أيام بلا دوران.. كيف يقضي راقصو التنورة الحياة بعد "كورونا" ؟
كتبت-رنا الجميعي:
رسم-سحر عيسى:
منعهم انتشار فيروس الكورونا من الرقص، كان الدوران غايتهم، العالم الآخر الذي يلجأون إليه أمام أعين الناس المُحملقة، غير أن منع التجمّعات جعلت استمرار عملهم مُستحيلًا، ركنوا إلى بيوتهم حتى تزول الغُمّة، ولكن شهر رمضان جاء ليزيد من افتقادهم لرقص التنوّرة التي كانت تتوهج خلال ذلك الموسم خصيصًا، فيما هي مُعلّقة الآن داخل البيت شاهدة على الأزمة، بينما يلزم الأمل نفوس راقصي التنّورة أن لابد من عودة.
منذ بدء حظر التجوال في مارس الماضي وتمارس رضوى سعد الدين التمارين الرياضية يوميًا داخل منزلها "عضمي مفيهوش مرونة، لازم أتمرن عشان أحرك عضلات جسمي"، فرقص التنّورة يحتاج لمجهود بدني وذهني، تقوم بارتداء التنّورة أحيانًا والدوران بها، لأن سرّ الراقص في الدوران "لازم تكنيك وقوة معينة".
تلك الفترة المُستقطعة من سير الحياة الطبيعي جعل رضوى تُعيد تذكر أيامها الأولى في رقص التنورة؛ قبل 2008 لم تعرف رضوى عن التنّورة شيئًا، كانت فنانة استعراضية في فرقة النيل للآلات الشعبية، حتى قابلها راقص التنورة سامي السويسي يومًا قائلًا لها "أنا بكوّن فرقة تنورة بنات، تيجي تتعلمي؟"، لم ترفض رضوى "اشتغلنا شهر ونص، بنات كتير مشيت"، لا يتمكن كثيرون من رقص التنورة "فيه ناس بيجيلهم اغماء أو دوخة"، وهو ما حدث لرضوى أيضًا، لكنّها التزمت بإرشادات مُدربها "ارقصي لحد ما تكسري الدوخة".
حتى نجحت من الدوران بشكل سليم، وبعد التدريبات تمكّنت من الصعود على مسرح بيت السحيمي لتقوم برقصتها الأولى "أنا لسة فاكرة اليوم ده كويس"، كان التوتر يأكلها قبل الحفل، فهي الفتاة الوحيدة التي ستصعد على المسرح، كما نما لعلمها أن والدها قد جاء برفقة والدتها بالخارج "بابا مكنش عارف لسة إني برقص تنورة، فمكنتش عارفة رد فعله"، لكنها أدركت استجابته من التصفيق القادم من صفوف الجمهور مع إنهائها رقصتها "بابا صقفلي"، تقول مُستعيدة نشوة تلك اللحظات.
اليوم تفتح رضوى عيناها فتجد نفسها داخل غرفتها الصغيرة، تتنهد مُفتقدة الحالة التي تتلبسها خلال الدوران "بيطلع طاقة سلبية بشكل مش طبيعي"، كما تفتقد جدولها المُزدحم بالعروض، فمع الوقت صارت رضوى مطلوبة بالاسم، لم يقتصر رقصها بالمراكز الثقافية فقط، بل ذهبت لأبعد من ذلك، فالتنّورة كطقس مصري أصيل حاضرة في العديد من المناسبات، داخل الخيم الرمضانية والمراكب السياحية.
قبل حظر التجول بيوم واحد شغل يوم رضوى حفلتين، إحداهما صباحًا والأخرى مساء، لكنها الآن تجلس في المنزل دونما عمل، ما أثّر عليها ماديًا "خصوصًا في رمضان كان يكفي إني أعمل عرض واحد بس".
داخل المنزل تُحاول رضوى ألا تترك عضلاتها دون تمرين "ممكن أشيل سجاد أوضتي وألف بالتنورة"، حركة تقوم بها كل فترة من كثرة افتقادها لها، مُتذكرة حلاوة تلك الأيام في الأعوام الماضية "كان بيجيي يتفرج عليا ساعات ناس من دور المسنين فكنت أمسك بإيديهم وأخليهم يلفوا بالتنورة"، تحكي رضوى بنبرة شجيّة، لم تكن تكتفي الراقصة الثلاثينية بأداء العرض فقط، بل بالتفاعل مع جمهورها كما حكت "وأحيانًا بيتفرج عليا بنات وولاد من مدارس، كنت أعمل بينهم مسابقة مين اللي يعرف يلف بالتنورة،والبنات هي اللي بتكسب".
كانت رضوى تُمنّي نفسها بعودة الحياة لمجراها مع الوقت، لكن خاب ظنها مع قرارات مجلس الوزراء بالتأكيد على الإجراءات الوقائية الشديدة المُصاحبة لعودة السياحة الداخلية، ومن بينها عدم عودة العروض الفنية "ودا كان الشهر اللي بنظبط فيه لموسم الشغل بتاعنا".
مثلما اشتاقت رضوى للتنورة، نهش الشوق قلب كابتن سامي السويسي، لا يُفكر ليل نهار سوى في التنورة، الفن الذي أغواه منذ 28 عامًا، ولم يزل داخل حباله مُتعلقًا به، فكابتن سامي ليس فقط راقص للتنورة بل مُعلمًا لها، درّب العديدين من بينهم رضوى، زارعًا في نفس كل راقص بأن التنورة ليست مُجرد أداء حركي فقط بل روحي أيضًا، طيلة السنوات لم يتزعزع إيمان كابتن سامي بقيمة الفن الذي يُقدّمه.
لم يحسب كابتن سامي حسابًا لفيروس الكورونا، كان عقله مشغولًا بعرض تنّورة أراد تقديمه على مسرح البالون، لكن انتشار كوفيد-19 جاء ليوقفه عن خططه الفنية، وجلس المدرب كحال كثيرين في البيت، وتعرّض لأزمة مالية إثر ذلك "في حياتي كلها مبعملش غير التنورة".
لم يندم كابتن سامي للحظة على عدم وجود أي مصدر آخر للدخل المادي "أنا عارف إن التنورة اللي يحوش منها مش هيبقى فنان، والفلوس اللي باخدها بصرفها عليها في الآخر"، يتصالح راقص التنورة الخمسيني مع تلك الفكرة، رغم الأزمة التي يُعاني منها الآن، لكنه يظلّ عاشقًا لفنه، حتى في الفترات الطويلة التي يلزم فيها المنزل الآن لا يشغل باله سوى التنورة.
أحيانًا يعود بالذاكرة للوراء، لعام 92 ، حين كان راقصًا للفنون الشعبية، والصدفة كانت سبيله لتعلّم التنورة، حين وجد التنورة أمامه خلال إحدى البروفات، فجرّب الدوران بها والقيام بإحدى الحركات، حتى دُهش صاحب الفرقة مُوجهًا حديثه لراقص التنورة "انت ليه مبتعملش الحركة زي اللي سامي عملها؟"، بعدها بفترة تغيّب راقص التنورة لمدة طويلة، حينها طلب صاحب الفرقة من سامي أن يتدرب على رقص التنورة "وساعتها قالي لف لحد ما تكسر الدوخة، أنا كنت فاكره بخيل عليا ومش عايز يعلمني كويس"، لكن بالفعل كانت تلك النصيحة هي الأساس الذي سار عليه سامي بعد ذلك في تدريباته، ولم ينْس نشوة تلك اللحظات الأولى في الرقص بالتنورة "لقيت التنورة بتديني حاجات يمكن راقصين كتير معرفوش يعملوها".
بعدها بعامين على الأكثر حصل سامي على لقب الراقص الأول، يستعيد تلك الأيام الآن بسعادة، خاصة أن الشهادة كما وصفها "كانت شهادة ميلادي الفني"، حيث كُتب اسمه عليها "سامي السويسي" كونه قادمًا من محافظة السويس، ولم يعرف أحد منذ ذلك الوقت أن اسمه الحقيقي حتى نهايته لا يوجد به كلمة السويسي، لكنه لم يُصحح لأحد ذلك الخطأ الجميل.
التنورة منحت سامي الكثير؛ من بينها المقاومة، تلك الصفة التي يسترجعها الآن في مواجهة تلك الأيام الصعبة، فمع نجاح سامي كراقص تحوّل إلى التدريب، ملكة لا توجد عند كثيرين، ولكنها تبدو ثرية جدًا عند كابتن سامي، فقد منح راقصين دروسًا عظيمة منها المقاومة؛ فعلى الراقص مُجاهدة نفسه عند الدوران "لأن فيه ناس بتدوخ واللي بيرجع، الجسم بيكون ساعتها رافض، الراقص بقى عليه يقاوم الأعراض دي ويكمل"، أما درسه الأساسي للراقصين فهو عن "ازاي نصنع راقص في خلال أيام"، فكابتن سامي يعلم عدد الساعات بالضبط التي يحتاجها لتدريب فرد "62 ساعة في 21 يوم"، كما يحفظ جيدًا تكنيكات التدريب من تحكم الراقص في سرعته وتوازنه "التنورة دي آخر حاجة بتتلبس، المهم يتعلم بمفاصله وعضلاته".
وبسبب أزمة فيروس الكورونا توقّف كابتن سامي عن التدريب، حاليًا يقضي أيامه في رعاية أخته المريضة بالسرطان، وبجانب ذلك يشغل تفكيره مسيرة حياته وماهو قادم، ينتظر العودة سريعًا إلى المسرح، فقد اقتربت فكرته من الاكتمال "دلوقت بجهز الألحان وحتى الفرقة كلها جاهزة للعمل"، وهي تحت رعاية رئيس البيت الفني للفنون الشعبية، دكتور عادل عبده، وقد ظلت تلك الفكرة تختمر كثيرًا داخل كابتن سامي، الذي يؤمن بأن فن التنورة لم يقف عند التراث القادم من تركيا، بل إن المصريين طوروه بذوقهم الخاص "فكرتي بتحكي عن أصل التنورة ايه ووصلنا بيها لفين"، فيما يرسم بخياله شكل الرقصات التي يريد تنفيذها على المسرح "هيكون العرض بين الرقص الصوفي والاستعراضي".
أحيانًا لا يصدّق كابتن سامي الشخص الذي كان عليه قبل الرقص "كنت بشتغل أي حاجة تجيب فلوس"، لكنه ما إن ذاق حلاوة الفن لم يُغادره أبدًا، مُتذكرًا الأيام الصعبة التي مرّ بها، غير أنها لم تترك داخله سوى شعور بالحنين، فيحكيها لمُريديه تلك الأيام "عشان أبقى فنان في مصر كنت بنام في قهوة، ونمت مرة في جنينة الحيوانات وقفلوا عليا وكان عندي عرض أخدتها جري لحد البالون".
الآن يعدّ الكابتن الأيام، مُتلهّف على العودة للمسرح، حتى يرى فكرته أمامه تتحقق "التنورة دي الحاجة اللي وهبت لها حياتي".
فيديو قد يعجبك: