إعلان

على "الشط التاني".. "البوصة" ملجأ صيادي عزبة البرج في الشتاء

05:22 م الأربعاء 14 مارس 2018

كتبت- فايزة أحمد: 

انتهت موجة الطقس السيئ التي حذرت منها هيئة الأرصاد الجوية قبل أيام، الأجواء باتت مُهيأة لمعاودة حركة الملاحة، غير أن قلب "عيد إبراهيم" لم يرتح لفكرة الخروج للبحر بمركبه الصغير، لاسيما أن السماء مازالت ملبدة بالغيوم، والرياح تهب من آن لآخر جارفة الأمواج إلى الشاطئ، فما كان منه سوى التوجه صوب شاطئ رأس البر المُقابل لعزبة البرج، مسقط رأسه، بمحافظة دمياط، ليبدأ رحلة الصيد المُعتادة، لكن هذه المرة بـ"البوصة" التي تمثل طوق النجاة للصيادين في معظم أيام فصل الشتاء. 

منذ الصباح الباكر حمل عيد البوصة الخاصة به في يد وفي الأخرى جردل للطُعم الحي، مستقلًا أحد المراكب "الكل في عزبة البرج يا إما صياد يا إما بيسوق مراكب صيد أو بيصنع مراكب.. ما نعرفش حاجة غير الصيد.. بس الصيد بالبوصة مُتعب جدا".

2

3

اضطراب الأحوال الجوية لم يكن السبب الرئيسي لعدم خروجه للبحر؛ فمنذ شهر ونصف الشهر، جرفت الرياح والمطر بعض الصخور والكتل الخرسانية المُثبتة بمنطقة اللسان في مجرى البوغاز الذي يُمثل مدخل مراكب الصيد إلى المَرسى، وهو ما جعل المحافظة تمنع حركة الصيد لمدة يومين؛ لحين انتشال الصخور من المياه، لكننا "ماشوفناش حد جه ولا شال حاجة"، إلى أن حدث ما كان يخشاه الجميع، فـ"من أسبوعين مركب خبطت في الصخور غرقت.. بس الصيادين ربنا نجاهم".

45

يظفر الرجل الذي أفنى أكثر من نصف عمره على مراكب الصيد، بسمكة من نوع "قاروص" يعرفه جيدًا كما يعرف شهور ظهوره "سمك القاروص بنطلعه من البحر أول تلات شهور في السنة"، ينزع السمكة من البوصة، يُلقي بها إلى جانب زميلاتها من النوع نفسه "الكيلو منه بنبيعه في الحلقة بـ50 جنيه"، لكنه يَقنع بما يتسلمه من بائعي السمك ليعود به إلى منزله "ده قوت عيالي اليومي، معنديش شغلانة تانية اطلع منها فلوس غير الصيد بالبوصة طول الشتا".

6

7

لا يبخل البحر على البوصة مثلما يجود على شباك المراكب، لكنه أحيانًا يختبر صبر محبيه من الصيادين المحترفين والهواة، كـ"حسن علي" الذي يأتي إلى الشاطئ يوميًا، خاصة في فصل الشتاء للصيد بالبوصة، تلك الهواية التي ألفها منذ حقبة الثمانينات، فيما يرافقه شقيقه الأكبر في الأيام التي يقرر فيها عدم الذهاب إلى البحر للصيد بمركبه الخاص، لسوء الأحوال الجوية "أخويا صياد أباً عن جد.. لكن أنا مُعلم بحب أجيب البوصة واصطاد كده هواية".

8

"أخويا بقاله كام يوم من قبل النوة ما بيطلعش بمركبه لأن المؤن أسعارها زادت"، يدرك حسن جيدًا المشكلات التي تعترض جميع الصيادين في منطقة عزبة البرج؛ لاسيما ارتفاع سعر السولار "برميل السولار الواحد بقى بـ730 جنيه".

9

يبتلع البحر فجأة بوصة حسن، يسارع بجذبها، يظن أنه أخيرًا سيرى ثمرة صبره، لكن يبدو -كما يصف ساخرًا- "سمكة ضحكت عليا وكلت الطُعم"، يُلقم بوصته طُعمًا جديدًا، يقذفها إلى البحر، يعود لاستكمال مشاكل أخيه الصياد "أخويا مركبته بتاخد على الأقل برميل سولار واحد في اليوم، غير الغاز والصيادين المساعدين له"، يحسب المُعلم حسبة أخيه "يعني لو طلع في الشتا دا سمك بـ4 آلاف جنيه بيدفع تلات أرباعهم مؤن".

10

يصعد حسن إلى صخرة أعلى مبتعدًا عن البحر قليلًا، لاشتداد هبوب الرياح، يُشير إلى مراكب صيد سمك الزريعة المترامية أمامه، تلك التي يعتبرها أحد الأسباب المباشرة لمشكلات الصيادين في عزبة البرج "صيادين سمك الزريعة بيصطادوا كميات كبيرة من السمك الصغير، ويستأثروا به في مزارع خاصة بهم"، وذلك للحيلولة دون أن يعم النفع على الجميع، مثلما يبرر.

11

كان لانتشار هذه المراكب أن يتسبب في قلة كميات الأسماك في المياه، فما كان من الشقيق الأكبر لحسن إلاّ أن يدخل في عراك معهم "الصيادين زهقوا لأن صيد الزريعة ممنوع، وعملوا شكاوى وبلاغات كتير"، لكن أحدًا لم يستجب، تزداد المعوقات، يقل إنتاج البحر، فيضطر الصياد المحترف "بيجي يصطاد بالبوصة معايا برضو واللي بيطلع له بيبيعه ويصرف على بيته".

12

هموم الصيادين ومشاكلهم لم تكن الوحيدة التي يُقذف بها إلى أعماق البحر، وإنما اتسعت أيضًا إلى مأساة الحرب الدائرة في سوريا وشتات شمل أسرة جمال فخرى "أبوخالد"، الذي واظب منذ أن وطئت قدماه منطقة رأس البر رفقة أسرته قبل خمسة أعوام، بعد مقدمهم من منطقة حماة السورية، على المجيء إلى شاطئ رأس البر عقب انتهائه من العمل، للصيد وتفريغ شحنات الحزن على بلد بات مصيره في مهب الريح.

 13

كباقي المصريين، يحمل "أبوخالد" بوصته، يلقي بها إلى البحر شارد الذهن، غير مكترث بالحظ الذي لم يحالفه منذ أسبوع؛ حيث لم يحظ بسمكة واحدة "أخويا وأختي لسه هناك.. مش عارفين يجوا على مصر".

لم يقصد "أبوخالد" هذا الشاطئ تحديدًا عبثًا للصيد، إذ إنه يُذكره بتجمع عائلته خلال فصل الشتاء في منطقة "طرطوس" الساحلية، التي اعتادوا المكوث بها طيلة الأشهر الباردة من السنة "المكان هنا خلاب متل طرطوس"، تهيج الأمواج الهائجة ذكرياته في تلك المدينة، يبتسم "هنا ما بحس حالي غريب".

15

لدى الرجل الأربعيني حب وشغف تجاه البحر، يجعلانه يُصر على المجيء إليه يوميًا، إيمانًا منه بالمثل الشعبي المصري "إذا هجرك البحر 100 يوم ما تسبوش ولا يوم"، يُذكر نفسه بأفضاله عليه "يعني أنا برمي له كل همومي وهو في المقابل يعطيني سمك"، يجن الليل، تشتد الرياح، يقرر الرجل السوري أن يحمل بوصته ويعود أدراجه إلى بيته وكذا باقي الرفاق المصريين.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان