خاص- أفضل معلم في العالم لمصراوي: جئت من قرية يتناول تلاميذها الطعام بالصدفة (حوار)
حوار- دعاء الفولي:
في منطقة منزوية داخل كينيا، تُزهر أحلام بيتر تابيتشي أخيرا. منذ عشرة أعوام أو يزيد يُدرّس المُعلم الإفريقي العلوم والرياضيات لشباب قرية بواني، لا يتوقف ما يزرعه فيهم على الأرقام والمعادلات، بل يُعطيهم مفاتيح الحياة، يُعلمهم التسامح، يُدربهم على تقبل الآخر في منطقة عانت عام 2007 من المذابح القبلية، يُشجعهم على الابتكار، فيمثلون بلدهم في مسابقات العلوم العالمية.
في شهر مارس الماضي، لم تعد قرية بواني بعيدة عن أنظار العالم؛ فاز تابيتشي بجائزة "المعلم العالمي"، التي تعطيها مؤسسة فاركي تحت رعاية الشيخ محمد بن راشد آل المكتوم حاكم دولة دبي. في حفل مهيب بالإمارات، اُختير المُعلم الإفريقي كأفضل مُدرس، بعدما تقدم للمنافسة حوالي 30 ألف مُعلم حول العالم من أكثر من 100 دولة. حصل تابيتشي على مليون دولار أمريكي سيستخدمهم لدعم المهنة التي أحبها دائما.
عام 2013 شارك "صني فاركي" صاحب مؤسسة "فاركي"، شركة استشارية مختصة في الأبحاث لعمل دراسة معمقة في 21 دولة عن أوضاع المُعلمين؛ خرجت النتائج فيما يُعرف بـ"مؤشر حالة المعلم العالمي"، لتكشف تردي تلك الأوضاع، لا سيما في إفريقيا، حيث 9% فقط من معلميها يتقنون سبل التدريس الفعالة، لذا كان لابد من البحث عن نماذج ريادية حول العالم، تتخذ التدريس مهنة مقدسة، يُغيرون حياة طلابهم ويتركون أثرا.
عشرات الأميال يقطعها تابيتشي يوميا من منزله إلى قرية بواني، حيث يعمل في مدرسة "كيريكو داي" الثانوية، كانت مدرسته مجرد مكان مسقوف يجتمع فيه الطلاب يوميا، قبل أن تُصبح المدرسة الأولى على مستوى كينيا في الإبداع، بعد فوز طلابها في معرض كينيا للعلوم والهندسة 2018 - حيث عرض الطلاب جهازًا اخترعوه للسماح للأشخاص المكفوفين والصم بقياس الأشياء.
مصراوي حاور المُعلم تابيتشي عبر البريد الإلكتروني، تحدث معه عن رحلته في التدريس، كيف حاول المساهمة لتغيير حياة طلابه، وكيف أنشأ مشروعا بيئيا في المقابل يساعد أهلهم على الزراعة في ظل جفاف المحاصيل الذي يهاجم المنطقة كل 3 أعوام.
-بداية، كيف علمت عن الجائزة؟
شجّعني صديق لي للتقدم، وهو نفس الصديق الذي اتصل بي ليبلغني بوصولي لقائمة الخمسين ثم العشرة المرشحين للفوز. لم أصدق الخبر وقتها؛ اعتبرتها مُعجزة، ومازلت.
إنه لشرفٌ كبير لي أن يتم اختياري من آلاف المتقدمين في العالم لجائزة ذات هيبة بهذا الشكل.
-لماذا قررت المشاركة في المنافسة؟
كانت تلك الطريقة الوحيدة للتعبير عن مجهود تلاميذي والنجاح الذي وصلوا إليه. فهم لديهم الحلم والطاقة، وأنا وعدتهم أني سأخبر العالم عنهم.
-ما الخطوات التي اتخذتها لتشارك في المسابقة وتكون مرشحا للفوز؟
ملأت استمارة أليكترونية موجودة على موقع المسابقة يملؤها أي شخص. وإذا كنت محظوظا بشكل كافي ليرى فيك الحكام شخصا مؤهلا، سيتم إجراء مقابلات معك.
لاحقا حين وصلت للعشرة مرشحين الأوائل، أرسلت مؤسسة "فاركي" فريقا لتصوير مدرستي ليتم إجراء المقابلة بشكل مباشر، كانت العملية مُعقدة لكن شيقة.
-وهل توقعت الفوز؟
بالطبع لا. كان أمرا لا يُصدق. مُدرس في منطقة منعزلة بوادٍ يقبع في أفريقيا وقرية ريفية محدودة الموارد، يتم اختياره لتلك الجائزة؟ أمر لا معقول.
-ماذا عن اللحظة التي تلقيت فيها خبر فوزك بالجائزة الكبرى؟
كنت مذهولا. لم أصدق. وكنت أيضا فخورا بطلابي، فهي انعكاس لما قاموا به.
-كيف تنوي استخدام أموال الجائزة؟
بمبلغ مليون دولار، أنوي المساعدة في المجتمع المحلي وما يحتاج له وكذلك مدرستي. مثلا أنوي تعزيز نادي المواهب لدينا ونادي العلوم، وتدشين المزيد مسابقات العلوم.
كذلك سأوفر المزيد من أجهزة الحاسب الآلي وسأضمن تواجد شبكة انترنت أقوى. أتمنى أيضا دعم الطلاب المشردين والمحرومين من التعليم في قريتنا، واستكمال مشروعي التعليمي لمقاومة جفاف المحاصيل.
-من أول شخص أخبرته عن فوزك بالجائزة؟
لم أستطع إخبار أحد لأن الجائزة تم إعلانها بشكل مفاجئ، فبعد دعوة المرشحين العشرة لإمارة دبي، تم إعلان الفائز في حفل ضخم، بواسطة الممثل "هيو جاكمان". كان الأمر مُذاعا على التلفاز والإنترنت ويشاهده العالم كله.
-تتبرع بحوالي 80% من راتبك لاحتياجات طلابك.. كيف بدأت تلك الرحلة من العطاء؟
أنا جزء من أخوية الفرنسيسكان في مجتمعي. والأخوة الفرنسيسكان هي جماعة عالمية تابعة للكنيسة الكاثوليكية، لكنها تركز على تمكين فقراء الريف من خلال التعليم والزراعة والتنمية المستدامة وبناء السلام.
التحقت بالأخوية لأني أردت خدمة المجتمع بشكل أكبر من خلال التدريس، ومن خلال الأخوية أتبرع بذلك الجزء من راتبي لمساعدة المحتاجين، بما في ذلك تلاميذي الذين أُدرس لهم.
-ولماذا قررت أصلا أن تكون معلما؟
جئت من أسرة مُعلمين أبا عن جد. تُوفيت أمي وأنا في الحادية عشر، لكني عايشت والدي الذي كان مدرسا وأبا عظيما لنا أيضا. لدي ثلاثة أعمام وأربع عمّات جميعهم مُدرسين، لذا كان الأمر كله حولي.
-لأي مدى كان صعبا أن تصبح مُدرسا في قرية فقيرة مثل "بواني"؟
مدرستي الثانوية التي أعمل بها تقبع في منطقة شبه قاحلة تُعاني من الجفاف مرة كل 3 إلى خمس سنوات، وشبح المجاعة يخيم عليها، المدرسة أيضا لا موارد فيها تقريبا.
تلاميذنا يأتون من خلفيات دينية وثقافية متنوعة. حوالي 95 % منهم من عائلات فقيرة للغاية. توفير الطعام أزمة ضخمة لتلك العائلات، حتى أن تناول تلاميذي وجبة الإفطار أو العشاء يحدث بمحض صدفة.
في أوقات عدة، يعتمد الطلاب على غذاء تُقدمه المدرسة عبارة عن عصيدة ومزيج من الفول والذرة. وعلى التلاميذ أن يسيروا من 3 إلى 7 كيلو متر من وإلى المدرسة في طرق غير ممهدة، يكون السير فيها شبه مستحيل خلال أيام المطر.
الوصول إلى خدمات صحية مقبولة أو خدمات بنكية صعب جدا في ظل المنطقة التي نعيش فيها. مع كل هذا يُمكن تقدير حجم المعاناة والصعوبة التي نتعامل معها.
-علاقتك بطلابك مُلهمة.. هل مررت بلحظة فارقة دفعتك لمساعدة هؤلاء التلاميذ؟
كل تلاميذي يلهمونني يوميا. يكفي وصولهم لما وصلوا له في ظل عراقيل يواجهونها. مؤخرا على سبيل المثال، طوّر اثنان من تلاميذي جهازا يساعد ضعاف البصر على قياس طول الكائنات بشكل دقيق، جعلهما ذلك يربحان جائزة أفضل مشروع في معرض العلوم على دولة كينيا، فيما يستعد فريقنا للعلوم الرياضية أيضًا للمشاركة في معرض INTEL الدولي للعلوم والهندسة 2019 في أريزونا، الولايات المتحدة الأمريكية. كما فاز طُلابي بجائزة من الجمعية الملكية للكيمياء بعد تسخير الحياة النباتية المحلية لتوليد الكهرباء.
-ما أبرز المشاكل التي تواجه طُلابك؟
هناك الكثير منها، لا يمكنني اختيار واحدة او اثنتين فقط. حوالي 30% من تلاميذي أيتام أو تمت تربيتهم بواسطة أم فقط أو أب فقط.
في المناطق التي يعيشون داخلها، هناك إعاقات حركية كثيرة، تعاطي مخدرات، مراهقين ينجبون أبناءً في سن مبكرة دون مسؤولية، تسرب من التعليم، زواج قُصر، وحالات انتحار وغيرها، لنا أن نتخيل كيف يؤثر ذلك على طفل.
-كيف تقضي يومك بين التدريس والأنشطة الأخرى؟
أقضي معظم الوقت في المدرسة وخارجها أقوم بأنشطة شبيهة. مثلا تعاونا نحن المدرسون لتصميم برنامج يُدعى "العيادة الأكاديمية"، لمساعدة التلاميذ الأقل مستوى من أقرانهم لتحسين مستواهم، خاصة من يعانون صعوبة في التعامل مع مادة العلوم. وتلك العيادة نُدرس فيها خلال أيام الإجازات وأيام الدراسة العادية. نعمل كفريق من أربع مدرسين، يُعلم كل واحد فينا تخصصه، بين الأحياء، الفيزياء، الرياضيات والكيمياء.
كل إجازة أسبوعية، أحرص على زيارة تلميذين على الأقل في منازلهم لمقابلة الأسرة، خلال ذلك، أتمكن من معرفة المصاعب التي يواجهونها في المنزل والبيئة التي يعيشون فيها لأتمكن من مساعدتهم.
- ما العوائق اللوجستية التي تواجهكم في المدرسة.. وكيف تتعاملون معها؟
مثلا لدينا جهاز كمبيوتر واحد يستخدمه موظفو الاستقبال في المدرسة وأعضاء هيئة التدريس. شبكة الإنترنت ضعيفة، علينا شراء وسائل أسرع للانترنت كي نستطيع تطوير أدوات الطلاب والتدريس بشكل أفضل. مرافق المدرسة غاية في البدائية، لكننا نحاول التأقلم.
فمثلا لكي أحصل على شبكة جيدة للإنترنت، أزور بشكل دوري مقاهي الإنترنت الموجودة حول البلدة، وأبحث عبرها عن أحدث وسائل التعليم، وأقوم بتحميلها والاحتفاظ بها لنستخدمها في المدرسة، أيضا أقوم بتحميل مقاطع تعليمية عبر اليوتيوب لأعرضها على الطلاب فيما بعد.
أحاول طوال الوقت دمج التكنولوجيا بالتدريس، أضع المواد على هاتفي النقال أو من خلال برنامج الباور بوينت، لدينا جهاز بسيط في الفصل لعرض الشرائح التعليمية، يُثري ذلك العملية التعليمية كثيرا حتى وإن كان بسيطا.
-في رأيك.. ما الذي تحتاجه إفريقيا كي تكون رائدة في التعليم؟
هذا ليس سهلا؛ سنحتاج لوقت طويل، التزام ومرونة. ستكون هناك آلام على طول الطريق، لكن العمل سويا سيجعل كل شيء يمر بسلام.
إفريقيا أيضا ستحتاج دعما من أصدقائها حول العالم، لدينا مُعلمون عظماء في إفريقيا، لكنهم يحتاجون المزيد من الدعم إذا كنا نتحدث عن الريادة.
-أنت تُعلم العائلات كيفية الزراعة في ظل ظروف الجفاف التي تعاني منها مناطقكم.. حدثنا عن ذلك.
نعيش في منطقة شبه قاحلة، تعاني من الجفاف في مصادر الطعام، وذلك له عواقب وخيمة على المزارعين والسكان المحليين، إذا قلت المحاصيل التي يعتمدون عليها في ظل تلك الظروف القاسية.
عام 2013، شاركت ضمن برنامج تطوعي في منطقة غرب النيل في أوغندا، حيث تدربنا على تعليم المزارعين المحليين كيفية زراعة المحاصيل التي تتحمل الجفاف واستخدامها على أفضل وجه. وعقب عامين، أحضرت تلك الخبرة معي إلى مدرستي ومنطقتي لأدرسها للناس في كينيا.
برفقة متطوعين من أخوية الفرنسيسكان طوّرنا مركزا للبيئة في منطقتنا، وحدة متكاملة مكونة من مشتل وحضانة لرعاية للأشجار، كان غرضنا تعليم الناس الاهتمام بالبيئة.
جعل ذلك السكان المحليين أكثر قدرة على زراعة المزيد من الطعام في ظل مناخ متقلب، لا سيما وأن الأمن الغذائي عندهم كان منعدما.
-وماذا عن "نادي السلام" الذي بدأته مع طلابك.. كيف جاءت فكرته؟
معظم تلاميذي عانوا من الصدمة بعد أحداث دامية عاشتها مدينة ناكورو الكينية عام 2007، بسبب صراعات بين مجموعات قبلية مسلحة. لذلك حاولنا جعلهم يتخطون تلك الفترة ويتحدثون عما شعروا به، لا سيما وأن طُلابي يأتون من توجهات عرقية ودينية مختلفة، وهُنا يأتي دور نادي السلام الذي نسعى فيه لتقريب وجهات النظر.
يحدث ذلك عادة من خلال أنشطة مشتركة يخوضها الطلاب. مثل اللعب، زراعة النباتات، لعب الكرة وغيرها، وتكون تلك الاجتماعات عادة في مكان مفتوح.
في النادي نناقش أيضا موضوعات مختلفة، بين التغير المناخي، الإثنية العرقية، النزاعات وكيف يمكننا تجنبها، والعنف الموجود في المدرسة والمجتمع المحلي. ساعد ذلك الطلاب على تقبل أنفسهم أولا، ثم تقبل الآخرين وخلفياتهم.
-في رأيك.. ما الذي يمكن للحكومة الكينية تقديمه لتطوير التعليم؟
عندما عُدت إلى وطني عقب تسلم الجائزة، استقبلني الرئيس الكيني أوهورو كينياتا في نيروبي، أشعرني ذلك باهتمام الرئيس بالتعليم في كينيا وبحال المدرسين.
أعتقد أن التعليم بحاجة لأن يكون الأولوية في الدولة، وأن يتم توفير الدعم الكامل للمعلمين، هم فقط الأقدر على إيصال الطلاب لحلمهم ووضعهم على الطريق. وفي الحقيقة الأمر لا يتعلق بالحكومات فقط، لا في كينيا ولا حول العالم، بل يرتبط بكل وسائل الدعم، من رجال الأعمال، الدولة، منظمات المجتمع المدني، المتطوعين وأصحاب الأفكار الريادية، لو تعاون كل هؤلاء، سنُؤمن للأطفال تعليما جيدا.
-ماذا عنك.. ما أحلامك لنفسك ولوطنك؟
كمدرس علوم والرياضيات، أنا أصدق في العلم والتكنولوجيا، وكيف يلعبان دورا عظيما في تطوير إفريقيا. يمكن لقارتنا إخراج علماء، ومفكرين ورواد، يُنيرون العالم كله. لكن التحدي الصعب أمامنا هو إيجاد طريقة لنضمن بقاء هؤلاء الشباب على الطريق الصحيح للتعلم والتجريب.
فيديو قد يعجبك: