"كساد المعمار".. عمال بعد ارتفاع مواد البناء: "بيوتنا هتتخرب"
كتبت- علياء رفعت:
بجوار قطعة أرضٍ تحت الإنشاء، وأمام "كومة" من ألواح الخشب، جلس الحاج "أحمد" ليستريح، قبل أن ينادي العمال قائلا "شدوا حيلكوا يا رجالة". بتلك الجُملة التشجيعية حاول الرجُل شد أزر العُمال الذين يقيمون أساسات الوحدة السكنية التي يبنيها بالقرب من شارع الخليج بمنطقة حدائق الزيتون، فيما دفعت حرارة الجو، الريس "علي" لمطالبة عماله بالتوقف لأخذ استراحة مؤقتة لـ"شُرب الشاي".
قبل ذلك المشهد بأسبوعين، كان الريس "علي" ورفاقه يعانون بسبب البقاء في منازلهم فترة طويلة بلا عمل، بسبب الكساد الذي يتعرض له قطاع المعمار نظرًا لارتفاع أسعار الحديد والأسمنت بشكلٍ ملحوظ في الآونة الأخيرة، فقد تراوح سعر طن الحديد ما بين 12300 و12500 جنيه، بينما بلغ سعر طن الأسمنت 1200 جنيه في سابقةٍ هي الأولى من نوعها، الأمر الذي تسبب في قلة فرص العمل المعروضة وتوقف بناء العديد من المنشآت.
"بشتغل نجار مسلح من وأنا عندي 15 سنة".. يقولها عُمر الزُهري وهو يرتشف من كوب الشاي على مهل، موضحًا أنه قضى نِصف عُمره وهو يعمل بطائفة المعمار التي لا يستقر لها حال أبدًا، "يوم في شغل وعشرة لاء وكل ما أسعار الحديد والأسمنت تزيد الشغل يقل".
برغم أن "يومية" الشاب الثلاثيني أصبحت الآن أعلى من قبل التعويم بالضعف تقريبًا إلا أن ارتفاع الأسعار بشكلٍ عام يقضي على الزيادة تمامًا، ويظل مهددا بالبقاء في المنزل دون عمل من حينٍ لآخر.
لدى "عُمر" ثلاثة أبناء، أصغرهم يلتهم نصف يوميته بثمن علبة اللبن الصناعي -50 جنيها- والتي يشتريها الأب له كُل يومين.
وفي الوقت الذي يحاول فيه عُمر جاهدًا توفير قوت يومه وأسرته، يبقى نصيبهم ثابتًا ومحفوظًا من "القلق" و "البيات من غير عشا" أحيانًا، "اليومية متعييش 5 أنفار ومعظم المقاولين دلوقتي بيسرحوا العُمال، بس هنقول إيه لينا رب اسمه الكريم".
لم يفلح "عُمر" في إيجاد وظيفة تتناسب مع شهادته التي تحصل عليها بشِق الأنفس، "معايا دبلوم تجارة، طلع عيني عشان أخده وأنا بشتغل". بعد بحثٍ طويل استقر به المقام بين طائفة المعمار، التي تخضع لمتغيرات سوقٍ لا يعرف الرحمة، ويخسر مقاولوه كلما ارتفعت الأسعار، فيُسرحون عُماله.
لا يزال عُمر يذكر خير تلك المهنة قبل سنوات ويتمنى استقرارها الذي كان "زمان كانت اليومية قليلة بس الشغل كتير، وكنا عايشين مستورين.. ربنا يعيدها أيام".
بحسب دار الخدمات النقابية والعمالية يبلغ عدد العاملين بشكل غير مُنتظم أكثر من ثمانية ملايين عامل، 40% منهم يعملون في البناء والتشييد. فيما أعلنت وزارة القوى العاملة والهجرة في بيان رسمي أن العمالة غير المنتظمة تمثل 55% من إجمالي القوى العاملة على مستوى كل قطاعات العمل الخاص والعام.
تلك الأيام التي يتحسر عليها عُمر؛ قطف خيرها الريس "على" الذي قضى أربعين عامًا وهو يعمل بقطاع البناء متنقلًا ما بين الحِدادة، وصب الخرسانات، ونِجارة المسلح.
"زمان غير دلوقتي.. الغَلا أكل لحمنا"، يقولها الرجل الستيني وهو يوضح الفارق ما بين ثلاثين عامًا قضاهم في المهنة وآخر عشر سنوات، مؤكدًا أن ارتفاع أسعار مواد البناء تسبب في "قعدتنا في البيت معظم الوقت". فبدلًا من العمل طوال الأسبوع كما اعتاد من قبل، أصبح الرجل الستيني يعمل ثلاثة أيامٍ فقط "وده لما يبقى في شغل أصلًا".
140 جنيها هي يومية الريس "على" الذي يُشرف على 6 عُمال آخرين، بينما يعاونهم في العمل بيده طوال الوقت. وبرغم أن ذلك المبلغ يبدو غير قليل إلا أنه لا يكفي لسد حاجة أسرته المكونة من 6 أفراد، لأنه لا يعمل كُل يوم "أوقات الدنيا بتضيق اوي، بس هنعمل ايه لينا رب اسمه الكريم يسترنا".
يتمنى الرجل استقرار الأسعار، حتى لا يضطر المقاول لتسريحهم لتلافي خسارته رأس ماله، أو في أفضل الأحوال يؤخر استكمال العمل لأيام فيبقى هو والعُمال في منازلهم دون دخلٍ يعينهم على سُبل الحياة.
هذه الأوضاع السيئة التي يعاني منها عمال المعمار والمقاولون ، يُقرها المهندس سهل الدمراوي، عضو الاتحاد المصري للتشييد والبناء، موضحًا أن الأكثر تضررا وخسارة هي شركات المقاولات التي تعاني زيادات في التكلفة ليست سنوية أو شهرية بل زيادات يومية، ويضطرون لدفع هذه الزيادات سواء كانت رسمية أو ناتجة عن جشع المنتجين والتجار دون تحصيلها من جهات الإسناد، ما يعرض آلاف الشركات للخسارة والإفلاس وتسريح آلاف العمالة.
في مواجهة شريط المترو بحي "المطرية"، توجد العديد من الوحدات السكنية تحت الإنشاء. وأمام إحدى هذه الوحدات وقف "حسن عبد الفتاح" يناول أحد زملائه ألواح الخشب لينقلها للداخل. "الدنيا بقت مريحة، ومفيش شغل" يقولها حسن ناعيًا الهَمّ فهو لا يعرف مهنة أخرى غير العمل بالبناء الذي قضى فيه أربعين عامًا منذ كان عُمره عشر سنوات.
مسؤوليات عديدة تتعلق برقبة حسن، بداية من أربعة أولاد، مرورًا بطعامٍ وكِساءٍ ومصاريف مدارس، وصولًا لتأمين مُستقبل أسرته الذي يراه بلا ملامح لكونه لا يملك تأمينا اجتماعيا، بل لا يملك ما يتكئ عليه فيكفي للمأكل والمشرب في أيامٍ عديدة. "الواحد نفسه يرتاح، يبقى ضامن إن في شغل بكرة، ميبقاش عايش على كف عفريت" تلك هي الأمنية الوحيدة التي تدور بخاطر حسن طوال الوقت، فهو لا يرجو سوى استقرار عمله الذي قد يتواجد يومًا، ويغيب أياما إذا ما ارتفعت أسعار الحديد، الأخشاب والأسمنت "الشغل بيريح، الغلا هيخرب بيوتنا.. مش عارف هسيب للعيال ايه ولا هأمن لهم مستقبلهم إزاي".
داخل المبني، كان "محمد" يتنقل بخفة وهو يحمل ألواح الخشب، بينما يدق بعضها إلى جوار بعض مُحاذرًا خِشية الوقوع من ارتفاعٍ عال "لو اتصبت مليش ديه ولا هلاقي حد يلحقني، هقعد في البيت ومش هلاقي أكل".
15 عامًا، هى مجمل الوقت الذي قضاه محمد يعمل بين صب الخرسانة ونجارة المسلح بعدما فر من المدرسة "اشتغلت بعد الإعدادية، قولت الشغلانة هتجيبلي فلوس بس لقيت نفسي يوم في شغل وعشرة لاء".
غلاء الأسعار إلى جانب ارتفاع أسعار مواد البناء هو هاجس محمد الوحيد الذي لا يفارقه في نومه ويقظته، فبسببه اضطر الشاب من قبل إلى المكوث في المنزل ثلاثة أشهر كاملة دون أن يجد فرصة للعمل. وبرغم انقضاء تلك الأيام إلا أن شبحها لا يزال رابضًا فوق صدره يُرعبه لكونه لا يعمل لأكثر من ثلاثة أيامٍ في الأسبوع الواحد، يقول متمنيا: "نفسي في شغل ثابت مبقاش فيه تحت رحمة الغَلا".
فيديو قد يعجبك: