حكايات من الشوارع العربية.. كيف احتفل الأشقاء بانتصار أكتوبر
كتب- محمد مهدي وشروق غنيم:
الانتقال اللحظي من الكآبة والانكسار إلى الفَخر والانتصار، لم يكن قَدر الشعب المصري وحده، حينما أعلنت القوات المصرية المسلحة عبورها إلى الضفة الغربية ودك حصون العدو الإسرائيلي، في تلك اللحظة التي صرخ فيها رجل أربعيني بالقاهرة هاتفًا باسم "مصر"، كان صدى صوت شيخ فلسطيني يرج الأنحاء ابتهاجا بالخَبر، وحينما التف المواطنين في المحروسة حول التلفاز والمذياع لمتابعة ما يدور على الجبهة، كان الآلاف من أشقائهم بمختلف المُدن العربية يفعلون الأمر ذاته، من المحيط إلى الخليج، ليعبر كلا منهم عن سعادته بالنصر بطريقته الخاصة. مصراوي نقّب عن هؤلاء الذين احتفلوا داخل بيوتهم وشوارعهم العربية بانتصار أكتوبر المجيد.
مخيم الشابورة برفح
في مخيم الشابورة بمدينة رفح الفلسطينية، هدوء الظهيرة يلف الأجواء، الأهالي في منازلهم هربًا من الشمس وإرهاق الصوم، السيدات مُنشغلة بإعداد طعام الإفطار، الأطفال ينصتون باهتمام بالغ إلى إذاعة صوت العرب "كنا بنسمع مسلسل ألف ليلة وليلة" يقولها "عبدالسلام شحادة" ذو الـ 13 عامًا-حينذاك- قبل أن ينقطع صوت المذياع فجأة، حشرجة ظنها البعض عُطب في "الراديو" لكن سرعان ما سُمع صوت أحد المذيعين يتلو البيان الأول للقيادة العامة للقوات المسلحة المصرية.. لقد بدأت الحَرب.
للحظة لم يستوعب أحد الأمر، كانت المفاجأة كبيرة، حلم كثيرًا ما راود العَرب، قبل أن تنفجر الفَرحة في المكان، الأهالي يهللون مع أغاني الحَرب الحماسية خاصة تلك التي يشدو بها المُطرب عبدالحليم حافظ "أكتر أغنية هي ابنك يقولك يا بطل هاتي نهار.. ابنك يقولك يا بطل هاتلي انتصار".
بعد ساعات من أخبار الانتصار، انتشر عدد كبير من أهالي المخيم في الأرجاء لجمع أكبر قَدر من قطع الصابون، كانت فِكرة لأحدهم بمساعدة الجيش المصري بطريقة بدت عبقرية رغم بساطتها "العيال الصغار وضعوا الصابون على السكة الحديد برفح". يُفسر "شحادة" بأنها محاولة لقطع السكة التي يستخدمها العدو الإسرائيلي في نَقل الدبابات والإمدادات إلى الجبهة.
من المخيم نفسه، يتذكر الرجل الخمسيني "عبدالمعطي عدوان" ساعات البهجة والنَصر، انطلق الكبار والصغار إلى "الديوان"- ساحة مُخصصة لتجمع الأهالي، يتابعون بشغف شديد ما يدور خلال القتال "صار طول الوقت الإذاعة تبث أخبار الحرب" كلما جاءهم أنباء عن تقدم الجيش المصري، أو تكبيد العدو خسائر في الأسلحة تطفو مشاعر السعادة "تصير الستات تزغرط والرجال يقولوا جربنا نعود لأرضنا".
لا ينسى "عدوان" الحماس الذي دبّ في صوت والده وهو يهتف في زوجته "لملمي ما بدك من أغراض" استعدادًا للعودة إلى بلدته "البربرة" مع القوات المصرية بعد اكتمال نَصر أكتوبر "طلب منا شراء مقصات للعنب للاعتناء بأرضنا بعد الوصول إليها"، كان الجميع يعتقد أن الدبابات المصرية ستصل إليهم في أي وقت "أهلنا وصونا نضل بالمخيم حتى نصير جاهزين لاستقبالهم".
أعلام مصر في الشوارع التونسية
لم يكن يومًا عاديًا، الفرحة تسكن جنبات الطرق المختلفة، وتُغلّف أوجه التونسيين، يتحلّقون حول الراديو ويسمعون بنهم أخبار حرب أكتوبر، ومن إذاعة "الشرق الأوسط" زُفَّ نبأ النصر، كان عبداللطيف الحناشي، المؤرخ التونسي يبلغ حينها 19 عامًا، نزل إلى الشوارع "انتشرت تجمعات من الناس في شارع الحبيب بورقيبة، باريس، و منطقة لافاييت، تنتشي بالنصر"، فيما تعلو أعلام مصر وسوريا في الطُرقات "تحول الجميع إلى محللين عسكريين مهللين بقدرات الجندي العربي عامًة والمصري خاصًة الذي تمكّن من محو آثار هزيمة حزيران".
الأجواء في تونس شابها بعض التوتر حينها، الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أطلق وقتها حزمة من التعليمات، هدد باتخاذ إجراءات صارمة لكل من يتظاهر في الشوارع تنديدًا بإسرائيل أو فرحًا بالنصر "ورغم ذلك خرج التونسيون إلى الشوارع التي مرّ منها الجنود، داعين لهم بالنصر".
الشوارع تموج بالتفاؤل، صخب الهتافات وهمهمات الحديث يعلو، يقف "الحناشي" وسط التجمعات، صوت دراجة هوائية تتخلل المشهد، أنظاره تتوجه لها سريعًا، فيجد شابًا يأتي من مُنتصف الشارع مُستقلًا الدراجة، حاملًا علمي مصر وتونس يلوح بهم في الهواء، يصرخ الشاب وسط الجموع باسم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وضرورة إنجاز الوحدة، وحينما ذهب الحناشي إلى جامعته، وجد الطلاب يتبادلون أطراف الحديث عن النصر، ويبدون استعدادهم للتطوع، آنذاك قرر الرئيس التونسي فتح الاكتتاب المالي للعموم لصالح مصر، بعدها تبارى الناس للمساهمة في الاكتتاب، "رغم الإمكانات المادية المحدودة" يقول الحناشي.
في العراق.. تذكار من العدو
في العراق، طقسًا يتسم بقسوة حرارته ساد مدينة بغداد، عاد "رائد عزاوي"، الذي كان يبلغ التاسعة من مدرسته إلى المنزل في تمام الثالثة عصرًا بتوقيت مدينته، وما إن دلفه وجده هادئًا، والدته تُنصت باهتمام، ولا يوجد صوتًا سوى كلمات تدفق من الأثير "إن قواتنا العربية تتقدم نحو عبور قناة السويس، وسنوافيكم بالتفاصيل لاحقًا"، غمرت السعادة رائد ووالدته بشكلٍ مُضاعف، إذ كان والده ضابطًا في الجيش الأول.
هرول رائد ووالدته والجيران إلى الشارع للاحتفال، أعلام العراق ومصر وبلدان عربية كست الشوارع، "نسينا من الفرحة إعداد إفطارًا، بغداد كانت حينها مُبتهجة رغم أن هناك شهداء"، في اليوم التالي ذهب الصغير إلى مدرسته "صلاح الدين" ببغداد، الحماس يملأ نفوس الطلاب، وباحتفاء يرددون أناشيدًا وشعارات "اليوم هزمناهم وغدًا سنحرر القدس ودماء أبطالنا جسور على قناة السويس".
التفاصيل المُصاحبة لحرب أكتوبر، وكيف كانت بغداد تحتفي بالانتصار في السنوات اللاحقة للحرب، لاتزال طازجة في عقل رائد- أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية، لم يكن هذا اليوم عُطلة لكن
إذاعة "صوت الجماهير" كانت تشدو بالأغاني الوطنية، سواء لعبدالحليم، أو أم كلثوم، وظلت هذه الأجواء، حتى خفتت بفِعل الظروف التي عايشتها العراق.
في أحد شوارع بغداد، تحديدًا "الكرادة الشرقية"، كانت "أحرار خُضير"-ابنة الـ 13 عاما حينها-تنظر من نافذتها مشدوهة إلى ما يجري في الطرقات، تكريم العائدين بالنصر، وتزيين أعناق الجنود بأكاليل الزهور، الشوارع مُكتظَة بالعائلات التي تُرحب بهم، آخرين يتزاحمون بالشرفات. تُضيف إنها في وقت لاحق من الحَرب تابعت عودة الجنود بأرواح مشبعة بالنصر الذين ضاعفوا من فرحة الأهالي، حينما أخرجوا من أمتعتهم بعض من الأشياء التي كانت بحوزة الجنود الإسرائيليين، كتذكار للأهالي من أيام الحرب والانتصار.
حلوى النصر بالسعودية
في الثلاثينات من عُمره، ذاق الإذعي السعودي "عبدالكريم الخطيب" مرارة النَكسة، اعتبرها هزيمة للعرب جميعًا، تألم لمصر التي درس بها الصحافة، وكان يتشوق مثل غيره من السعوديين إلى إزاحة هذه الهزيمة بانتصار كبير لـ "المحروسة" على العدو الإسرائيلي، حتى جاءته أخبار بدء المعركة أثناء عمله بالإذاعة السعودية "فرحنا بالعبور. ورفضت أفطر في منزلي ومكثت في الإذاعة طوال المعركة". يذكرها "الخطيب" مبتهجًا في لقاء إعلامي بأحد البرامج السعودية.
على مدار اليوم كان "الخطيب" ينَقل أخبار انتصارات الجيش المصري على العدو الإسرائيلي، وفي فترات الاستراحة يتابع من نافذة الإذاعة السعودية احتفالات أبناء المملكة بما يجري على الأراضي المصرية "الناس هنا فرحت ووزعت حلوى وعصير"، فيما لم تتوقف الاتصالات بين السعوديين وأشقائهم من أجل التهنئة " وكانوا يهنوا المصريين أيضًا في الشوارع. كانت فرحة العبور فرحة كبيرة" قالها بسعادة بالغة.
بنغازي تحتفل
على بُعد نحو 500 كم من الحدود المصرية، بينما يشتد القتال على الجبهة، كانت شوارع مدينة "بنغازي" بليبيا تمتلأ بالمواطنين، كل من يمتلك مذياع صار محط اهتمام الجميع، يجتمعون حوله، كلا له محطته المفضلة "من خلال إذاعة القاهرة أو الشرق الأوسط أو إذاعة البي بي سي العربية"، رجفة تسري في أجسادهم كلما سمعوا خبرا جديدا من أرض المعركة. يصف "عبدالكريم البرغوثي" الحالة قائلًا: "شعور كان ممزوج بين الفرح والفخر والخوف في آن واحد".
الصبي الذي يبلغ من العُمر 15 عاما-حينذاك- خرج ضمن مسيرات كبيرة ملأت طرقات بنغازي، احتفالا بالنصر، انطلقوا في أرجاء المدينة مرددين "تحيا الجيوش العربية.. يحيا الجيش المصري السوري"، فيلم لا يسقط من ذاكرة "البرغوثي" مشهد مرور ناقلات الدبابات التي تمر عبر الطريق الساحلي في بنغازي "كانت قادمة من الجزائر وفي طريقها إلى مصر".
تابع باقي موضوعات الملف:
من داخل قريته.. مصراوي يستعيد فرحة الشعب بأول شهداء أكتوبر
معركة جبل مريم.. مكالمة عائلية على خَط النار ''تُرد الروح''
بالصور- البهجة على صفحات الحرب.. حكاية 100 ''بيجامة'' وصواريخ في ''قفة''
حكاية غنوة رددها المصريون أعلى دبابات إسرائيل.. ''شدي حيلك يا بلد''
''الصورة واللي صورها'' من أقدم استوديو لجنود مصر.. اضحك يا دفعة للنصر
ذكريات البهجة في حياة أطفال أكتوبر: ''لبسوا الكاكي وزغرطوا للشُهدا''
بالصور-كيف سخر الكاريكاتير من هزيمة إسرائيل في أكتوبر 73؟
فيديو قد يعجبك: