوب، يسير 1000 فرسخ –الفرسخ الواحد يعادل قرابة 5 كيلو متر- من أجل التأكد من رواية حديث عن رسول الله،، فلم يكن يوما عنده غالي فوق كلمات الخالق ولا طاعة لمخلوق في معصيته، ولا تقديس إلا لأوامره ونواهيه وما نزل على رسوله الكريم، لذا يستوقف أحد مشايخه يسمى "الداخلي"، حين سمعه يقرأ على الناس حديث يرجع سنده إلى أبي الزبير عن إبراهيم، لم يتجاوز "البخاري" الحادية عشر من عمره حين قاطع المعلم مصححا له السند، لينهر الشيخ المسن الغلام في البدء، لكن صغير السن كبير المقام لم يخش في الله لومة لائم، أرشده للعودة إلى الأصل ففعل المعلم الذي أخطأ، وصدق التلميذ "هو عن الزبير بن عدي عن إبراهيم".
الحجة طالما كانت فعل "البخاري" منذ نعومة أظافره؛ يلح عليه زميليه لمعرفة سبب عدم تدوينه وراء المعلم، بلسان حال الساخر، فيسمع للأحاديث التي كتبوها، فيما قرأ عليهم قرابة 15 ألف حديث عن ظهر قلب قائلا "أترون أني لا أختلف هدرا وأضيع أيامي"، ويتشكك فقهاء الحديث في بغداد من شهرة "البخاري" رغم صغر سنه، فيختبرونه وينجح.
شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين كان "البخاري"، عَلِمَ فقهاء الحديث بقدومه بغداد، فالتقوا به يلتمسون رؤية مَن ذاع صيته في جمع أحاديث النبي، صغير السن وجدوه، فأرادوا التأكد من قدرته، اجتمع عشر علماء، يحمل كل منهم عشر أحاديث جلسوا لاختبار "أبو عبد الله" –كنية البخاري-، خالطوا السند عن عمد، وأخذوا يتلون عليه الأحاديث تباعا، فلا تأتيهم سوى إجابة واحدة "لا أعرفه"، ارتبك الجمع، حكم عليه غير العارفين "قالوا جهول" ، فيما نظر الفقهاء لبعضهم البعض وأقروا أن "الرجل فهم"، وأما البخاري بعد أن فرغوا من طرح الأحاديث، صححها عليهم، 100 حديث رُدت إلى سندها الصحيح.
"إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" قول ابن سيرين البعض يعمل به حق معناه، وأخرون يفعلون فيه الهوى، فيمضون انتهاكا واتهاما، يجدون في ذلك حق، بدعوى أن "البخاري ليس نبي ويجوز له الخطأ" وأن الواجب تنقية كتب التراث، وهذا ما لم ينكره إمام الحفاظ والمحدثين، فتجده يقول "لقيت أكثر من ألف رجل.. أهل الحجاز والعراق والشام ومصر، فما رأيت واحد منهم يختلف في هذه الأشياء أن الدين قول وعمل وأن القرآن كلام الله"، فخلاف ما يفيد الدين لم يلتفت يوما، فالإمام على يقين أن مَن يفعل لا يصل، كما لم يقل لأحد أن يقدسه، ولو شهد ذلك لكان أول الغاضبين، ولم يشهر القول بأن ما سطره قرآن أنزل بل برأ ذمته "لست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي من ذلك أصل أحفظه حفظا عن كتاب الله وسنة رسول الله".
تلوك الألسن بين الحين والآخر، تنال من سيرة مَن كتب أول مؤلفاته وهو ابن 18 ربيعا، تتهمه على ملأ غير الفقهاء بأن أحاديث له ضعيفة وغيرها موضوع، بينما لايزال عامة الناس يندفعون حين يغالى أحدهم في رد فعله "هو أحنا غلطنا في البخاري"، فيما لم يزد الإمام البخاري تقديسه شيئا، ولم ينقصه استهانة، فالعبرة بالسيرة، والخواتيم شهود، ونهاية "البخاري" تليق بقدر فقيه لم يتوان عن طلب أرباب العلم.
بجسد نال منه المرض، وانهكه الإلحاح في الظلمات، لعل الله يستجيب دعاءه "اللهم توفني إليك غير مقصر ولا مفتون"، لبى الإمام نداء أهل سمرقند، وما أن عزم الرحيل حتى وافته المنية، بأخر ليلة في شهر رمضان عام 256ه، ودعت قرية "خرتنك" –أوزباكستان- إمام الحديث بليلة عيد، في مشهد مهيب شُيع للقاء ربه الذي أطال في طلبه حبا وطمعا، ليرحل "البخاري" تاركا مؤلفات، نهلت منها أجيال ولازالت، لا يفصل بينها والمشككين بها سوى قول الإمام أحمد بن حنبل "بيننا وبينكم يوم الجنائز"، حين لا يبقى سوى الإحسان والعلم، تحتشد بسببهما الجموع، خلف جسد صاحبهما، تذرف دموع صادقة، تترحم عليه بذكراه، داعية ربها أن تلحق بدربه في الدار الأولى، وتلقاه بالآخرة جزاء سيرة حسنة وعلم ينتفع به.
فيديو قد يعجبك: