بالصور- ليالي العطش في النوبة
كتب- محمد مهدي:
قبل المغيب، عاد "خميس صالح حسن" من عمله بنادي أبوسمبل الرياضي، شوارع قريته الهادئة تضج بالناس، قلقّ يعلو وجوههم، أخبار غير سارة جاءتهم من قرية "بلانة" بانهيار جسر ترابي حول أحد أحواض الصرف الصحي واختلاطها بمياه الشرب، كانت ليلة الـ 3 من مارس قاسية على أبناء النيل، تساءل أحد الأطفال بخوف "هو ممكن بكرة منلاقيش ميه؟!" وقد كان.
أحواض الصرف الصحي، عددها 9 تتراص بجوار بعضها في منطقة عالية ببلانة، يعمل منها 7 فقط، يغطيها جسر ترابي، لم يحتمل أحد الأحواض الضغط ونزحت مياه الصرف بداخله ناحية ترعة "نُقرة" القريبة، أغرقت جزء صغير من قرية "بلانة" ثم ترعة "الطويسة" التي تمد 5 قرى نوبية (بلانة، أدندان، قسطل، طوماس عافية، توشكى، أبوسمبل) بمياه الشرب.
ارتبكت الحياة في القرى النوبية القابعة بمركز نصر النوبة بأسوان، طبقات من الحزن والغضب كست ملامح الجميع، توقفت الزراعة، خرج الرجال من منازلهم باحثين عن أي مصدر للمياه، أخرين تركوا قراهم واتجهوا إلى أسوان والقاهرة، فرارا من العطش.
عبر الهاتف، تحدث خميس لـ "مصراوي" من قرية أبوسمبل، بصوت غاضب عن الأيام الصعبة التي مرت على قريته: "وقفوا محطات المياه بعدها بساعات، اللي عنده مايه خِلصت، وبقينا في حالة صعبة"
في منتصف اليوم الأول للأزمة، وصلت سيارتين محملتين بالمياه إلى قرية أبوسمبل، مُرسلة من المحافظة، هرع الأهالي إليها، وقفوا أمامها متراصين، عِفة النفس منعتهم من الانقضاض على المياه لكنهم تراصوا أمامها في انتظار الحصول نصيبهم. يقول خميس إن العربتين لم تُغطِ احتياجات الأهالي واستعانوا بحلول بديلة.
إسلام النجار، ممثل لجنة الشباب بالنادي النوبي (الكيان المسؤول عن متابعة ملف النوبة ومقره القاهرة) يؤكد أن الحكومة لا تستمع باهتمام لمشاكل النوبيين لذا واجهوا أزمة انقطاع المياه عن طريق التكافل الاجتماعي بين قرى النوبة.
مصراوي حاول التواصل مع اللواء مجدي حجازي، محافظ أسوان، هاتفه متاح لكننا لم نتلقَ ردا على اتصالاتنا الهاتفية في توقيتات مختلفة وأيام عدة، فضلا عن رسالة لتوضيح أهمية التواصل لأن لدينا عدة أسئلة نود الإجابة عليها.
في مساء اليوم الأول لانقطاع المياه، كانت قرية أبوسمبل وغيرها من القرى المتضررة في حالة بائسة، من تربوا بجوار النيل في حاجة ماسة للمياه "بقينا زي اللي عايشين في مجاعة" ذكرها خميس بأسى، غير أنهم فوجئوا بعربات محملة بفناطيس مملوءة بالمياه مُرسلة من قرى نوبية لم تتعرض لضرر الانقطاع.
تطوعت قرى (الديوان، أبريم، أرمنيا، عنيبا) بإرسال المياه يوميًا إلى العطشى من النوبيين، يتحركون في الصباح، يتجولون في الشوارع المختلفة لتوزيع المياه على الأسر في منازلهم لحين انتهاء الأزمة يصف "إسلام" الأمر قائلا: "كنا بنتنافس مين يساعد مين".
لم يختلف الحال كثيرًا في قرية "أدندان"- واحدة من القرى المتضررة من انهيار حوض الصرف- في مسألة انقطاع المياه، لكنهم انشغلوا في الوقت نفسه بمقابرهم التي غمرت جزء منها مياه الصرف الصحي. الشاب "إسلام فارس" الذي انطلق إلى هناك برفقة أبناء القرية في محاولة لإنقاذ مقابر أجداهم يقول: "مظهر بشِع إنك تشوف أمواتك في ميه صرف!".
في الثالثة مساءا، علمّ "عبدالله شفا" عمدة أدندان، بالواقعة، أبلغ على الفور-وفق حديث هاتفي مع مصراوي-رئيس القرية ورئيس المدينة، وخلال ساعة حضروا إلى مقابر القرية برفقة محافظ أسوان، اللواء مجدي حجازي، وأمروا بسرعة التعامل مع الأزمة، وأردف العمدة: "جزء بسيط من المقابر اتضرر محصلش زي المرة اللي فاتت لما غرقت كلها".
كانت قرية "أدندان" قد واجهت المشكلة ذاتها في سبتمبر 2013، عندما انهار الجزء الترابي في الحوض نفسه، وأسفر عن غرق المقابر بالكامل ومحطة الشرب، وتدخلت المحافظة-بحسب تصريحات إعلامية اللواء مصطفى يسري، محافظ أسوان- لإنقاذ الوضع وشفط الصرف ومعالجة مياه الشرب.
السادة المحترمون: كيف سيتم حل مشكلة غرق مقابر قرية أدندان ...
معنا اللواء مصطفى يسري محافظ أسوان للتعليق على غرق مقابر بمياه الصرف الصحي في قرية أدندان ...
إسلام فارس، شهد حينذاك مطالب أهالي القرية بتخصيص أرض جديدة لمقابرهم، التي رد عليها المحافظ بالموافقة، وترك الاختيار في يد النوبيين، غير أن اللواء مصطفى يسري تراجع عن وعوده، وخصصت المحافظة قطعة أرض محاطة بالمشاكل، يوضح الشاب النوبي: "الأرض عليها خلاف، في ناس واخداها وضع يد وكدا هنبقى في معركة معاهم".
بعد أن شعر أهالي القرية باليأس من تغيير مكان مقابرهم، اتجهت أعينهم نصب أحواض الصرف الصحي وضرورة وجود حل جذري يمنع تكرار الأزمة، وبدا أن انفراجه قريبة ستحدث بزيارة المهندس إبراهيم محلب، وزير الإسكان حينذاك، لأرضهم، وإلقاء وعود بالتدخل، لكن شيء لم يحدث، رغم اعتلائه رأس الحكومة في فبراير 2014.
ما بين المقابر الغارقة ونقص المياه، عاشت "أدندان" 4 أيام قاسية، قبل إعلان المسؤولين عن عودة المياه للمنازل مرة أخرى، العمدة تلقى تأكيد من رئيس المدينة بأخذ عينات من محطة الشرب وصلاحيتها للشرب مضيًفا: "بنشرب منها ومفيش مشاكل"، بينما "فارس" يلجأ إلى المياه المعدنية معللا "عندنا شك إن الميه مش كويسة.. أول ما جات ريحتها مكنتش حلوة".
الأزمة المخيفة بحق، كما يعتقد "خميس" من قرية أبوسمبل، التي عادت إليهم المياه بعدها بنحو أسبوع، هو التعامل مع أحواض الصرف بشكل مؤقت "بيسدوها شوية.. بس دا ميمنعش إنها تنهار تاني زي ما حصل مرة واتنين وتلاتة"، مطالبا بحلول واضحة ونهائية للأزمة المتكررة، فيمالم يخفِ تعجبه من المياه التي عادت بدون شوائب الصرف سريعًا "الناس عندها خوف إن الميه منضفتش، وبنستخدمها في أي شيء غير الشرب".
فيديو قد يعجبك: