فريق "الحضرة".. أرواح تُسبح في ملكوت "العشق الإلهي"
كتبت- علياء رفعت:
إلى جوار بعضهم البعض يجلسون على شكل الهلال في دائرة لا تكتمل أنوارها إلا بذكر الله ومديح رسوله. يُطِلون على جمهورهم دومًا بجلاليب بيضاء، عِممٍ خضراء وشال من ذات اللون يتلفحون به.
لا يقطع هدوء صمّتهم إلا صوت الدُفِ والعود وهما يأذنان على استحياء للفريق ببدء التحليق في ملكوت العِشق الإلهي ومدح النبي وآل بيته الكِرام. أربعة عشر شابًا ألّف الله بين قلوبهم فاجتمعوا على ذِكره، داعينه أن يُثبت تلك القلوب على حبه لتظل هائمة في ملكوت جلالته، تُسبح بحمده، وترتقي بوصاله.
في حضرتهم، الكُلُ سُكون، الجوارح مُنتبهة، الأرواح مُنتشية، والعَبرات تترقرق من الخَشية والحُب. شبابٌ وكهول، أطفالٌ وصِبية، مصريون، وأجانب لا يفقهون من اللغة العربية إلا ذِكر اسم الله؛ الكل يجتمع في رحابهم، حيث تتمايل الأجساد يمينًا ويسارًا مع الرؤوس بكل كلمة ذِكر أو مديح، فيما تنطلق زغاريد سيداتِ كِبار في السِن حين تتعالى أصوات أعضاء الفريق بمديح سيدنا الحُسين، والسيدة زينب، طالبين منها العون و"المَدد".
الساعاتُ تمُر ولا يشعر بها حاضروهم، فنفحات نور الذِكر سلبت ألبابهم، وارتقت بأرواحهم في سموّ، فجعلتهم يطالبون الشباب أن يعيدوا عليهم وصلات المديح المتنوعة لتصِلهم بسيد الخَلق وآل بيته، تُعاد الوصلات فيتعالى التصفيق ثم تهدأ النفوس وتسكن بالذِكر الذي اختتم به الفريق احتفاله بمرور عام على تأسيسه يوم الجمعة الماضي بمركز الربع الثقافي بالحسين.
"لو علم الناس ما في الحضرة من أنوار لذهبوا إليها حَبوًا" رددها نور ناجح - مؤسس فريق الحضرة، وهو يقص قصة تكوين الفريق منذ بدايتها، والرحلة التي قطعها ليباركه كُل مشايخ الصوفية في مصر، بالإضافة للجماهيرية التي حظى بها في مُختلف الأوساط الثقافية والاجتماعية.
كانت بداية الفريق في الشهر ذاته من العام المُنصرم 2015، لكن الحكاية بدأت قبل ذلك بعامين تحديدًا حين قرر "نور" البحث عن الله بقلبه، ليتصل به صِلة لا تنقطع، صِلة أساسها حُبٌ يسقي روحه التى سائتها أحوال الدنيا، ذلك هو ما دفعه لخوض رحلة عثر في نهايتها على ضالته - حسبما يقول، وكانت فرقة"الحَضرة" مفازاة منها بعد القرب من الله، فالشاب الثلاثيني دارس بالأصل لإدارة الأعمال التى لم يحبها أو يُفضلها يومًا، فانتقل منها بعد إنهائها إلى دراسة الموسيقى في كلية التربية الموسيقية ومعهد الموسيقى العربية، ليؤسس بعدها فرقة "ليل وعين" الموسيقية عام 2011.
كان نور بعيدًا كُل البعد عن المديح والتصوّف آنذاك، حتى التقى بأحد أصدقائه القُدامى والذي عرض عليه حضور إحدي "الحضرات" الصوفية في المسجد بعد أن سأله نور عن دروس لليوجا تساعده في كبح جماح غضبه وعصبيته الدائمة، "قولتله حضرة إيه يا ابني، وكلام فاضي إيه ده؟"، باستنكار شديد رفض الشاب الثلاثيني عرض صديقه الذي رأى أنه يخلو من المنطق، حتى انصاع له ذات يومٍ على سبيل التجربة.
"من ذاق عَرِف"؛ وهكذا عرِف "نور" نور المديح والإنشاد بالحضرات حتى داوم عليها فتصوّف وتوثقت صِلته منذ ذلك الوقت بسماع كل شيوخ المُنشدين والمُبتهلين في التراث المصري وبالمساجد. "بدأت أنتظم في الحضرات، وروحي تتهذب وأكون أهدي فحبيت أنقل التجربة لكل الناس وخصوصًا الشباب اللي في نفس سني ومفيش حاجة توصلهم بربنا من العبادات".
من هُنا بدأت فكرة تكوين فريق "الحَضرة" الذي أراد به نور- حسبما يقول- أن ينقل تراث الإنشاد والمديح المصري للعالم أجمع، و لمن لا يعرفونه من الشباب، فتتهذب أرواحهم باتباعهم لمقام الإحسان، ويوصلوا بالمولى وآل البيت وصلًا لا ينقطع أبدًا. "فضلت أفكر شهرين ازاى هكوّن الفريق وأجمع أعضائه، ويمكن دي كانت أصعب حاجة في البداية"، تلك العقبة التى حاول الشاب الثلاثيني تجاوزها بمُهاتفه أصدقائه اللذين يعلم بجمال أصواتهم وحبهم للمديح، ليعرض عليهم الفكرة، فوافق بعضهم على الفور، وقرروا جميعًا عمل إعلان على "فيسبوك" فور عِلمهم بإقامة "يوم صوفي في الربع" لينتقوا بعض الأصوات من هُناك، فيكتمل الفريق، وتبدء الرحلة بإقامة البروفات الأولى بمنزل نور في أواخر 2014.
توالت بعد ذلك البروفات التي عمل فيها أعضاء الفريق على انتقاء القصائد، اللحن المُناسب، والآلات الموسيقية العازفة من دُفٍ، عود، وناي. وكان الجميع في انتظار أن تسنح لهم الفرصة ليلتقوا بالجمهور للمرة الأولى، حتى علمت مديرة مركز الربع بتكوين الفريق فعرضت عليهم أن يقيموا بروفاتهم في ساحة الربع الواسعة، فكان هو المكان الأول الذي احتوى الفريق قبل أن يشهد انطلاقته، "عندنا معزة كبيرة وتقدير للمكان ده بكل القائمين عليه، احتوانا في بدايتنا، وجمهوره مساندنا ومعانا منين ما نروح".
"الحضرة" هو الاسم الذي اتخذه الفريق ليُطل به على الجمهور لأول مرة عام 2015 في احتفال المركز الثقافي الفرنسي بعيد الموسيقى في حديقة الأزهر.
يسند نور رأسه بيديه ويبتسم وهو يذكر تفاصيل ذلك اليوم قائلًا "كُنا أول ناس تقدم فقرات في الاحتفالية دي، والمسرح كان مليان على آخره، تفاعل الناس معانا كان حاجة تفرح".
كانت تلك هى أولى الخطوات التي فتح الله بها على الفريق -حسبما يظن نور- فبعد النجاح الذي حققوه في ذلك الحفل بأيام معدودات، أقاموا حفلًا آخر في الربع بناءً على طلب مديرة المركز، وللمرة الثانية كان المكان مملوءً عن آخره، "جمهور حديقة الأزهر هو اللي جالنا في الحفلة دي، وكنا سعداء بحضور الناس وانبساطهم" لتتوالى بعد ذلك حفلاتهم المتتالية.
"أغلب الناس في مصر ميعرفوش يعني ايه (حَضرة)، بيقولوا عليها شِرك وبدعة وبيفتكروها زار" قالها نور بحزن، أسِفًا على الأفكار التى ذرعتها السينما والمسلسلات بالأذهان عن الحضرة، ليشرح بعدها المعني الحقيقي لها والذي لا يعرفه الكثيرون.
سُميت حضرة نِسبة إلى من يحضروها، ومن يحضر فيها؛ فيحضر فيها القلب مع الله، ومن يحضروها عوام الناس اللذين تحفهم الملائكة عِند الذكر "اسمها حضرة عشان حضور القلب مع ربنا، واسمها حضرة عشان حضور النورانيات اللي فيها".
ورُبما لهذا وبعد مرور عِدة أشهر من تكوين الفريق، قرر نور -مؤسسه- إدخال الذِكر مع المديح جنبًا إلى جنب ليُحقق المعني الرئيسي للحضرة التي تحضر فيها القلوب بذِكر الله، ولكن ذلك تطلب مجهودًا إضافيًا من الفريق الذي عمل أعضائه على حضور الحضرات الصوفية بالمساجد والتدرُب بشكل مُستمر لمحاكاتها وتوصيلها للجمهور.
طريق الفريق في وصولهم للجمهور لم يخلو من العقبات بالطبع، فقد مروا بالعديد من الأزمات والمشاكل مُنذ فكرة التكوين، "العقبات دايمًا موجودة، لكن اللي بيذللها حب الفريق للفكرة ورغبتهم في أنها تنتشر" ذلك هو ما يؤمن به نور، ويسعى إلى تعزيز تلك الروح بين الأعضاء، فإذا ما اختلفوا في أمرٍ أخضعوه للشورى "بحط الناس كلهم في الصورة، لأن المجموعة كبيرة ومحتاجة قرارات حاسمة دايمًا، بشارك الناس في الأفكار والمشاكل ونحاول نلاقي حلول".
ذلك التجانس الذي وصل إليه أعضاء الفريق مع بعضهم البعض تطلب الكثير من الجهد والوقت، فجميعهم من مرجعيات فكرية، وثقافية مختلفة، لذا كان من الصعب جدًا أن يتفقوا في بداية الأمر ولكن بمرور الوقت عملوا على تدارُك الإختلافات كما يقول نور "اللي بيألف القلوب ربنا، بس ده ميمنعش إننا كبشر نحاول نحقق التجانس والوفاق بينا بشكل كبير".
أما أبرز العقبات التي واجهت الفريق في بدايته كانت؛ التمويل، ولكنهم تخطوا تلك العقبة فقاموا بشراء الملابس الموّحدة التي يرتدونها على نفقتهم الشخصية، وتكفلوا بانتقالاتهم بتمويل ذاتي.
عامٌ مَر حقق فيه الفريق نجاحًا ملحوظ، وحظى بشعبية كأحد أهم فرق المدح والإنشاد بين الأوساط المختلفة، ولكنه مازال يرنو للمزيد حسب مؤسسه "الحمد لله ربنا جعلنا سبب في إننا نخاطب الشباب وقلوبهم ترق من الذكر والمديح، لكن لسه عندنا طموح إننا نقدر نعمل الحضرة في المساجد والشباب يداوموا عليها".
إلى جانب رغبته في إقامة الحضرة بالمساجد عقب صلاة الجُمعة من كل اسبوع، يحلم نور أن يستطيع الفريق نقل تراث المديح والإنشاد المصري للخارج، والتعاون مع مبتهلين ومنشدين غير مصريين كـ"رشيد غُلام" -على سبيل المثال- ليقدموا التراث المصري جنبًا إلى جنب مع تراث الدول العربية الأخرى، "إحنا التراث المصري بتاعنا كِنز، المبتهلين والمداحين المصريين حطوا قواعد الإنشاد وقفلوا السكة على أي حد يجي من بعدهم، لذلك لازم نحافظ ع التراث ده، نحييه، ونعرف العالم كله، ونربطه بيه".
فيديو قد يعجبك: