رسالة أم في فيديو غنائي مع ابنها المصاب بالتوحد: "استحوا ما بقى تزعلوه"
كتبت- إشراق أحمد:
الحياة قرار؛ إما أن تستسلم ويصيبك بأسها أو تقاوم، وقد قررت فاتن مرعشلي المقاومة، ليس فقط لإسعاد ابنها محمود، بل لتقتسم معه لحظات الفرح. استيقظت ذات صباح عازمة ألا تغلق عينيها على ما تعانيه. أن ترى ولدها بطلا وليس مصابا بالتوحد، ألا يشغلها ما ينقصه ولكن ما أنجزه.
من منزلها في بيروت، أدارت فاتن الكاميرا، وضع محمود يده على كتف أمه، وبينما في الخلفية يظهر صوت أغنية "شو حلو" للمغني اللبناني زياد برجي. أخذت الأم وولدها يغنيان ويتمايلان معا في سعادة بادية عليهما، صوت الفتى صاحب الـ16 عامًا هو ما ظهر، فيما كانت فاتن تؤدي الكلمات بلغة الإشارة تضامنًا مع أصحاب الصم والبكم.
دقيقتان دارت بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك منذ 18 إبريل الجاري، في البدء لم تحمل عنوانا يشير إلى أن محمود مصاب بالتوحد، مما فتح المجال لتعليقات سلبية مثل "ماله ده... ليه هيك عم بيطلع" كما تقول فاتن، التي سرعان ما تواصلت مع الصفحة المعيدة لنشر المقطع المصور.
وبتوضيح الأمر لم تعد تر الأم أي تعليقات مؤذية، بل جميعها أثنت على ذلك الحب الصافي البادي، وبعضها ربت على شجاعتها "وأني ما خجلت من ابني"، وأخرى رسمت الابتسامة على ثغرها، بتصورها أصغر عمرًا من أن تكون أم الفتى الواقف جوارها.
كان ذلك المقطع الأول الذي يجمع فاتن بابنها محمود، لكنه ليس البداية، سبقه العديد طيلة عام مضى، منذ قررت السيدة ذات الثامنة والثلاثين ربيعًا إنشاء صفحة تحمل اسم "proud of my son with Awesomeness" –فخورة بابني الرائع، تشارك فيها نشاطات ابنها وتوجه عبرها رسالة توعية لمن مثلها من أهالي ذوي أطفال التوحد.
نشرت فاتن الفيديو ليتزامن مع التوعية العالمية بالتوحد، الموافقة في شهر إبريل، إذ أعلنت على الصفحة أنها ستواصل عمل أشياء مختلفة مع ابنها، فكان الأسبوع المنصرف على موعد مع مقطع الغناء، لاسيما أن محمود يحب ذلك كثيرًا كما تقول الأم.
لمست كلمات الأغنية قلب ما تريد فاتن التعبير عنه، بأن يكف المجتمع عن أذى محمود ورفاقه، فضلا عن فخرها به، فإن أقسى ما تمر به الأم المصاب ابنها بالتوحد، هو إيذائه للجهل وقلة الوعي حسب قولها.
مواقف كثيرة مرت بوالدة محمود، كانت تقهرها حد وصفها "لما الولاد تتمسخر على ابني بالعلن ما كنت بزعل بقول إنهم ولاد لكن بزعل من الأهل لما يسمعوا ولادهن بيتمسخروا عليه ويصيروا يضحكوا بدل ما يوجهوهن".
حتى المدرسة ما كانت حصن أمان، فرغم مرور 11 عامًا، لا تزال فاتن تتذكر معلمة ابنها للغة العربية "كنت أقول لها هو بيعرف والله بيعرف لأني كنت بدرسله زي ما في المدرسة"، فلا تجد سوى ضحكات ساخرة منها. اكتشفت فاتن أن بعض المعلمات يخفين عنها الكثير، حال أنه لم يكن بصف التعليم الخاص، كذلك في اجتماعات أولياء الأمور لم تسلم من الألسن.
وأمام الإيذاء، فكان محمود مثل رفاقه من آل التوحد، لا يتحدث عن شيء، في وقت لا ركن شديد للأم سوى الاكتئاب "ما كنت قادرة أواجه أو ادافع كنت إنسانة ميتة" تقول فاتن، بينما تجزم أنه لو عادت بها الأيام لكانت أقوى "لأن محمود صار أقوى وبيقدر يدافع عن حاله".
لم تكن فاتن قبل 4 سنوات كما بدت في الفيديو المصور، أم صبوح النفس، لا تخاف ولا تحزن. بل جاء ذلك بعد فترات إحباط وليالي كئيبة، بدأتها منذ 14 عامًا، بمعرفة أن ابنها البكري مصاب بالتوحد "كان عمره سنتين ونص.. حصلي صدمة ما كنت اعرف يعني ايه توحد". تتذكر أنها سألت الطبيب وقتها عن دواء يتناوله ابنها للشفاء.
ظنت الأم أنها فترة قصيرة ويعود صغيرها للحياة مثل رفاقه، لكن يومها أخذت تبحث وتقرأ أكثر عن التوحد وأدركت "إنه ما في الحبّة السحرية يللي كنت متخيلتها بتخلّص ابني من هيدا الشي". زاد الضغط على الأم؛ في كل ليلة تسهر لجمع المعلومات، وبالصباح ترافق ابنها كظله، تطبق ما تعلمته في جلسات العلاج.
على مدار خمس سنوات، بمعدل 4 ساعات أسبوعيًا ظلت الأم تجرب كل شيء لأجل حياة ابنها، غير أن ذلك لم يكن كافياً. ابتلع المصاب فاتن، تعاملت مع محمود كمعالج وليس كأم كما تصف "ما كنت شايفة غير أن في مشكلة وأن في نقاط ضعف بابني".
وفي لحظة خارت قوى الأم، غرقت في كآبة ولم تعد قادرة على العمل مع ابنها، والاهتمام بنفسها وابنتيها التوأم الصغيرتين، وصدقت كلام البعض أن محمود تراجع في تحصيله، لكنها بمرور الوقت علمت أنه لم يتراجع وأن "نفسية الأم إلها دور كبير بتحسّن الطفل"، وكان لتاريخ 11 مايو 2015 دور في هذا.
صباح ذلك اليوم، أرسلت إحدى الصديقات خبرًا من جريدة عن اكتشاف طبيب أجنبي مقيم في الإمارات علاج للتوحد، وتم تجريبه على فتى ونجح. لم تتمالك فاتن نفسها من السعادة، لاسيما أن الطبيب هو مَن أشرف على علاج ابن إحدى صديقاتها مصاب أيضًا بالتوحد، سريعا تواصلت معها، لم ترد عليها السيدة سريعًا، وفي الانتظار، رحلت الأم بعقلها لقرابة 15 دقيقة إلى عالم آخر "تخيلت أني سافرت مع محمود واخدنا العلاج ورجعنا يمكن بعد شهر أو 10 أيام وخلاص بينتهي كل هالتعب".
شعرت الأم بخفة في روحها وسكون لم تعهدهما من قبل "الصوت اللي ما كان يسكت في دماغي لـ13 سنة وقف في ها الوقت لما كنت بحلم". لكن الحلم لم يكتم؛ أخبرتها صديقتها أن الطبيب انتحر منذ 4 أشهر ومات سر العلاج معه "حسيت كأن جبل ووقع عليا". إحباط مضاعف عانت منه الأم لمدة 20 يومًا، قبل أن تستفيق بقرارها أن تمضي حياتها مع ابنها بسكون الخمسة عشر دقيقة التي حلمت بها.
لم يتغير يوم فاتن المزدحم بجدول أعمال محمود، ما بين المدرسة وجلسات العلاج والأنشطة المتعددة، لكن منظور السيدة تبدل "هلا بستمتع بكل لحظة معه بسعادة وفرحة". وقررت السيدة فرض احترام ابنها على المجتمع فأنشأت صفحة الفيسبوك، يتابعها الآن نحو 30 ألف شخصًا، يطلعون على محمود بينما يغني يرسم، ويتعلم الذهاب إلى الحلاق وحده، ومشاركته بفرقة الكشافة، وتقدمه برياضات مختلفة، وخطاباته بالإنجليزية والعربية.
لمست فاتن تحقيق هدفها "كتير اتغيروا حوالينا أقلها ناس كانوا يشوفوا ابني يومياً ما يسلموا عليه ولا يطلعوا فيه، اليوم صاروا يحكوا معه". أصبح محمود مرئيًا، وطموح الأم يعلو"اشتغلت أول شيء على مستوى صغير بس هلا صار هدفي انشر الوعي بكل العالم العربي، خاصة مجتمعنا هنا بلبنان".
طيلة سنوات عمر محمود، ما كان عائق أمام والدته أكبر من المادة، فمدارس الدمج في لبنان مكلفة للغاية مقارنة بدخل الأسر كما تقول، وهو ما تتمنى يومًا أن يتغير، وخلاف ذلك تمضي أيام فاتن، تمتن للدرس الذي أعطاه لها فتاها بتقبل اختلاف الأخرين، تتمسك بفرحة رؤيته يحيا سعيدًا ومستقلاً، ولا تشك السيدة في ذلك "بس الله يعطيني الصحة والعمر وإن شاء الله ما يعوذ مساعدة حدا"، فيما تتطلع لليوم الذي تتوقف دفة ميوله وموهبته عند مهنة تناسبه، يتكسب منها مصروف يومه، فيكتمل غناه عن العالمين.
فيديو قد يعجبك: