"مصراوي" يبحث عن "البنسلين" في صيدليات القاهرة: "الصحة" تحدثت فكذبت
كتبت- علياء رفعت:
صَرخات متواصلة لا تنقطع تطلقها "فاتن"، السيدة الأربعينية، التي تستيقظ يومياً وقلبها يتمزّق على صغيرها "خالد" من لا تستطيع أن تُزيح عنه آلام الحُمى الروماتيزمية -التي أصيب بها الصغير منذ عامين- بعد نقص البنسيلين، الذي تسبب في تفاقم آلام الصبي.
فشلت والدته في الحصول على الحقنة رغم رحلة البحث التي استغرقت أسبوعين دون جدوى. فلجأت بعدهأ لبيع خاتم كان ترتديه موفرة بذلك 250 جنيهاً، سعر جرعة البنسلين التي نصحها آخرون بشرائها من تجار السوق السوداء عبر صفحات التواصل الاجتماعي في محاولة لإنقاذ ابنها بعد اختفاء الدواء من الصيدليات والمستشفيات الحكومية.
"الراجل اللي اشترى من على النت خد 50 جنيهاً هو كمان"، تقولها "فاتن" وهي تصف معاناتها في الحصول على الحقنة التي تُزيل آلام ابنها مقابل 300 جنيه، بعد أن كانت تشتري الدواء ذاته سابقًا بـ7 جنيهات فقط، لكن الحاجة دفعتها للتحامل على ظروفها: "فلوس الدنيا فِدا حِس خالد وهو سليم، بس خايفة مالقيش الحقنة كمان أسبوعين حتى لو بالغلا، مش عارفة ساعتها هعمل إيه؟".
مُعاناة "فاتن" ليست الأولى أو الوحيدة من نوعها. على مدار شهورٍ مضت، عانى الآلاف من نقص "البنسيلين" بسوق الدواء المصري حتى أصبح متنفسهم الوحيد للحياة دون آلام هو تجار السوق السوداء مقابل دفع مبالغ باهظة الثمن، للحصول على حقنة واحدة تتكرر معاناة البحث عنها مرتين شهريًا.
كانت وزارة الصحة أعلنت انتهاء أزمة البنسيلين منذ أيام، وصرحت عقب استيراد كميات كبيرة منه، بتوفره في العديد من الصيدليات ومستشفيات الوزارة وصيدليات الشكاوى، والإسعاف التابعة للشركة المصرية لتجارة الأدوية بجميع المحافظات. عقب تلك التصريحات خاض "مصراوي" رحلة البحث مع المواطنين عن حقنة "البنسيلين" للوقوف على مدى توفره ورصد أسعاره بسوق الدواء.
رحلتنا بدأت من الجيزة، تحديدًا بجوار مستشفى الرمد، التابع لوزارة الصحة التي أعلنت بيع عقار "البنسلين". الأجواء بدت هادئة تمامًا، لا طوابير ولا تزاحم أو تدافع. قِلة قليلة من المواطنين يدلفون بين الحين والآخر ويخرجون مُحملين بـ"شُنط" الأدوية مُنصرفين في صمت. بالداخل سألنا عن عقار "البنسلين" موضحين الحاجة الماسة للحصول عليه، ولكن الإجابة جاءت كما هو متوقع من هدوء المشهد: "مش موجود، خلصان.. اسألي في صيدلية الإسعاف يمكن تلاقي هناك".
وبعد مناقشة ودية مع أحد العاملين بالمكان، وبذكر أنه من المفترض توفر العقار بعد إعلان الصحة عن ذلك "يمكن يضخوا كمية الأيام الجاية محدش عارف.. بس هى أزمة البنسلين مبتنتهيش بتتجدد كل شوية لأن الطلب عليه كبير والكميات إذا نزلت بتخلص فورًا".
وبحسب بيانات وزارة الصحة، تستهلك مصر 6 ملايين فيال من مستحضر البنسلين طويل المفعول سنوياً، بمعدل 500 ألف شهرياً.
أبوابٌ مغلقة، وشبابيك تعلوها ألواح خشبية، هكذا كان الحال بصيدلية "باب اللوق" بشارع مظلوم، إحدى فروع وزارة الصحة لبيع البنسلين. بابٌ صغير إلى جانب إحدى ماكينات الصراف الآلي هو المدخل الوحيد لتلك الصيدلية التي كان داخلها خاليًا تمامًا إلا من مواطن واحد وقف يسأل عن بعض المسكنات.
سألنا العاملين بالصيدلية عن عقار البنسلين، فكان الجواب: "لو فيه مكناش نتأخر نصرفهولك رغم إنه مبيتصرفش إلا بالروشتة بس الناس بتعاني من غيابه، بقاله فترة مش موجود. اسألي في صيدليات الوزارة الباقية يمكن تلاقي".
وكشفت الدكتورة ألفت غراب، رئيس مجلس إدارة شركة "أكديما"، سبب أزمة نقص البنسلين خلال الأسابيع الماضية، قائلة إن شركة أكديما انترناشيونال التي كان يرأس مجلس إدارتها مدحت شعراوي، التابعة لشركة أكديما المملوكة للدولة، كانت تملك حق استيراد وتصدير البنسلين طويل المفعول وكان المستحضر مسجلاً باسمها، حيث أنشأ رئيس الشركة السابق شركة خاصة به تسمى "تكنوفارم" باسمه واسم أسرته، وتنازل عن النشاط التجاري والاستيرادي من شركة أكديما انترناشيونال إلى شركته الخاصة، وأصبح بذلك المتحكم والمحتكر لعملية الاستيراد وتوفير البنسيين في السوق المحلي.
ومن باب اللوق إلى طلعت حرب، في صيدلية تحمل اسم الشارع ذاته وتُعد من فروع وزارة الصحة لضخ العقار الغائب عن السوق، سألنا عن مدى توافر البنسلين ليأتي الرد حاسمًا: "مفيش. اسألي في صيدليات المستشفيات الحكومية أو مخازن شركات الأدوية التابعة للوزارة. البنسيلين لو جه هنا مش هيعد أصلًا، الناس مبتبطلش سؤال عليه طول الوقت وحالهم يصعب على الكافر".
أثناء تواجدنا بالصيدلية، دلفت "هُدى" الثلاثينية وهى تحاول أن تلتقط أنفاسها في رحلة بحثها هى الأخرى عن البنسلين الذي قضت يومًا كاملًا تجوب فيه أماكن توزيعه بحسب ما أعلنته وزارة الصحة، ولكن دون فائدةٌ تُذكر، فلم تستطيع الحصول على حُقنة واحدة من شأنها أن تنقذ زوجها من بوادر تلف صمامات القلب نتيجة لعدم تناوله العقار منذ ثلاثة أسابيع رغم بحثهم الدائم عنه: "منقدرش نشتريه بالغَلا من السوق السودا، والحكومة قالوا انهم وفروه، بس بلف من الصبح كعب داير ومش عارفة أشترى علبة واحدة، مش هقدر أرجع البيت واتفرج على جوزي وهو بيتألم من غيره".
"صيدلية الإسعاف" كانت هى المطاف الأخير لـ"هُدى"، قبل أن تفقد السيدة الثلاثينية الأمل في الحصول على حقنة تُسكن أوجاع زوجها. بالوصول للصيدلية، وعلى بُعد أكثر من عشرة أمتار من مقرها يمكنك أن تبصر بوضوح طوابير طويلة امتدت لتصل إلى رصيف الشارع العمومي: "شكلهم جابوا بنسلين.. يا رب ألحق علبة" صاحت بها هُدى بعد أن ارتسمت على وجهها ضحكة تُنذر بالفرج، فالطوابير الطويلة هى علامة توفر البنسلين بحسبها "الاسبوع اللي فات الشباك كان بيهش وينش، مفيش حد واقف عليه ولا بيشتري منه وكنا دايخين على الحقنة".
أمام الصيدلية وقف أحد العاملين يُنظم الجموع وهو يصيح "البنسلين من الشباك اللي بره.. اللي معاه روشتة يقف في الطابور". اتخذت هُدى مكانها على الفور وهى تبحث بين الأغراض في حقيبتها عن الروشتة الخاصة بزوجها حتى تظفر بعلبة. فيما اتخذ "مصراوي" مكانه هو الآخر بين المواطنين. التزاحم كان السمة السائدة التي اختبرها الجميع خشية نفاذ الكمية المطروحة من العقار. سُبابٌ يُطلق بين الحين والآخر، ومشاجرات بين الرجال والنساء نتيجة التدافع، بينما تعلو بعض الأصوات "منهم لله ما هو لو كانوا وفروه في كل الصيدليات مكنتش الناس هتاكل في بعض كده"، كان ذلك هو حال المواطنين في انتظار فرج البنسلين.
عِند بداية الطابور خرجت "فيرونيكا" بعد أن عَلت وجهها ابتسامة الانتصار بحصولها على علبة من الدواء ستقيها آلام الحُمى الروماتيزمية لمدة أسبوعين كاملين، بينما بقى الخوف لا يفارقها "خايفة أرجع أسأل على الحقنة تاني بعد أسبوعين ملاقيهاش.. الواحد بيشوف أيام سودا من غيرها". على الجانب الآخر من الطابور ذاته كانت "سارة" العشرينية تخاطب صديقتها مُتشككة في العُلبة التي حصلت عليها لتوها مُقابل 10 جنيهات "مش دي العلبة الصفرا اللي بشتريها والراجل قالي ده البديل مش عارفة آخدها ولا أعمل ايه!". لتنذرها السيدة الواقفة إلى جانبها بحزم "بديل مبديلش.. هو احنا لاقيين يا بنتي!.. هتروحي فين عشان تجيبيها، مش موجودة غير هنا، أنا كفرت من اللف عليها في كل الصيدليات ويا عالم كمان هنلاقيها هنا بكرة ولا لأ".
عقب مرور نحو 20 دقيقة، كانت هُدى قد وصلت لشباك البيع، أخذت تستسمح البائع أن يصرف لها ولو علبة واحدة دون "الروشتة" التي اكتشفت نسيانها بالمنزل، تتوسل وترجو دون فائدة، لتنصرف باكية وهى تردد "مش هقدر أروح من غيره، وأخاف آجي بكرة ألاقيها خلصت.. بقينا عايشين على كف عفريت".
فيديو قد يعجبك: